عنوان «النسیان»
فمنها النسیان : وهو قد یتعلّق بالحکم الشرعی الاستقلالی، وقد یتعلّق بالحکم الضمنی، وقد یتعلّق بالحکم الوضعی، مثل الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة، أو العربیّة والماضویّة فی العقد.
وقد یتعلّق بالموضوع الخارجی : إمّا بنفس الموضوع، کما لو نسی الإتیان بالصلاة، وإمّا بجزئه أو شرطه أو مانعه، کما لو نسی السورة أو الطهارة أو أوجد المانع نسیاناً.
أمّا نسیان الحکم : فقد تقدّمت الإشارة إلیٰ أنّه فی صورة الغفلة عن الحکم رأساً رفعه عقلیّ؛ بمعنیٰ رفع المؤاخذة عنه، وأنّه لا یختصّ ذلک بهذه الاُمّة، فلابدّ فی تصحیح الحکم برفعه شرعاً فی خصوص الاُمّة المرحومة امتناناً علیهم، أن یفرض ذلک فیما لا یحکم العقل بقبح المؤاخذة علیه، کما فی النسیان الناشئ عن المسامحة وقلّة المبالاة وترک التحفّظ وتقصیر المکلّف، فإنّه یصحّ ـ حینئذٍ ـ ادّعاء رفعه شرعاً بانتفاء الآثار المترتّبة علیه فی الشرائع السابقة من المؤاخذة وإیجاب التحفّظ.
وأمّا النسیان المتعلِّق بالجزء والشرط وغیرهما، فلابدّ من البحث فیه فی مقامین:
الأوّل : فی شمول حدیث الرفع لجمیع الأقسام أو بعضها أو عدم شموله.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236 الثانی : فی الإجزاء بعد فرض شمول الحدیث لجمیع الأقسام.
وهذان المقامان ممّا وقع الخلط بینهما فی کلام المیرزا النائینی والمحقّق العراقی ـ قدس سرهما ـ ولکن لابدّ من التفکیک بینهما فنقول :
أمّا المقام الأوّل : فذهب المیرزا النائینی قدس سره إلی شمول الحدیث لما إذا نسی الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة وما إذا نسی المانع، دون ما إذا نسی الجزء أو الشرط لوجوه:
الأوّل : ما تقدّم من أنّ الحدیث لا یشمل رفع الاُمور العدمیّة؛ لأنّ رفع العدم وضع، والحدیث لا یتکفّل الوضع، والمفروض أنـّه لم یأتِ بالجزء أو الشرط، وخُلوّ صفحة الوجود عنهما.
الثانی : أنّ الآثار المترتّبة علی الجزء والشرط لیست إلاّ الإجزاء وصحّة الصلاة والعبادة، وهما من الآثار العقلیّة له لا الشرعیّة، ویحتاج الرفع التشریعی إلیٰ الأثر الشرعی.
الثالث : أنّه مع الغضّ عن ذلک لا یمکن أن یقال : إنّ رفع السورة المنسیّة إنّما هو بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحّة، فإنّ ذلک یقتضی عدم الإجزاء وفساد العبادة، وهو یُنافی الامتنان، ویُنتج عکس المقصود، فإنّ المقصود من التمسُّک بحدیث الرفع تصحیح العبادة لا فسادها.
أقول : قد تقدّم الجواب عمّا ذکره فی وجه اختصاص الحدیث برفع الاُمور الوجودیّة وعدم شموله للاُمور العدمیّة، ونقول ـ أیضاً ـ : إنّ متعلّق النسیان فی الفرض هو وجود السورة أو الشرط لا عدمهما، والرفع هنا ادّعائیّ، ولا إشکال فی صحّة ادّعاء رفع المنسیّ، وهو الجزء والشرط بلحاظ الجزئیّة والشرطیّة، ولم یتعلّق
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237 بالأمر العدمی، وقد عرفت أنّ الرفع فی الحدیث متعلّق بکلّ واحد من العناوین الکلّیّة ـ ومنها عنوان النسیان ـ لا الأفراد الخارجیّة منها التی تنطبق علیها هذه العناوین، وحینئذٍ فیندفع جمیع الوجوه التی ذکرها قدس سره فإنّ ادّعاء رفع السورة بلحاظ جزئیّتها عند النسیان تقتضی الإجزاء والصحّة، فلا ینتج خلاف المقصود والامتنان، والجزئیّةُ والشرطیّة ـ أیضاً ـ من الآثار الشرعیّة.
نعم هنا إشکال آخر : وهو أنّ الجزئیّة والشرطیّة من العناوین المنتزعة عن الأمر المتعلّق بالصلاة المرکّبة من أجزاء عشرة ـ مثلاً ـ فینتزع منه جزئیّة کلّ واحد من الأجزاء، ورفع الجزئیّة والشرطیّة لا یصحّ إلاّ برفع منشأ انتزاعها، وهو الأمر الکلّی المتعلّق بالمرکّب، ومقتضیٰ رفعه عدم الصحّة والإجزاء، وهو خلاف المقصود والامتنان.
ولکنّه مندفع :
أمّا أوّلاً : فلأنّ التحقیق أنّ الجزئیّة والشرطیّة من الأحکام الوضعیّة التی هی مجعولة مستقلاًّ، ولیست من الاُمور المنتزعة.
وثانیاً : أنّ حدیث الرفع لیس إلاّ مثل حدیث (لاتُعاد...) وأدلّة نفی العسر والحرج؛ فی حکومة کلّ واحد منها علیٰ الأدلّة المتکفّلة لبیان الأحکام الأوّلیّة، وتخصیص الأمر الصلاتی المتعلّق بعشرة أجزاء مثلاً بغیر الناسی للجزء أو الشرط، ومقتضاه صحّة الصلاة وإجزاؤها مع نسیانه.
