استدلال القائلین بجواز التقلید عن غیر الأعلم
إذا عرفت هذا ، فنقول : الکلام فی تقلید غیر الأعلم ، تارة : مع موافقته للأعلم ، واُخری : مع احتمال المخالفة ، وثالثة : مع القطع بها إجمالاً ، ورابعة : مع العلم بها تفصیلاً فی خصوص ما هی محلّ الابتلاء .
والظاهر جواز الرجوع بنظر العقلاء إلی غیر الأعلم فی جمیع الصور .
نعم ، یکون الرجوع إلی الأعلم حسناً لدیهم من باب الاحتیاط غیر الملزم ، ولذا یعدلون من الطبیب الأعلم إلی غیره بأدنی موجب وباعث ، کردائة أخلاق الأعلم أو بعد المسافة من مطبّه أو کثرة طمعه فی الاُجرة أو کثرة المراجعین إلیه ، ولا یذمّهم أحد علی هذا العدول ویرونه عقلائیاً ، مع أنّ صحّة البدن والمزاج من أهمّ المطالب وعلی الإنسان أن یفدی جمیع ماله ووقته فی تحصیل ذلک ویکون حفظ البدن أهمّ فی نظره بمراتب من تحصیل الحکم الشرعی ، فلو کان الرجوع إلی الأعلم عندهم ذا مصلحة ملزمة لکان یجب علیهم الرجوع إلیه
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 446 بأیّ طریق کان ولمّا کانوا یعدلون عنه بأدنی باعث ؛ فیعلم من ذلک أنّ اللازم عندهم أصل المراجعة إلی الطبیب ، وأمّا الأعلم فیکون الرجوع إلیه عندهم ذا مزیّة غیر ملزمة یعدل عنه بأدنی سبب .
وإن شئت قلت : إنّ الرجوع إلی غیر الأعلم إمّا أن لا یجوز مطلقاً أو یجوز حتّی مع المعارضة ، والأوّل باطل قطعاً ، ولذا لو انحصر المجتهد أو الطبیب فی غیر الأعلم لرجعوا إلیه وألقوا احتمال مخالفته للواقع فیتعیّن الثانی . وجه الملازمة أنّ غیر الأعلم إمّا أن یوجد فیه ملاک الرجوع إلی الغیر من کونه مصیباً فی الأغلب بنظرهم وکون احتمال مخالفته للواقع نادراً وضعیفاً بحیث یعدّ کالعدم ، أو لا یوجد فیه الملاک ، فإن وجد فیه الملاک جاز الرجوع مطلقاً وإن لم یوجد لم یجز مطلقاً ، وحیث إنّ الملاک موجود فیه قطعاً ، ولذا یرجع إلیه حین انحصار الطبیب فیه فیجوز الرجوع إلیه مع وجود الأعلم ومخالفة فتواه أیضاً وکون احتمال مخالفة الأعلم للواقع أضعف وأندر لا یوجب تعیّن الرجوع إلیه بعد اشتراکهما فی أصل الملاک وهو ندرة المخالفة للواقع .
نعم ، یوجب الأندریة والأضعفیة الاحتیاط ، ولکنّه غیر لازم بعد تحقّق الملاک فی کلیهما . وقد عرفت : أنّ الملاک فی الرجوع إلی الغیر لیس إلاّ غلبة المطابقة للواقع وندرة مخالفته وضعف احتمالها .
فإن قلت : الداعی إلی الرجوع إلی غیر الأعلم فی صورة الانحصار هو الانسداد وعدم التمکّن من الغیر .
قلت : قد عرفت أنّ الانسداد لیس ملاکاً فی ارتکاز العقلاء ، ولذا یراجعون إلی غیر الأعلم عند الانحصار حتّی مع التمکّن من الاحتیاط .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 447 وبالجملة : فبناؤهم قد استقرّ علی الرجوع إلی الطبیب الحاذق حتّی فی الاُمور المهمّة ولو کان فی البین أحذق منه وربّما یعدلون من الأخلاق إلی الحاذق بأدنی سبب مع أنّ السبب الأدنی لا یکفی فی الرجوع عمّا له ملاک ملزم فیعلم من ذلک عدم اللزوم .
نعم ، لا یرجعون إلی الطبیب غیر الحاذق الذی لا یعدّ فی العرف طبیباً إلاّ مع الضرورة ؛ والانسداد؛ وکلامنا لیس فی مثله من المجتهد المتجزّی غیر البصیر .
