بحث استطرادی حول الطلب والإرادة
وأمّا ما ذکره هنا وفی باب الطلب والإرادة : من أنّ السعادة والشقاوة والخبث الباطنی من ذاتیّات الإنسان، والذاتی لایُعلَّل فهو ـ أیضاً ـ فاسد.
وتوضیح الفساد یحتاج إلیٰ تقدیم اُمور :
الأمر الأوّل : أنّ المفاهیم فی العالَم علیٰ ثلاثة أقسام :
قسم یحکی عن حقیقة، مثل مفهوم الوجود، فإنّه حاکٍ عن حقیقته.
وقسم یحکی عمّا لیس له حقیقة، مثل مفهوم العدم.
وقسم لا یحکی عن ذا ولا ذاک، مثل مفاهیم الماهیّات، کمفهوم الإنسان.
الأمر الثانی : المحمول فی کلّ قضیّة: إمّا ضروریّ الثبوت لموضوعها، ولا ینفکّ عنه، وإمّا ممتنع الثبوت له، وإمّا ممکن الثبوت له، ولا تخلو قضیّة من القضایا عن إحدیٰ هذه الجهات، والحصر عقلیّ لا رابع لها، والقضایا والجهات المذکورة فی المنطق من شعب هذه الثلاث.
الأمر الثالث : کلّ ما هو ضروریّ لشیء لا یُعلّل؛ لأنّه ذاتیّ له، ولا یمکن أن تناله ید الجعل، إلاّ أنّه فی ضروریّ الوجود لأجل أنّه فوق الجعل وأجلّ من أن تناله ید الجاعل، وفی ضروریّ العدم لأجل أنّه دون الجعل وأدون من أن تناله ید الجاعل، وکلّ ما یمکن ثبوته لشیء فهو معلَّل فی الواقع، محتاج إلیٰ الجعل، فمناط الافتقار إلیٰ الجعل هو الإمکان الذی هو عین الفقر إلیٰ العلّة، والوجوب عین الاستغناء عن العلّة.
إذا عرفت هذه الاُمور فنقول : لو لاحظنا صفحة الوجود نعلم أنّه لیس فی عالم الکون ما وجوده ضروریّ الثبوت له؛ بدون الاحتیاج إلیٰ العلّة والجعل، إلاّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 34 وجود واجب الوجود تعالیٰ، فإنّ الوجود ضروریّ الثبوت له تعالیٰ، وفوق أن تناله ید الجعل ولا یحتاج إلی العلّة، فإنّه عین التحقّق، وأمّا سائر الموجودات ـ غیر الحقّ تعالیٰ ـ فلیس فیها ما وجوده ضروریّ الثبوت له، بمعنی استغنائها عن العلّة والجعل، وإلاّ لکان شریکاً له تعالیٰ، والبرهان القاطع قائم علیٰ استحالته، فثبت أنّ الوجود الذی هو ضروریّ الثبوت للذات، ومستغنٍ عن العلّة والجعل، هو وجود واجب الوجود فقط لیس إلاّ، وأنّ وجود سائر الموجودات ممکن الثبوت لذواتها؛ یحتاج إلیٰ العلّة والجعل، وأمّا الماهیّات فذاتها وذاتیّاتها ولوازم ذاتها ضروریة الثبوت لها؛ بمعنیٰ أنّ ثبوتها لها لا یحتاج إلیٰ الجعل المستقلّ، بل هی مجعولة بجعلها، فهی لا تُعلّل، لکنّها ذاتها مع ذاتیّاتها ولوازم ذاتها اُمور اعتباریة.
وحینئذٍ فإن أراد قدس سره أنّ السعادة والشقاوة من ذاتیّات ماهیّة الإنسان أو لوازم ذاتها، ومع ذلک هما منشآن للآثار من الطاعة والمعصیة والقرب والبعد، فقد عرفت أنّ الماهیّة وذاتیّاتها ولوازم ذاتها، وإن لم تکن مجعولة بجعلٍ مستقلّ، لکنها اُمور اعتباریّة لایمکن أن تصیر منشأً للآثار.
وإن أراد أنّهما من سِنْخ الوجود، ونحو من أنحائه، وضروریّا الثبوت للإنسان، فهو یستلزم أن یوجد فی عالم الکون ما هو وجود ضروریّ لذاته سویٰ الحقّ تعالیٰ، وتقدّم أنّ البراهین القاطعة قائمة علیٰ امتناع ذلک، وأنّه تعالیٰ واحد لا شریک له.
وإن أراد أنّ السعادة والشقاوة من لوازم الوجود للإنسان لا لماهیّته، ففیه:
أوّلاً : أنّ لوازم الوجود معلَّلات، وعللها هی ملزوماتها، فلا یصحّ ما ذکره: من أنّه لا تعلّل ذلک، ولا یُناسبه أیضاً.
وثانیاً : لایمکن الالتزام بذلک، فإنّ لوازم الوجود دائمة اللزوم له؛ لاتنفکّ عنه أصلاً کالحرارة للنار، ولو کانت السعادة والشقاوة کذلک، لَلَزم أن یصدر الحسن من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35 السعید والقبیح عن الشقیّ دائماً حتّیٰ فی حال النوم، فیلزم أن یکون الشقیّ مُتجرِّیاً وعاصیاً دائماً، والسعید مطیعاً کذلک، ولا یصدر من السعید القبیح أصلاً، مع أنّا نریٰ بالعیان خلافه.
فالحق : أنّ السعادة والشقاوة أمران اعتباریّان منتزعان عن الأفعال الصادرة من المکلّف، وأنّ المکلّف الصادر منه الأفعال الحسنة الحمیدة بإرادته واختیاره یُطلق علیه السعید، والصادر منه الأفعال الذمیمة القبیحة کذلک یطلق علیه الشقیّ، وهو معنیٰ (السعیدُ سعیدٌ فی بطن اُمّه، والشقیُّ شقیٌّ فی بطن اُمّه)، فإنّا لو علمنا أنّ الحمل فی بطن اُمّه إذا تولّد وبلغ، یصدر منه الأفعال الحسنة الحمیدة أو الذمیمة القبیحة، علمنا أنّه سعید أو شقیّ.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36