المقام الأوّل فی حال أدلّة الاستصحاب مع أدلّة الأمارات
قال فی «الدرر» نقلاً من اُستاذه «طاب ثراه» ما حاصله : أنّ العلم إمّا أن یؤخذ فی الموضوع بما هو طریق ، وإمّا أن یؤخذ بما هو صفة ، والمراد بالأوّل ثبوت حیثیة الکاشفیة المطلقة له الجامعة بین جمیع الطرق التی منها العلم ، والمراد بالثانی ثبوت حیثیة الکاشفیة التامّة المختصّة بالعلم ؛ وحیث إنّ الظاهر من أخذ العلم فی الموضوع أخذه بما هو طریق فلا محالة یکون المراد بالشکّ الواقع فی قباله أیضاً عدم الطریق ، فیصیر الموضوع للاُصول عدم الطریق إلی الواقع والغایة المأخوذه فی أدلّتها وجود الطریق ، فمعنی قوله : «لا ینقض الیقین بالشکّ» لا ینقض الطریق بغیر الطریق ، ولازم ذلک ورود الأمارات بأجمعها علی الاُصول ، انتهی .
أقول : نحن موافقون له قدس سره فی النتیجة لا فیما ذکر لها من الدلیل .
أمّا بطلان الدلیل ، فلأنّ الیقین إمّا أن یعتبر بما هو صفة نفسانیة فی قبال سائر الصفات کالإرادة والقدرة ونحوهما ، وإمّا أن یعتبر بما هو طریق تامِّ، وإمّا أن یعتبر بما هو طریق فی الجملة ، فهنا ثلاثة أقسام ، والظاهر أنّ المراد بالیقین الصفتی هو الأوّل وبالطریقی هو الثانی ، وأمّا الثالث فهو إخراج للیقین عن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 156 الموضوعیة ، کما لا یخفی ، فقوله : إنّ الیقین لما کان طریقیاً وجب حمله علی مطلق الکاشف ، فاسد ؛ فإنّه مع طریقیته أیضاً یفترق عن سائر الطرق .
ولو أبیت إلاّ عن تقسیمه ثنائیاً . بتقریب : أنّ الطریقیة ذاتیة له فاعتباره صفة عین اعتباره طریقاً .
فنقول : لا نسلّم أنّ الظاهر من أخذه فی الموضوع أخذه بما هو طریق بمعنی مطلق الکاشف ، بل الظاهر أخذه بما هو طریق تامّ الذی عبّرت عنه بالوصفیِّ.
وأمّا صحّة ما ذکره قدس سره بحسب النتیجة : فلأنّ الظاهر من کلمة «الیقین» وإن کان هو خصوص الکشف التامّ کما عرفت ، إلاّ أنّه بإلغاء الخصوصیة یلحق به سائر الطرق ، والشاهد علی ذلک ما نراه فی الموارد المتعدّدة فی الشرعیات من ترتیب الحکم علی الیقین وکون المراد به بإلغاء الخصوصیة مطلق الطریق ، فراجع کتاب القضاء والشهادات ، فقد وردت روایات کثیرة فی حرمة الإفتاء والقضاء والشهادة بغیر الیقین ، مع أنّ الإفتاء فی الشرعیات لیس إلاّ علی وفق الطرق المنصوبة ، وقد وردت روایات کثیرة أیضاً علی جواز القضاء أو الشهادة علی طبق الأمارات من الید والبیّنة بل والاستصحاب ونحو ذلک ، فیظهر من ذلک أنّ المنهیّ عنه هو الإفتاء أو القضاء بغیر حجّة علی الواقع ، بل المتأمّل فی نفس روایات الاستصحاب أیضاً یجد أنّ المراد بـ «الیقین» المذکور فیها بإلغاء
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 157 الخصوصیة مطلق الطریق والحجّة علی الواقع ، ففی الصحیحة الاُولی ، قال علیه السلام : «فإنّه علی یقین من وضوئه» والمراد به مطلق الطریق علیه وإلاّ لشدّ حصول الیقین الوجدانی للإنسان علی صحّة وضوئه ، فإنّ الأغلب تصحیحه بمثل قاعدة التجاوز والفراغ وإجراء أصالة الطهارة بالنسبة إلی الماء والبدن ، وفی الصحیحة الثانیة ما حاصله : «فإنّک کنت علی یقین من طهارتک» ومعلوم أنّ المراد بالطهارة فیها هی الواقعیة ، إذ لا معنی لاستصحاب الطهارة الظاهریة للقطع ببقائها حین الشکِّ، فإذا اتّضح کون المراد بها هو الواقعیة ، فنقول : إن کان المراد بالیقین بها الیقین الوجدانی لشذّ وندر تحقّقه ، إذ قلّ من یعلم وجداناً بالطهارة النفس الأمریة فبقی کون المراد ثبوت الحجّة علی الطهارة الواقعیة .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ أغلب الناس لا یلتفتون إلی هذه التشکیکات ویرون أنفسهم ذا طهارة ووضوء وغسل واقعیات ، فافهم .
فإن قلت : ما استشهدت به من أخبار الإفتاء والقضاء علی کون المراد بالیقین مطلق الحجّة لا یرتبط بما نحن فیه ، فإنّ المراد بهذه الأخبار وجوب کون المعتمد فی الإفتاء والقضاء هو الیقین ، سواء کان بالحکم الواقعی أو الظاهری أو بالحجّیة ونحو ذلک .
وبعبارة اُخری : بعد ثبوت جواز الإفتاء والقضاء بالطرق یدور الأمر بین التصرّف فی الیقین بحمله علی مطلق الکاشف والحجّة وبین التصرّف فی المتعلّق ، بکون المراد به أعمّ من الحکم الواقعی والظاهری مع بقاء الیقین
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 158 بخصوصیته ولا دلیل علی رجحان الأوّل ، بل الأولی هو الثانی .
قلت : التـتبّع فی الأخبار لعلّه یشهد لرجحان الأوّل فإن ذکر الیقین فیما إذا کان الحکم لمطلق الکاشف أمر شائع ذائع . والسرّ فی ذلک کونه أظهر أفراد الکواشف .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 159