مقتضی الأصل الأوّلی وجوب التقلید عن الأعلم
فالأصل یقتضی اشتراط الأعلمیة فیه . ویمکن تقریبه بوجهین :
الأوّل : أنّ الأصل الأوّلی حرمة العمل بالظنّ خرج عنه بمقتضی الإجماع والضرورة أخذ العامّی بقول المجتهد والإجماع دلیل لبّی فیقتصر فی الحکم المخالف للأصل علی القدر المتیقّن ، والمتیقّن هو الأبسط قوّة وأکثر استحضاراً وهو معنی الأعلمیة .
الثانی : دلیل الانسداد . وتقریبه أ نّه لو لم یجب العمل بقول الأعلم لزم إمّا عدم الانسداد أو عدم المحذور فی الرجوع إلی الاُصول فی کلّ مسألة أو البراءة فی جمیع المسائل أو الاحتیاط التامّ أو عدم قبح ترجیح المرجوح ، والتالی بأقسامه باطل ، فکذا المقدّم ؛ والتقریب الثانی مخدوش .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 437 أمّا أوّلاً : فلأنّ الرجوع إلی غیر الأعلم لیس ترجیحاً للمرجوح ، إذ ما من غیر أعلم إلاّ ویوافق فتواه فتوی میّت أعلم من الأعلم الحیِّ.
وأمّا ثانیاً : فلأنّ الاحتیاط فی المقام لیس بالاحتیاط التامِّ، بل بالاحتیاط بین فتاوی الأعلم وغیره بأن یأخذ بالأحوط من الأقوال ولا یلزم من ذلک عسر وإن لزم من الاحتیاط التامِّ.
وأمّا ثالثاً : فبأنّ الحقّ فی باب دلیل الانسداد کون نتیجته هو التبعیض فی الاحتیاط .
هذا ، وربّما یتمسّک لجواز تقلید غیر الأعلم بالاستصحاب بأن یقال : لو فرضنا مجتهدین متساویین فالعقل یحکم بالتخیـیر بینهما ، وبقاعدة الملازمة یستکشف حکم الشرع به أیضاً فإذا صار أحدهما أعلم یستصحب جواز تقلید غیر الأعلم الثابت حین المساواة وبعدم الفصل یتمّ الکلام فی غیر هذه الصورة .
وربّما یستشکل علی استصحاب حکم العقل أو الشرع المستکشف به بأنّ العقل لا یشکّ فی موضوع حکمه وملاکه ، فمادام الملاک ثابتاً یکون الحکم ثابتاً قطعاً وبانتفائه ینتفی حکم العقل قطعاً .
وربّما یقال : إنّ حکم العقل واسطة لإثبات حکم الشرع ولکن بعد ثبوته یحتمل أن یکون الموضوع عند الشرع أعمّ فی متن الواقع من موضوع حکم العقل فیستصحب .
وفیه : أنّ هذا إنکار لقاعدة الملازمة ، إذ القائل بالملازمة یدّعی أنّ الموضوع
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 438 والملاک لحکم العقل یجب أن یکون للشرع حکم علیه ، بمعنی أ نّه علی الشرع أن یجعل حکماً علی نفس هذا الموضوع بعد کونه بعنوانه ذا ملاک ملزم استکشفه العقل واحتمال کون عنوان آخر أعمّ أیضاً ذا ملاک لا یرتبط بالعنوان الذی کشف العقل ملاکه واستصحاب کلّی الحکم من قبیل استصحاب القسم الثالث من الکلّی لا یجری فی الأحکام ، فإنّ المجعول هو شخص الحکم لا کلّیه ، فإنّ الکلّی لیس إلاّ أمراً انتزاعیاً .
نعم ، یجری استصحاب الکلّی فی الموضوعات إذا کان الموضوع فی لسان الدلیل نفس عنوان الکلّی .
وما یقال : أنّ الموضوع الذی یثبت له حکم العقل ، یحتمل أن یکون واجداً لخصوصیات یشکّ العقل فی دخالة بعضها فیحکم العقل علی الواجد لجمیع الخصوصیات ، ومن المحتمل عدم دخالة بعضها لبّاً ، فاسد جدّاً ؛ فإنّ العقل من شأنه تحلیل الموضوع حتّی یعثر علی ما هو الملاک لحکمه وما هو الموضوع له حقیقة ولا یعقل کون موضوع حکمه مبهماً له ؛ وربّما یمثّل القائل بإمکان الإبهام بأنّ العقل یحکم بقبح الکذب الضارّ غیر المنجی ویشکّ فی قبح ما فقد أحد القیدین .
وفیه : أنّ الکذب بذاته وبعنوانه قبیح من دون قید ، فإنّ حکم العقل بالقبح ثابت للعناوین بما هی هی فذات الکذب قبیح لیس إلاّ ، وإنجاء النبیّ مثلاً حسن لیس إلاّ ، والکذب المنجی ممّا اجتمع فیه العنوانان فیکون من باب التزاحم فیؤثر أقوی الملاکین ، فالکذب المنجی للنبیّ بما هو کذب قبیح أیضاً ، ولکنّ العقل یحکم بلزومه من جهة انطباق عنوان آخر أشدّ ملاکاً ولیس الکذب
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 439 المنجی عنواناً مستقلاًّ فی قبال سائر العناوین ، بل هو ضمّ عنوان إلی عنوان والاجتماع والتصادق بحسب الوجود الخارجی فإنّه الجامع للشتات .
وبالجملة : فیمکن أن یقع التزاحم فی الأحکام العقلیة ، کما یقع فی الشرعیات وتحقیق استصحاب الأحکام العقلیة موکول إلی الاُصول .
ثمّ إنّه یمکن أن یؤیّد الاستصحاب المذکور باستصحاب آخر بأن یقال : إنّا نفرض مجتهداً نقلّده ، ثمّ صار غیره أعلم منه فنستصحب جواز تقلید المجتهد الأوّل غیر الأعلم وبعدم الفصل یثبت حکم غیره ، فتدبّر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 440