روایة أبی إبراهیم
وممّا استدلّ به للبراءة : ما رواه محمّد بن یعقوب، عن أبی علی الأشعری، عن محمّد بن عبد الجبّار، ومحمّد بن إسماعیل، عن الفضل بن شاذان جمیعاً، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبی إبراهیم، قال: سألته عن الرجل یتزوّج المرأة فی عدّتها بجهالة، أهی ممّن لا تحلّ له أبداً؟
فقال : (لا، أمّا إذا کان بجهالة فلیتزوّجها بعد ما تنقضی عدّتها، وقد یُعذر الناس فی الجهالة بما هو أعظم من ذلک).
فقلت : وبأیّ الجهالتین یُعذر ـ وفی نسخة «تحف العقول» : «أعذر» بدل «یعذر» ـ بجهالة أنّ ذلک محرّم علیه، أم بجهالته أنّها فی العدّة؟
فقال : (إحدیٰ الجهالتین أهون من الاُخریٰ، الجهالة بأنّ الله حرّم ذلک علیه؛
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 269 وذلک بأنّه لا یقدر علیٰ الاحتیاط معها).
فقلت : وهو فی الاُخریٰ معذور؟
قال : (نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور فی أن یتزوّجها).
فقلت : فإن کان أحدهما متعمّداً والآخر یجهل؟
فقال : (الذی تعمّد لا یحلّ له أن یرجع إلیٰ صاحبه أبداً).
أقول : إن کانت العبارة «یُعذر» بصیغة المضارع المجهول، فمعناها: أنـّه بأیّهما هو معذور؟
وإن کانت العبارة بصیغة أفعل التفضیل فمقتضاها أنـّه فهم: أنـّه فی کلتا الجهالتین معذور، ولکن سأل عن أنّه أیّتهما أولیٰ بالعذر؟ یعنی سببیّتها للعذر.
ویرد علی الاستدلال بالروایة بناء علیٰ أنّ العبارة «أعذر» : أنّ الظاهر من الروایة أنـّها فی مقام بیان الحکم الوضعی؛ أی عدم حرمة المرأة المذکورة علیه أبداً، وصحّة تزویجها بعد العدّة، والحکم الوضعی غیر قابل للزیادة والنقصان والشدّة والضعف حتّیٰ یعبَّر عنه بصیغة «أفعل التفضیل»، بل الأمر فی الحکم الوضعی دائر بین الوجود والعدم : فإمّا هو موجود ومتحقّق، وإمّا معدوم، وفی صورة الوجود لیس قابلاً للشدّة والضعف والزیادة والنقصان.
ویمکن الجواب : بأنّ الأحکام الوضعیّة وإن کانت کذلک، لکن یمکن أن یقال: إنّ منشأها هی الأحکام التکلیفیّة، فحیث إنّه فی صورة العلم بأنّها فی العدّة وبحرمة نکاحها ـ حینئذٍ ـ یکون قد ارتکب أمراً محرّماً فحرمت علیه المرأة مؤبّداً، وفی صورة الجهل بهما أو بأحدهما لم یرتکب فعلاً محرّماً تکلیفیّاً فعلیّاً لم تحرم علیه مؤبّداً، فیصحّ له تزویجها بعد انقضاء عدّتها، والحکم التکلیفی قابل للأعذریّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 270 عرفاً؛ لأنّ الجاهل الغافل الغیر الملتفت أصلاً أعذر عند العرف والعقلاء من الجاهل الشاکّ الملتفت المتردّد، المرتکب لمشکوک الحرمة؛ لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، وحینئذٍ فالأعذریّة باعتبار الحکم التکلیفی الذی هو منشأ انتزاع الحکم الوضعی منه.
وأمّا حکمه علیه السلام بأهونیّة الجهل بالحرمة؛ معلِّلاً: بأنّه لا یقدر معه علی الاحتیاط، فیمکن توجیهه: بأنّ الغالب من الناس إذا أرادوا التزویج بامرأةٍ یتفحّصون عن حالها، وأنّها فی العدّة أو لا، أو عن انقضاء عدّتها وعدمه، والاحتیاط ـ حینئذٍ ـ ممکن بالتفحّص عن ذلک لأجل التردّد ، وأمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی فالغالب غفلة الناس عنه أو عن بعض خصوصیّاته وفروعاته، کالحکم بأنّ اُولات الأحمال أجلهنّ أن یضعن حملهنّ، أو أنّ عدّة الحامل المتوفیٰ عنها زوجها أبعد الأجلین؛ من أربعة أشهر وعشر ووضع حملهنّ، ومع الغفلة عن ذلک لا یتمکّن من الاحتیاط.
ولکن یرد علیه : أنّ الرجل المذکور: إمّا غافل عن ذلک رأساً فهو لا یقدر علی الاحتیاط؛ من غیر فرق فی ذلک بین الجهل بالحکم أو الموضوع، وإمّا متردّد فی ذلک، فهو قادر علی الاحتیاط بالفحص؛ من غیر فرق فیه بین الجهل بالحکم والموضوع أیضاً، وحینئذٍ فالتوجیه المذکور غیر وجیه.
والحقّ : أنّا وإن لم نسلّم ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره سابقاً: من أنّ ظاهر قوله: (بجهالة) هو الجهل مع الغفلة فی جمیع المواد، لکن الظاهر من الجهالة هنا هو الجاهل الغیر الملتفت، فلا یشمل المتردّد، فالروایة ـ حینئذٍ ـ أجنبیّة عمّا نحن فیه.
ومنه یظهر : فساد ما ذکره المحقّق العراقی؛ حیث تمسّک هنا بإطلاق قوله علیه السلام : (وقد یُعذر الناس...) فی المقام، فکأنّه قدس سره زعم أنّ لفظة «قد» هنا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 271 للتحقیق، مع أنّها فی مقام التعلیل.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 272