المبحث الثالث
حول دلالة الآیة علی امتناع الحبط
اعلم أنّ من الـمسائل الـخلافیـة مسألـة حَبْط الأعمال وتحقیقها علی الـوجـه الـوافی یأتی من ذِی قِبَلٍ فی محلّ أنسب إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.
والـمقصود هنا الإشارة إلـیٰ استدلال بعض الـقاصرین ـ کالـفخر وغیره ـ بهذه الآیـة الـکریمـة علیٰ امتناع الـحَبْط؛ وذلک لظهور قولـه تعالـیٰ فی أنّ «اَلَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»، ومقتضیٰ الإطلاق أنّ ذلک ثابت لهم؛ سواء کفروا بعد ذلک أو آمنوا، وحیث لامعنیٰ لاستحقاقهم بعد الـکفر، فیمتنع الـکفر بعد الإیمان، وحیث لامعنیٰ لکون الـکفر محبطاً للإیمان الـسابق؛ لامتناع الـتحابط، فیکون الـکفر بعد الإیمان ممتنعاً.
ولو قیل: إنّ الـفرض الـمذکور واقع، فکیف یکون ممتنعاً، وقد قال اللّٰه تعالـیٰ: «إِنَّ الـَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا»؟
قلنا: هذا الإیمان صورة ظاهریـة من الإیمان، ولایکون إیماناً واقعیاً
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 74 راسخاً حقیقیاً، وهذا لایستـتبع شیئاً حتّیٰ یُحبط بالأعمال الـمتأخّرة والاعتقادات الـطارئـة.
أقول: نظر الـقائلین بامتناع الـتحابط إلـیٰ إثبات استحقاق الـعباد فی قبال الأعمال الـصالـحـة للجنّـة، واستحقاقهم الـنار کذلک؛ منکرین أنّ الـمسألـة فی باب الـثواب والـعقاب خارجـة عن قانون الـعلّیـة والـمعلولیـة، ومندرجـة فی الـجزاف والاستهزاء؛ غافلین عن أنّ الأمر لیس کما توهّموه، کما مرّ تفصیلـه، ویأتی أیضاً الإیماء إلـیـه.
فعلیـه من کان مؤمناً ثمّ کفر فی هذه الـنشأة، یکون متحرّکاً فی الـدرجات وفی الـطبیعـة، وتزول الـصور، وتُکتَسب الـصور الاُخر، و یشتدّ الـوجود ویضعف إلـیٰ أن یصل إلـیٰ مفارقـة الـمادّة أو ما بحکمها، حتّیٰ ینقطع عن الحرکة الذاتیة الـطبیعیـة، وعن الـمعراج الـروحی والاستکمال التدریجی أو الضعف التدریجی، فالاعتقادات الـزائلة کالسواد والـبیاض علیٰ الأجسام المتحرّـة الـزائلین؛ من غیر فرق بینهما، وأمّا الإیمان فإن کان راسخاً فلایزول، فإذا زال فهو أیضاً، إیمان ضعیف کالسواد الزائل بضیاء الشمس.
فالاستدلال بتکثیر الـصور ـ کما فی تفسیر الـفخر ـ من الـقیل والـقال الـذی لیس لـه مجال، وأمّا الآیـة الـشریفـة فلا تدلّ إلاّ علیٰ أنّ لهم کذا، وأمّا وصولهم إلـیها فهو أمر آخر؛ ضرورة إمکان منعهم لمانع خارجیّ أحدثوه، وهو الـکفر والإلحاد والـزندقـة والإفساد. وتفصیل حدیث حبْط الأعمال فی محلّـه إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 75