تخیـیر القاضی والمفتی فی عمله وعمل مقلّدیه
ثمّ إنّ وظیفة المجتهد بالنسبة إلی عمل نفسه قد اتّضح بما ذکرنا ، وکذلک وظیفته بالنسبة إلی القضاوة وفصل الخصومة ، إذ علیه أن یأخذ بأحدهما ویحکم علی طبقه ولیس له تخیـیر المتخاصمین فإنّ فصل الخصومة عمل لنفس القاضی ولا یرتبط بهما ، مضافاً إلی أنّ تخیـیرهما لا یوجب فصلها .
وأمّا وظیفته بالنسبة إلی مقلّدیه ، فهل یجب علیه الأخذ بأحدهما ثمّ الفتوی علی طبق مفاده أو یجب علیه تخیـیر المقلّدین فی الأخذ بأحدهما بأن یذکر لهم الخبرین مع فتواه بثبوت التخیـیر فی المسألة الاُصولیة ویحول الاختیار إلی المقلّدین فیأخذ المقلّد بأحدهما ، ثمّ یعمل علی طبقه أو یجب علیه الفتوی بالتخیـیر فی المسألة الفقهیة ؛ أعنی مؤدّی الخبرین أو یتخیّر بین الأنحاء الثلاثة أو بین الأوّلین فقط أو الأخیرین فقط ، وجوه : والأقوی هو الثالث ؛ أعنی کونه مخیّراً بین الأنحاء الثلاثة فی مقام الفتوی .
توضیح ذلک : هو أنّه ربّما یتوهّم اختصاص المسائل الاُصولیة بالمجتهد
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 377 فالأخذ بالخبر وجعله حجّة وطریقاً إلی الواقع ، وکذا الاستصحاب وغیرهما من وظائفه المختصّة ولا حظّ للمقلّد فیها، فإنّ موردها أو موضوعها التحیّر فی الواقع والشکّ فیه فعلاً وهو یختصّ بالمجتهد لعدم التفات المقلّدین ، مضافاً إلی أنّ تشخیص مواردها والفحص عن معارضاتها أیضاً ممّا لا یتیسّر للمقلّد .
فإن قلت : فکیف یجوز للمقلّد الرجوع إلیه فیما استنبطه من هذه المسائل الاُصولیة ؟
قلت : لا ینافی ذلک اختصاصها بالمجتهد ، فإنّ الأخذ بالخبر وإحراز الواقع به عمل للمجتهد وإن کان الواقع المحرز یشترک فیه المقلّد والمجتهد ، فرجوع المقلّد إلیه فی العمل بالواقع المحرز لا فی الإحراز المختصّ به ، وکذلک استصحاب الحالة السابقة وظیفة للمجتهد فإنّه الشاکّ ولا یشارکه المقلّد فی الاستصحاب ، بل فی المستصحب الذی هو حکم فرعی یشترک فیه الجمیع ، بل یمکن أن یکون الإحراز عملاً للمجتهد والمحرز مختصّاً بالمقلّد کما فی أحکام النساء التی یستنبطها المجتهد .
هذه خلاصة ما یمکن أن یقال فی بیان اختصاص المسائل الاُصولیة بالمجتهدین .
وفیه : أنّ تخصیصها بهم لا وجه له بعد عموم أدلّتها ، إذ لا فرق بین قوله : «أقیمُوا الصلاة» مثلاً وبین قوله : «صدّق العادل» أو «لا تنقض الیقین بالشکّ» فی کون الخطاب فیها شاملاً للجمیع ، وموردها أو موضوعها وإن کان هو الشکّ الفعلی المتوقّف علی الالتفات إلی الحکم الفرعی ، ولکن لا نسلّم عدم تحقّق
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 378 الشکّ للمقلّد أصلاً ، إذ یمکن تنبیهه حتّی یحصل له الشکِّ.
نعم ، لو حصل الشکّ فی الحکم الفرعی لخصوص المجتهد کان هو العامل بالمسألة الاُصولیة دون المقلّد ، وأمّا ما ذکر من اشتراطها بالفحص عن المعارضات وتشخیص مواردها ، ففیه : أنّها لیست مشروطة بذلک فی لسان الدلیل ، بل هی ثابتة فی موارد الشکّ التی لیس فیها معارضات بحسب الواقع ، والاُصول ثابتة لموارد الشکّ التی لیس فیها أدلّة بحسب الواقع ، والشکّ یمکن أن یحصل للمقلّد ، والمجتهد ینوب عنه فی إحراز عدم الدلیل وعدم المعارض ، وبعد ذلک فالمقلّد بنفسه یعمل فی المسألة الأصلیة فیجعل الخبر مثلاً حجّة بینه وبین الله ویأخذ به ثمّ یعمل علی طبق مؤدّاه .
وعلی هذا ، فللمجتهدین فی جمیع المسائل الفقهیة بعد حصول الشکّ فیها أحد أمرین :
الأوّل : أن یأخذ بالخبر الدالّ علی وجوب الجمعة مثلاً بعد ما أثبت حجّیة الخبر ویجعله طریقاً لإحراز الواقع ، ثمّ یفتی بمضمونه فیصیر المقلّد مقلّداً له فی الحکم الفرعی المستنبط فقط .
