نقل مقال وتوضیح حال
زعم بعض الـمفسّرین تبعاً لآخر: أنّ الـعبادة ـ بحسب الـلغـة والاستعمال ـ موضوعـة لـلخضوع الـخاصّ، وقال: إنّ الـعبادة ما یرونـه مشعراً بالخضوع لـمن یتّخذه الـخاضع إلـهاً؛ لـیوفّیـه بذلک ما یراه لـه من حقّ الامتیاز بالإلهیّـة. انتهیٰ.
ویقرب منـه قول الآخر: تدلّ الأسالیب الـصحیحـة والاستعمال الـعربی الـصُّراح، أنّ الـعبادة ضَرْب من الـخضوع بالغ حدّ الـنهایـة، ناشئ عن استشعار الـقلب عظمـة الـمعبود، لا یعرف منشأً لـها، واعتقاد بسلطـة لایدرک کنهها وماهیّتها، وقُصاریٰ ما یعرفـه منها أنّها محیطـة بـه، ولکنّها فوق إدراکـه. انتهیٰ.
أقول: ـ مضافاً إلـیٰ ما عرفت من صریح کلمات الـلُّغویّـین، مثل ما یقال: طریق معبَّد؛ أی مذلَّل، وفرس معبَّد؛ أی مذلَّل لـلرکوب ـ : إنّ الـکتاب الـعزیز قد استوعب استعمال هذه الـکلمـة فی الـموارد الـمختلفـة، فمنها: قولـه تعالیٰ: «فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَیْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ»، وقولـه تعالیٰ: «وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِیرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ»، وحملهما علیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 9 الـمجازیّـة خلاف الأصل.
نعم لا ننکر کثرة استعمالاتها فی الـتذلّل الـخاصّ والـخضوع والـخشوع بعنوان مخصوص؛ من غیر تمامیّـة الـقیود الـمزبورة فی کلماتهما، فإنّـه لا یعتبر فی تحقّق ماهیّـة الـعبادة، إلاّ الـخضوع بعنوان إظهار الـمبدئیّـة أو الـمدخلیّـة فی الاُمور الـخارجـة عن اختیار الـبشر عادة ومتعارفاً، کالاستشفاع ونحوه، ولکن لا یرجع ذلک إلـیٰ أنّـه من أصل الـلغـة، بل هذا من کثرة الاستعمال، فاغتنم.
وبالجملة: ما عن الـجمهور من : أنّها بمعنیٰ مطلق الـخضوع، یمکن أن یجتمع مع ما عن بعضهم من : أنّها الـخضوع الـخاصّ وحصّـة من الـذلّـة والـخشوع، فإنّ الأوّل ناظر إلـیٰ أصل الـلغـة والـوضع الـتعیینی، والـثانی ناظر إلـیٰ الـوضع الـتعیّنی الـحاصل من کثرة الاستعمال، وبذلک نجمع بین الـمقالتین.
وغیر خفیّ: أنّ جمیع مشتقّات الـعبادة لا یستعمل فی الـخضوع الـخاصّ، بل الـثلاثی الـمجرّد منـه یکون ظاهراً فیـه، کما أنّ ابن الـسکّیت قال: الـعبادة معناها الـتجرید، وهو غیر راجع إلـیٰ محصل.
وأیضاً غیر خفیّ: أنّ تعدّیـه بالتشدید مغایر لـتعدّیـه بالتخفیف نحو عبَّدتُ الـرجلَ : ذلَّلتُـه، وعَبَدتُ اللّٰهَ : ذلَلتُ لـه.
وممّا یخطر بالبال: أنّ الـعبادة تـتعدّیٰ بنفسها، کقولـه تعالیٰ: «إِیَّاکَ نَعْبُدُ»وغیر ذلک من الاستعمالات الـکثیرة، فلو کانت ـ بحسب الـمعنیٰ ـ هی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 10 الـذلّـة والـخضوع والـخشوع، فلا معنیٰ لأن تـتعدّیٰ هذه الـموادّ بالحروف؛ لأنّ الـلزوم والـتعدّی من طوارئ الـمعانی، لا الألفاظ بالضرورة، فیعلم من ذلک عدم الـترادف بینهما رأساً.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الـعبادة لـیست متعدّیـة؛ لـجواز أن یقال: عبدت لک. هذا، مع أنّ الـعبودیّـة لـیست فعلاً صادراً من الـفاعل، ومتجاوزاً عنـه، وقائماً بالغیر وبالمعبود، فتفسیر الـلُّغویّـین فی غیر محلّـه، فلیتدبّر جیّداً.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 11