التحقیق فی المقام
أقول : بناءً علی تداخل الأسباب فی الأحداث لا یکون للسبب الثانی أثر أصلاً ، بل یکون نظیر الأکل والشرب وغیرهما ، فلو علم فی الصبح بالحدث وعلم برفعه فی ساعة بعده ، ثمّ علم إجمالاً بأنّه إمّا أن أکل قبل الطهارة أو نام بعدها فهل لأحدٍ أن یقول بوجوب الطهارة علیه ثانیاً ؟
فإن قلت : یجعل المعلوم بالإجمال الذی هو فعل شخصی مردّد بین الأکل والنوم معرّفاً وأمارة للحدث ، فهذا الشخص یعلم بکونه محدثاً عقیب هذا الفعل الشخصی فیستصحب الحدث .
قلت : الحدث فی هذا المقام مردّد بین ما هو معلوم الارتفاع ومشکوک الحدوث ، والمعلوم بالإجمال لیس مطلقاً واجب الاتّباع ، بل إذا کان مستـتبعاً للعلم بحدوث التکلیف الجدید ، فلو علمت بوقوع قطرة من البول إمّا فی الکرّ أو
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 125 فی الإناء لا یلزم الاجتناب ، لعدم العلم بحدوث تکلیف . ففیما نحن فیه أیضاً یتردّد الحدث المعلوم عقیب الفعل الشخصی بین أن یکون عین الحدث السابق الزائل قطعاً وبین أن یکون حدثاً آخر مستـتبعاً لتکلیف جدید بالطهارة ، فنفس هذا السنخ من العلم لا یوجب تنجّزاً لمعلومه ، فکیف باستصحاب هذا المعلوم . وبذلک یظهر عدم جریان استصحاب الجنابة أیضاً فیمن رأی فی ثوبه منیّاً ، إذ العلم بخروج المنیّ إجمالاً لا یستلزم تکلیفاً بالغسل مطلقاً ، فالجنابة المعلومة حال خروجه مردّدة بین ما هو زائل قطعاً وما هو باقٍ .
وبالجملة : فینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بحدث زائل قطعاً ، والشکّ البدوی .
بل یمکن أن یقال : إنّ الموجود فی المقام هو صورة العلم الإجمالی لا حقیقته ، وکثیراً ما یتخیّل فی بعض المقامات تحقّق علم إجمالی مع أنّ الواقع خلافه فلو علم بأنّ طلب زید منه خمسة أو عشرة فیمکن أن یعبّر عنه صورة بالعلم الإجمالی ، ولکنه حقیقة علم تفصیلی بالخمسة وشکّ بدوی فی الزائد ، وکذلک الحال فی المردّد بین الأقلّ والأکثر الارتباطیـین فإنّه علم تفصیلی بالأقلّ وشکّ بدوی فی الزائد وإن عبّر عن ذلک بصورة العلم الإجمالی ، فالعلم الإجمالی الحقیقی إنّما هو فیما إذا تقوّم العلم بالطرفین ، وفیما نحن فیه لیس کذلک ، فإنّ الحدث قبل الطهارة معلوم تفصیلاً وبعدها مشکوک بدواً .
نعم ، نفس السبب ؛ أعنی النوم معلوم بالإجمال ، ولکنّه لیس مرادنا استصحابه ، بل استصحاب أثره والأثر لیس معلوماً بالإجمال ، وقولنا : «إنّ من علم بالنوم یعلم بأنّه کان محدثاً إمّا قبل الطهارة أو بعدها» تعبیر عمّا هو معلوم
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 126 بالتفصیل ومشکوک بدواً بصورة العلم الإجمالی .
فإن قلت : قد سلّمت سابقاً بأنّه یمکن أن یکون شیء واحد معلوماً بعنوان ومشکوکاً بعنوان آخر والاعتبار فی الاستصحاب بالیقین والشکّ المتعلّقین بنفس العنوان الذی اُرید استصحابه ، ففیما نحن فیه الحدث الواقع قبل الطهارة وإن کان معلوماً من جهة ولکنّه بما هو واقع عقیب النوم المعلوم طرف للعلم الإجمالی .
قلت : ما ذکرت ناشٍ من عدم الدقّة فیما ذکرنا من عدم کون المقام من قبیل العلم الإجمالی ، وبما ذکرنا ظهر حال الصور الاُخر ، فتدبّر .
ثمّ اعلم : أنّ المحقّق النائینی قدس سره قال فی مسألة الملاقاة والکرّیة بأنّه : إذا کان تأریخ الملاقاة معلوماً فیستصحب عدم الکرّیة إلی زمان الملاقاة ویحکم بنجاسة الماء .
وفیه : أنّ النجاسة یتوقّف علی ملاقاة النجاسة حال کون الماء قلیلاً أو غیر کرِّ، وهذا المعنی لا یثبت بالاستصحاب ، والقول : بأنّ الأصل فی الماء هو الانفعال والکرّیة عاصمة فما لم تحرز یحکم بالنجاسة ، قول بغیر دلیل ، فافهم .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 127