الفصل العاشر فی الموافقة الالتزامیّة
قال فی «الکفایة» هل تنجُّز التکلیف بالقطع، کما یقتضی موافقته عملاً، یقتضی موافقته التزاماً والتسلیم له اعتقاداً وانقیاداً، کما هو اللازم فی الاُصول الدینیّة والاُمور الاعتقادیّة؛ بحیث کان له امتثالان وطاعتان: إحداهما بحسب القلب والجنان، والاُخریٰ بحسب العمل بالأرکان، فیستحقّ العقوبة علیٰ عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً أولا، ثمّ اختار الثانی بشهادة الوجدان الحاکم فی باب الإطاعة والعصیان بذلک، وذکر ذلک غیره أیضاً.
وقبل الخوض فی هذا البحث لابدّ من بیان ما أهملوه وغفلوا عنه فی المقام: وهو أنّه هل یمکن تعلُّق حکم بالانقیاد والتسلیم القلبی فی مقام الثبوت، أولا؛ لخروجه عن تحت القدرة والاختیار؟
وتوضیحه یتوقّف علیٰ رسم مقدّمات :
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 59 المقدّمة الاُولیٰ : أنّ الأحکام علیٰ قسمین :
أحدهما : ما یتعلّق بالعمل الجوانحی، المطلوب فیها الاعتقاد وعقد القلب والانقیاد.
ثانیهما : ما یتعلّق بالعمل الجوارحی، المطلوب منها العمل بالأرکان فی الخارج.
والاُولیٰ منها : إمّا عقلیّة محضة، ولا سبیل للنقل إلیها، وطریقُ إثباتها : إمّا البرهان الدقیق العقلی، مثل إثبات وجود الباری ـ تعالیٰ وتقدّست أسماؤه ـ وأنّ لهذه المصنوعات والمخلوقات صانعاً وخالقاً، وکذا توحیده ونفی الشریک عنه.
وإمّا ثابتة بالضرورة من الدین أو المذهب، مثل أصل وجود الجنّة والنار والحساب ونحوها وبعض خصوصیّاتها، وإمّا بالآیات الصریحة والأخبار المتواترة أو المفیدة للقطع والیقین.
وأمّا القسم الثانی : أی الأحکام المطلوب منها العمل الجوارحی، فطریق إثبات بعضها الضرورة من الدین أو المذهب، وبعضها بالإجماع القطعی أو الأخبار المتواترة والأخبار المعتبرة والآیات القرآنیّة.
المقدّمة الثانیة : أنّ الخوف والرجاء ونحوهما من الکیفیّات والأحوال العارضة للنفس، منها ما لیست تحت القدرة والاختیار؛ بحیث یمکن للنفس إیجادها متیٰ شاءت وإعدامها کذلک، بل هی تابعة لمبادیها الکامنة فی صُقع النفس، وتدور مدارها وجوداً وعدماً، فلا یمکن للنفس إیجاد الخوف فی ذاتها مع عدم وجود مبادیه فیها، ولا یمکن لها إعدامه مع وجود مبادیه فیها، نعم یمکن إیجاد نفس مبادیه بالتأمّل والتدبُّر.
المقدّمة الثالثة : هل الانقیاد والتسلیم القلبی بوجوب الواجبات وحرمة المحرَّمات، وکذلک ما تقدّم من الأحکام المطلوب منها الانقیاد والاعتقاد، من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 60 الأفعال الاختیاریّة للنفس؛ بحیث تتمکّن من إیجادها وإیجاد ما یضادّها؛ بأن تنقاد وتعتقد وجوب ما علمت حرمته أو بالعکس، أو أنّ ذلک لیس من أفعالها الاختیاریّة، بل تدور مدار مبادیها الکامنة فی النفس وجوداً وعدماً، نظیر الخوف والرجاء ونحوهما؟
فذهب سیّد مشایخنا ـ السیّد علی الفشارکی ـ إلیٰ إمکان ذلک، وحاصل ما استدلّ به علیٰ ذلک:
هو أنّه کما یمکن التجزُّم الذی هو المناط فی کذب القضایا ـ کما أنّ المناط فی الصدق الجزم بما أخبر به ـ فکذلک الالتزام والانقیاد بما لیس مأموراً به ـ مثلاً ـ فکما یمکن تکلُّف الجزم بشیء مع عدمه، فکذلک فیما نحن فیه. انتهیٰ.
وفیه : أنّ هذا أوّل الکلام، ولیس المناط فی صدق القضایا وکذبها الجزم والتجزّم، بل المناط فیهما إلقاء المخاطب فیما هو الواقع أو خلافه، مع استعمال مفردات القضیّة فی معناها الحقیقی، ولذا لو أخبره بنحو الاحتمال والتردید لم یکن کذباً؛ لأنّه لم یُلقِهِ ولم یُوقعه فی خلاف الواقع.