هذا وأمّا فی صورة توافق رأی الأعلم وغیره فالأمر أوضح ، إذ التقلید لا موضوعیة له وإنّما المقصود إحراز الواقع .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ موافقة الأعلم له صار موجباً للاطمئنان به ، فیکون العبرة بالأعلم ویکون الرجوع إلیه فی الحقیقة ، ولذا یضطرب النفس عند تخالفهما فنفس غیر الأعلم لا طریقیة لقوله إلاّ أن یقال بالرجوع إلیه مطلقاً ، کما تبیّن تقریبه . والحاصل : أ نّه إمّا أن یجوز الرجوع إلیه مطلقاً أو لا یجوز حتّی مع الموافقة ، هذا ممّا یرجع إلی بناء العقلاء .
وربّما یتمسّک لجواز التقلید وعدم اشتراط الأعلمیة أیضاً بقوله تعالی : «وَمَا کَانَ الْمُؤمِنُونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ» .
والاستدلال بها یتوقّف علی اُمور :
الأوّل : أن یجب التفقّه والإنذار .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 448 الثانی : أن یکون المراد إنذار کلّ واحد مستقلاًّ لا إنذار جمیع النافرین لقوم واحد حتّی یحصل لهم العلم .
الثالث : أن یراد بالإنذار إعلام الأحکام لا التخویفات التی هی من شؤون الوعاظ .
الرابع : أن یکون المراد من حذرهم الحذر العملی ؛ أعنی به العمل بالأحکام الواصلة إلیهم بإنذار المنذرین .
الخامس : أن یکون وجوب الحذر ثابتاً بنحو الإطلاق ، سواء حصل العلم أو لم یحصل .
السادس : أن یراد بالتفقّه التفقّه فی الأعمّ من فروع الدین واُصوله أو خصوص الفروع ، فإنّه المبحوث عنه .
فبهذه المقدّمات یستنتج وجوب العمل بفتوی الفقیه ، ولکنّ الظاهر إمکان الخدشة فی جمیع هذه المقدّمات :
أمّا الأوّل : فلاحتمال کون التفقّه والإنذار فائدة لا غایة ویکون النفر نفراً إلی الجهاد ، کما قیل للسیاق فلا یجب التفقّه والإنذار بوجوب النفر .
وأمّا الثانی : فلأنّ ظاهر الآیة إنذار کلّ طائفة لقومهم وفرقتهم فکلّ فرقة خاصّة تستفید من طائفة لا من شخص واحد وخبر الطائفة یوجب العلم غالباً .
وأمّا الثالث والرابع : فلأنّ الظاهر من الإنذار لیس إلاّ التخویف الذی هو شأن الوعّاظ ، ومن الحذر التخوّف الحاصل من هذا التخویف ، وقولهم : إنّ مبلّغ الحکم
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 449 مخوّف من جهة أنّ مخالفة الحکم توجب العذاب ، فکان المبلّغ أخبر بترتّب العقاب علی مخالفة ما بلغه کلام خطابی . بداهة أنّ صرف الأعلام والتبلیغ لیس مصداقاً للتخویف وصرف التعلّم واستماع الحکم لیس تخوّفاً قطعاً ، فالواجب حمل الإنذار والحذر فی الآیة علی ظاهرهما فیکون المقصود من الآیة وجوب النفر علی جماعة لیترتّب علی نفرهم أمران :
الأوّل : تفقّههم بأنفسهم فی الدین .
الثانی : وعظهم قومهم وتخویفهم إیّاهم من عقاب الله وعقابه، کما هو شأن الوعّاظ ، فإذا خافوا صاروا بأنفسهم بصدد تعلّم أحکام الله وإعمالها قهراً ، وأمّا کیفیّة أخذ الأحکام وأ نّها ممّن تؤخذ فلم یتعرّض لها الآیة ، بل الواجب فی ذلک لو لم یرد دلیل شرعی الاقتصار علی ما یجزم العقل بحجّیته ، والتعبیر بـ «لعلّ» إنّما هو من جهة أنّ التخویف لا یستلزم التخوّف دائماً ، بل هو ممّا یترقّب منه .
وبالجملة : فالواجب بمقتضی الآیة علی الشخص النافر وما هو فائدة نفره أمران :
الأوّل : تفقّهه فی الدین بنفسه .
الثانی : وعظه لقومه ، وهاتان الفائدتان فی عرض واحد ، ولا دلیل علی کون المراد مسانخة التفقّه والإنذار وکون الإنذار بما هو من سنخ التفقّه حتّی یحمل الإنذار علی إعلام الأحکام والحذر علی الحذر العملی بعد کونهما خلاف ظاهر اللفظین .
فإن قلت : أیّ دخالة للتفقّه فی الوعظ ؟
قلت : أوّلاً : أ نّهما فی الآیة فی عرض واحد ، کما عرفت ولیس أحدهما
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 450 مترتّباً علی الآخر فهما فائدتان للنفر فی عرض واحد .
وثانیاً : أنّ المنذر یحتاج إلی إعلام الحکم مقدّمة لذکر ثوابه وعقابه والتهدید علی مخالفته ولکنّ المقصود الأصلی حصول الخوف فی المنذَر ـ بالفتح ـ لیتهیّأ فیصیر بنفسه بصدد استفادة الأحکام من مظانّها حتّی یتیقّن .