وأمّا الکلام فی المقام الثانی : وهو إجزاء الصلاة المأتیّ بها المفروض نسیان جزئها أو شرطها:
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 238 فقال المیرزا النائینی والمحقّق العراقی ـ قدس سرهما ـ : إنّ النسیان لو لم یستوعب جمیع الوقت، وتذکّر قبل خروج الوقت، فلا یقتضی حدیث الرفع عدم وجوب الإعادة بعد التذکّر وإِجزاء المأتیّ به؛ لأنّ حدیث الرفع لا یدلّ إلاّ علیٰ رفع جزئیّة المنسیّ ما دام النسیان، وأمّا بعد التذکّر فلا یدلّ علیه، فمقتضیٰ عدم إتیانه بالمرکّب التامّ بعد التذکّر، وبقاء المصلحة الواقعیّة التامّة الداعیة إلیٰ المرکّب التامّ الغیر المستوفاة، هو حدوث التکلیفِ بالإعادة والأمرِ بالمرکّب التامّ جدیداً. انتهیٰ.
وممّا ذکرنا ظهر ما فیه؛ حیث عرفت أنّ مقتضیٰ حکومة الحدیث علیٰ الأدلّة الأوّلیّة المتکفّلة للأحکام الواقعیّة هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة فی الفرض، ولیس هنا أمران تعلّق أحدهما بعشرة أجزاء بالنسبة إلیٰ الذاکر، وبتسعة أجزاء بالنسبة إلی الناسی، بل لیس فیه إلاّ أمر واحد، وهو «أَقِم الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلیٰ غَسَقِ اللّیْلِ» لجمیع المکلّفین، ویدلّ حدیث الرفع علیٰ أنّ جزئیّة المنسیّ ساقطة بالنسیان، ومقتضیٰ سقوطها عن الجزئیّة، هو کفایة الإتیان بسائر الأجزاء وعدم وجوب الإعادة بعد التذکّر، وإلاّ فلیس لجمیع المکلّفین ـ القادرین والعاجزین والذاکرین والناسین وغیرهم ـ إلاّ أمر واحد متعلّق بطبیعة الصلاة، وکلّ یمتثل ذلک الأمر.
نعم لو نسی الإتیان بأصل الصلاة فحدیث الرفع إنّما یرفع المؤاخذة علیه، ولا یرفع وجوب الإتیان بها فی الوقت ووجوب قضائها خارج الوقت بعد التذکّر؛ لعدم إتیانه بشیء حتیٰ یحکم بإجزائه؛ لأنّ المفروض أنّه ترکها بالکلّیّة.
وظهر ممّا ذکرنا ـ أیضاً ـ ما فی کلام المیرزا النائینی قدس سره : من أنّه کما لو نسی أصل الصلاة لا یقتضی حدیث الرفع الإجزاء، وعدمَ وجوب الإتیان بها فی بقیّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 239 الوقت بعد التذکّر، کذلک لو ترک جزءً منها.
وذلک لما عرفت من الفرق بینهما، فإنّه لم یأتِ فی الأوّل بشیءٍ حتیٰ یحکم بالإجزاء، بخلاف الثانی، فإنّ المفروض أنّه أتیٰ بالصلاة، لکن نسی جزءً منها أو أکثر غیر الأرکان؛ بحیث یصدق علیها الصلاة.
وقال المحقّق العراقی فی باب الاشتغال : إنّ المکلّف لم یترک طبیعة الحمد ـ مثلاً ـ نسیاناً حتّیٰ یقتضی حدیث الرفع الإجزاء، بل المفروض أنّه نسی فرداً منها، ولا یقتضی نسیانُه الإجزاء.
وفیه : أنّه لاریب فی أنّ الناسی إنّما نسی طبیعة الحمد، لا فرداً منها.
وأمّا ما أفاده المیرزا النائینی قدس سره: من أنّه إن کان المدرک لصحّة الصلاة الفاقدة لجزء أو شرط نسیاناً هو حدیث الرفع، لزم صحّة الصلاة بمجرّد نسیان الجزء أو الشرط مطلقاً من غیر فرق بین الأرکان وغیرها؛ لعدم إمکان استفادة التفصیل بینهما من حدیث الرفع.
ویؤیّد ذلک : أنـّه لم یُعهد من الفقهاء التمسُّک بحدیث الرفع لصحّة الصلاة وغیرها من سائر المرکّبات، بل المتمسَّک به لها هو خبر (لاتعاد) المفصِّل بین الأرکان وغیرها من الأجزاء والشرائط.
ففیه : أنّه لیس حدیث الرفع ممّا لا یقبل التخصیص، ولیس المراد التمسّک بحدیث الرفع لصحّة الصلاة مع نسیان مطلق الأجزاء والشرائط بدون استثناء وتخصیص، فإنّه عامّ یمکن تخصیصه بغیر الأرکان بحدیث (لاتعاد...)، بل خبر (لاتعاد) ـ أیضاً ـ مخصَّص بغیر تکبیرة الإحرام.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 240 وأمّا ما ذکره : من عدم معهودیّة التمسّک بحدیث الرفع فی المقام من الفقهاء.
ففیه : أنّه تمسّک السیّد المرتضیٰ قدس سره فی مسألة نسیان السلام بحدیث الرفع، وحکم بکلّیّة ذلک فی الأحکام ـ علیٰ ما ببالی ـ وکذلک السیّد أبو المکارم ابن زهرة والعلاّمة والمقدّس الأردبیلی ـ قدّست أسرارهم ـ هذا کلّه فی العبادات.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 241