واستدلّ بعض المحقّقین من المحشّین ـ الشیخ محمد حسین الأصفهانی قدس سره ـ علیٰ ذلک بما حاصله :
أنّ الالتزام الباطنی لیس من مقولة الکیف النفسانی؛ لأنّ المفروض أنّه من أفعال النفس، ولا من مقولة الفعل؛ لأنّها عبارة عن الحالة الحاصلة للشیء عند تأثیره التدریجی فی غیره، کالتسخین للنار، فی قبال الحالة الحاصلة من التأثّر التدریجی، والالتزام الباطنی لیس کذلک؛ لأنّه لیس هنا شیئان لأحدهما حالة التأثیر التدریجی وللآخر حالة التأثر التدریجی، بل الفعل القلبی ضرب من الوجود النوری، والوجود فی مقابل المقولات، وهذا الفعل قائم بالنفس قیاماً صدوریّاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 61 وبالجملة : الأفعال القلبیّة اُمور یُدرکها الوجدان، فإنّ الإنسان کثیراً ما یعلم بأهلیّة المنصوب من قِبَل من له النصب، لکنّه لاینقاد له قلباً، ولا یُقِرّ به باطناً؛ لخباثة نفسه أو لجهة اُخریٰ، وإن کان فی مقام العمل یتحرّک بحرکته خوفاً من سطوته، وهکذا حال کثیر من الکفّار بالنسبة إلیٰ نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم حیث إنّهم مع علمهم بحقیّته ـ کما نطق به القرآن ـ لم ینقادوا له قلباً، ولم یُقرّوا به باطناً، ولو کان ملاک الإیمان الحقیقی نفس العلم التصدیقی، لزم کونهم مؤمنین حقیقة، أو جعل الإیمان ـ الذی هو أکمل الکمالات ـ مجرّد الإقرار باللسان، وکلاهما ممّا لا یمکن الالتزام به.
أقول : أمّا ما ذکره : من أنّ الالتزام الباطنی من أفعال النفس، فهو مجرّد دعویٰ یمکن دعویٰ خلافه.
وأمّا ما ذکره من أنّه ضربٌ من الوجود النُّوری... إلیٰ آخره.
ففیه : أنّه إمّا وجود مطلق لا ماهیّة له، أو وجود محدود له ماهیّة أصیلة فی قِبال الانتزاعیّات، لا سبیل إلیٰ الأوّل، فلابدّ من أن یکون من الموجودات المحدودة له ماهیّة أصیلة، وکلُّ ما له ماهیّة فهو داخل تحت إحدیٰ المقولات لیس خارجاً عنها.
وأمّا ما ذکره من أنّ الإنسان کثیراً ما یعلم بأهلیّة المنصوب ... إلیٰ آخره.
ففیه : أنّه لو علم الإنسان بنبوّة شخصٍ من قِبَل الله تعالیٰ علماً قطعیّاً، امتنع الالتزام القلبی بعدم نبوّته، وأنّه لیس منصوباً من قِبَله تعالیٰ. نعم یمکن توهُّم ذلک ومجرّد تصوُّره ، لکنّه غیر الانقیاد القلبی والموافقة وخلافهما.
وأمّا حال کثیر من الکفّار بالنسبة إلیٰ نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم فإنّهم مع علمهم بحقیقته ونبوّته ونصبه من قِبَل الله تعالیٰ، یجحدون نُبوّته لفظاً ولساناً وبالبناء العملی، وإلاّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 62 فمع العلم المذکور یمتنع الالتزام القلبی بعدم نبوّته وعدم نصبه من قِبَل الله تعالیٰ، وهو غیر الجَحْد اللفظی الذی ینشأ من العداوة الکامنة فی نفوسهم له صلی الله علیه و آله وسلم حیث إنّ العلم ذو مراتب متفاوتة، فإنّ علم الأنبیاء بوجوده تعالیٰ ـ وکذلک المعصومین ـ فی مرتبةٍ کأنّهم یرونه تعالیٰ حاضراً وناظراً، والعصمة مُعلَّلة بهذا العلم، بخلاف العلوم الحاصلة لنا، فإنّه وإن لم یمکن الالتزام بخلافها ـ أیضاً ـ إلاّ أنّه قد یُخالفه عملنا، وکذلک قد یَجحد لفظاً ولساناً قال تعالیٰ: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً»، فالمراد منها ما ذکرناه، ولا إشکال فی إمکان ذلک، لکن لا ارتباط له بالمقام.
والتحقیق : أنّ الانقیاد والموافقة الالتزامیّة من الحالات النفسانیّة التی تدور مدار مبادیها، وهی العلم وجوداً وعدماً، ولا یمکن وجودُها وتحقّقها مع عدم مبادیها، وعدمُها مع وجودها، کما أنّه کذلک فی التکوینیّات، فکما أنّه لو علم تفصیلاً بأنّ هذا زید لم یمکن الالتزام بأنّه لیس بزید قلباً، وکذلک لو علم إجمالاً بأنّ هذا أو ذاک زید، فلا یمکن له الالتزام القلبی بأنّه لیس واحداً منهما، فکذلک فی الأحکام.
ثمّ إنّه هل یکون من قِبَل لزوم الالتزام مانع عن جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی؛ علیٰ فرض جریانها فیها مع قطع النظر عن هذه الجهة، أو أنّ جریان الاُصول رافع لوجوب الموافقة الالتزامیّة، أو أنّه لا ارتباط لأحدهما بالآخر؟ وجوه:
والحقّ : هو الأخیر؛ وذلک لأنّه کما أنّ المفروض أنّه لا مانع من جعل حکمٍ واقعیٍّ لشیءٍ بعنوانه الواقعی الأوّلی، وجعل حکمٍ ظاهریّ له بعنوان أنّه مشکوک الحکم أو مجهوله، ولا تنافی بین القطع بالحکم الواقعی إجمالاً وبین القطع بالحکم الظاهری، فکذلک لا تنافی بین لزوم الموافقة الالتزامیّة بالحکم الواقعی، وبین
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 63 جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی، بل بین الالتزام بالحکم الواقعی وبین الالتزام بالحکم الظاهری أیضاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 64