وثالثاً : أنّ إنذار الفقیه أوقع فی النفوس وتأثیره أکثر .
ویستفاد من الآیة کون مسند التبلیغ والوعظ للفقهاء وإنّما تزلزل أرکان الدین بسبب تفویضهم هذا المسند إلی الجهلة .
وأمّا المقدّمة الخامسة : فهی أیضاً قابلة للخدشة لعدم کون الآیة بصدد بیان وجوب التحذّر بإنذار المنذر حتّی یتمسّک بإطلاقها لصورة عدم حصول العلم ، وإنّما هی بصدد بیان وجوب النفر ، فلعلّ وجوب القبول مشروط بالعلم والترغیب للنفر إنّما هو لبقاء أساس الدین وکثرة العلماء حتّی یتمکّن الناس من العلم بسبب المراجعة إلیهم .
نعم ، لو کانت فی مقام البیان بالنسبة إلی وجوب الحذر أیضاً لوجب الأخذ بإطلاقها ، إلاّ فیما دلّ الدلیل علی خلافه ، کما فی اُصول الدین ولم یکن یضرّ بإطلاقها تطبیقها فی بعض الأخبار علی الإمامة التی لا یکتفی فیها بالظنِّ، إذ الإطلاق یجب أن یؤخذ به إلاّ فیما دلّ الدلیل علی الخلاف .
وأمّا المقدّمة السادسة : فالظاهر إمکان دعواها ، إذ تخصیص الآیة بالاُصول بلا وجه ، إلاّ أن یتمسّک بالأخبار الدالّة علی تطبیق الآیة علی مبحث
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 451 الإمامة ، وفیه : أنّ صرف التطبیق لا یدلّ علی الاختصاص .
وبالجملة : فالاستدلال بالآیة فی باب التقلید لا وجه له کالاستدلال بها فی باب حجّیة الخبر .
وممّا یتمسّک به لجواز الرجوع إلی غیر الأعلم أیضاً مقبولة ابن حنظلة ومشهورة أبی خدیجة حیث أرجع علیه السلام فی باب القضاء إلی من عرف أحکامهم ونظر فی حلالهم وحرامهم ، وإطلاقه یشمل غیر الأعلم .
فإن قلت : الإرجاع فیه للقضاء .
قلت : حجّیة قضائه تتوقّف علی حجّیة فتواه لابتناء القضاء علی الفتوی .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ القضاء عمل لنفس القاضی وحجّیة فتوی الإنسان لعمل نفسه لا یقتضی حجّیته لعمل غیره .
مضافاً إلی أنّ القضاء مربوط بفصل الخصومة وهو ممّا لا یتمشّی فیه الاحتیاط بخلاف سائر الأعمال لتمکّن الاحتیاط فیها ، فلیس الروایتان دلیلین علی جواز أصل التقلید فضلاً عن الإطلاق لغیر الأعلم .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 452 وأمّا روایة تفسیر الإمام ، ففیها أنّ حجّیتها غیر معلومة وإلاّ کانت عامّة لغیر الأعلم أیضاً .
نعم ، یمکن أن یقال : إنّه یستفاد من مطاوی هذه الروایة ولو کانت جعلیة أنّ التقلید من العلماء بالنحو الشائع فی أزمنتنا کان شائعاً فی تلک الأزمنة وکان مرکوزاً فی أذهان العوام وهی نکتة تأریخیة تستفاد من هذه الروایة وتؤیّد اتّصال السیرة إلی زمان الإمام ، فافهم .
ثمّ إنّه قد تلخّص من جمیع ما ذکرناه سابقاً أنّ عمدة الدلیل علی التقلید السیرة ، ولا یفرق فیها بین الأعلم وغیره فیما هو الملاک للرجوع وهو کون احتمال مخالفة رأیه للواقع احتمالاً ضعیفاً وأعلمیة الغیر لا توجب زوال هذا الملاک عن غیر الأعلم ، لا سیّما وأ نّه لیس غیر أعلم إلاّ ویطابق فتواه فتوی أعلم من الأموات .
نعم ، یمکن أن یستدلّ علی جواز الرجوع إلی غیر الأعلم مع عسر الرجوع إلی الأعلم بالروایات الدالّة علی جواز الرجوع إلی آحاد الأصحاب ، مع کون بعضهم أعلم من بعض ، بناءً علی کون هذه الروایات مربوطة بباب الإفتاء کما هو الحقِّ، هذا .
ثمّ إنّ فتوی المجتهد حجّة من باب الطریقیة والأماریة ومقتضی القاعدة فی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 453 الأمارتین المتعارضتین التساقط لا التخیـیر ، کما مرّ فی مبحث التعادل والترجیح .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 454