الثانی : أن یقول للمقلّد : أنّ فی باب الجمعة خبراً صحیحاً ورد وهو الخبر الکذائی ولا معارض له ، وخبر الواحد حجّة عندی فالمقلّد یقلّده فی المسألة الاُصولیة فقط ؛ أعنی فی حجّیة الخبر ، وأمّا الأخذ بالخبر وجعله طریقاً إلی الحکم الفرعی فیحول إلی نفس المقلّد ، فلا یکون المقلّد فی الإتیان بالجمعة مقلّداً له بل فی العمل بالخبر ، بل یمکن أن یکون المقلّد متمکّناً من تحصیل أصل الخبر ومن الفحص عن معارضاته ولا یکون متمکّناً من
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 379 تحصیل حجّیته فیفتی المجتهد بحجّیة الخبر ویقلّده المقلّد فی هذه المسألة الأصلیة فقط ، ثمّ یستریح فی جمیع الفقه .
إذا عرفت هذا ، فنقول فی المقام : أنّه بعد ما ثبت عند المجتهد فی الخبرین المتعارضین کون الحکم هو التخیـیر فله أحد الاُمور الثلاثة :
الأوّل : أن یأخذ بأحد الخبرین ، ثمّ یفتی علی طبقه بوجوب الجمعة مثلاً ، فإنّ قوله : «موسّع علیک بأیّهما أخذت» یدلّ علی جواز أن یأخذ المجتهد بأحدهما ، ومعنی الأخذ به هو جعله حجّة بینه وبین الله بالنسبة إلی الواقع فإذا صار حجّة له جاز له الفتوی علی طبقه ، إذ کما یجوز العمل علی طبق الحجّة یجوز الفتوی علی طبقها .
وبعبارة اُخری : الأخذ به لیس إلاّ عبارة عن الاعتماد علیه والاستناد إلیه فی العمل والفتوی ، وتخصیص الأخذ بالأخذ العملی لا وجه له ، فإذا قال المولی للمجتهد : لِم أفتیت بوجوب الجمعة ؟ یقول : قد دلّ علیه الخبر الفلانی وأمرتنی بجواز الأخذ به فأخذت به وجعلته حجّة علی الواقع وأفتیت علی طبق الحجّة . وعلی هذا، فحجّة المقلّد قول المجتهد وفتواه لا الخبر .
الثانی : أن یقول للمقلّد فی باب الجمعة مثلاً خبران متعارضان متکافئان وقد ثبت عندی أنّ حکمهما التخیـیر فی الأخذ فیقلّده المقلّد فی هذه المسألة الاُصولیة ؛ أعنی التخیـیر فقط ، والأخذ یحول إلی نفس المقلّد فحجّته فی المسألة الاُصولیة قول المجتهد ، وفی الفرعیة الخبر المختار . ویمکن أن یکون المقلّد متمکّناً من تحصیل الأخبار والمعارضات والمرجّحات دون حکم المتعارضین ، فیقول المجتهد حکمهما عندی وجوب الترجیح
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 380 بالمرجّحات الکذائیة، ثمّ التخیـیر مع فقدها فیقلّده المقلّد فی هاتین المسألتین ویستریح .
الثالث : أن یفتی بالتخیـیر فی المسألة الفقهیة بأن یقول : أنت مخیّر بین الظهر والجمعة فإنّ مفاد أحد الخبرین وجوب الجمعة ومفاد الآخر وجوب الظهر ، وقد قلنا : إنّ الأخذ بأحد الخبرین مشترک بین المجتهد والمقلّد والأخذ بالخبر لیس إلاّ العمل بمؤدّاه فالأخذ بأحدهما عبارة اُخری عن التخیـیر بین الظهر والجمعة .
فإن قلت : علی الوجه الثانی یکون الحجّة عند المقلّد فی المسألة الاُصولیة قول المفتی وفی الفرعیة خبر الواحد ، وأمّا علی هذا الوجه فلم یصل إلیه نفس الخبر حتّی یکون هو الحجّة له فی الفرعیة فلا محالة یکون حجّته فیها قول المجتهد ولا عمل له إلاّ فی هذه المسألة دون الاُصولیة لعدم وصول الخبرین إلیه حتّی یأخذ بأحدهما .
وعلی هذا ، فتخیـیر المفتی إیّاه بین الظهر والجمعة لا یمکن أن یکون من حیث تخیّر المقلّد بین الأخذ بأحد الخبرین حتّی یقال بأنّ الأخذ بالخبر لیس إلاّ العمل بمؤدّاه .
وبعبارة اُخری : لیس تخیـیر المفتی إیّاه تخیـیراً فی الأخذ أصلاً فهو تخیـیر فی نفس المسألة الفقهیة ، ولازم ذلک هو الفتوی بغیر ما أنزل الله .
قلت : فتوی المجتهد فی المسألة الفقهیة بالتخیـیر بمنزلة نقل الخبرین للمقلّد مع بیان فتواه فی المسألة الاُصولیة بالتخیـیر فإنّ فتواه وإن لم یکن نقلاً للخبرین بلفظهما ولکنّه نقل لهما بمضمونهما ، فتدبّر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 381