البحث الثانی
حول تقوّم الحرکة بالمادّة
اختلفوا فی أنّ الـحرکـة متقوّمـة بالـمادّة الـمشترکـة الـباقیـة، أم لا علیٰ أقوال وتفاصیل فی الـمسألـة محرّرة فی محلّـه.
والذی هو التحقیق: أنّ الـحرکـة لاتعقل إلاّ بالـقوّة، والـقوّة تشرع فی الـحرکـة بتبع حرکـة الـجسم الـمزاول لها، فیکون الـجسم متحرّکاً بها نحو الـکمال الـمقصود والـغایـة الـمطلوبـة، فعندئذٍ یتدرّج فی الـوجود وتفنیٰ وتضمحلّ آناً فآناً، ویستکمل الـجسم الـمتحرّک بها، أو یقرب من الـغایـة الـمعیّنـة لها، ولایُعقل ـ عندئذٍ ـ بقاء تلک الـقوّة علیٰ الـکیفیـة الأوّلیـة، نظیر
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 81 حرکـة الـسّیارات الـحدیثـة، فالأجسام الـمتحرّکـة فی الـعالـم کلّها نظیرها فی هذه الـمرحلـة من الـوجود والـحرکـة.
وأمّا الـمحقّقون من الـحکماء فأنکروا وجود الـحرکـة فی الـعوالـم الـمجرّدة عن الـمادّة؛ لأنّ تلک الـقوّة مَرْکَبها الـمادّة، فإذا لم تکن مادّة فلاقوّة ولاحرکـة ولا استکمال، ولاخروج من الـکمال إلـیٰ الـنقص وبالـعکس.
وفی الآیـة شهادة علیٰ خلافهم؛ حیث صرّحت الآیـة الـشریفـة بأنّ فی الـجنّـة أنهاراً تجری من تحتها، والـجریان لایُعقل إلاّ ویستـتبع الـفساد، والـدار الآخرة لهی الـحیوان، والـحیاة الـباقیـه الـخالـدة لاتقبل الـفساد، والـجریان لایعقل إلاّ ویکون فی الـجسم الـمرکّب من الـصورة والـمادّة، والآخرة خالـیـة عن الـمادّة ولواحقها.
وأمثال هذه الآیات کثیر، وربّما هی متواترة، فکیف الجمع بین العقل والنقـل ؟
أقول : تفصیل هذه المسألة یطلب من محالّه، ولایسعه المقام، وإجماله:
أوّلاً : أنّ الأنهار تجری فی عالـم الـطیف والـخیال الـمتّصل، وربّما یشاهد أرباب الـکشف جریان هذه الأنهار، فهل هذا الـجریان الـحاصل فی صُقع الـنفس، من تلک الـجریانات الـمصحوبـة مع الـمادّة والـمقرونـة بالـقوّة، أم یتحصّل الـجریان من غیر کونـه خروجاً من القوّة إلی الفعل، بل هو کلّه بالفعل، ومن غیر دخول فی الحضور بعد الغیبة، بل کلّه الحضور.. وهکذا.
وثانیاً: أنّ الصورة العلمیة من الحرکة توجد فی النفس، وتنطبق علی الحرکات المماثلة، فکیف یکون هذه الصورة موجودة بالفعل، ومع ذلک تنطبق علیٰ الحرکات الخارجیّة؟! فالحرکة توجد بأجزائها الطولیة عرضاً ومعاً؛ من
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 82 غیر تقوّمها الدائمی بالتدرّج، وإلاّ یلزم عدم إمکان العلم بالحرکة؛ لتحرّک العلم أیضاً، کما لایخفیٰ.
وثالثة: قد تحرّر منّا: أنّ أدلّة وجود المادّة الجوهریة حذاء الصورة غیر تامّة، ودلیل الفصل والوصل ناقص، ودلیل الفعل والقوّة لایثبت إلاّ وجود القوّة لا المادّة الجوهریة. وقد تحرّر منّا: إمکان کون الشیء الواحد صورة بالقیاس وقوّة بالقیاس، وأیضاً یجوز أن تکون القوّة قائمـة بالـصورة، ومرکوبـة لها، کما هو کذلک فی الـسیّارات الـحدیثـة، مع عدم جواز الـخلط بینها وبین ما نحن فیه فإنّ الـمثال مقرّب من جهـة ومبعّد من جهات.
وبالجملة: هذه الـمادّة ممنوعـة حتّیٰ فی الـطبیعـة، فضلاً عن دار الآخرة. وأمّا الـقوّة الـتی ترکب الـصورة فلابأس بالالتزام بها. نعم إنّ هذه الـقوّة کما هی حاصلـة علیٰ الـصورة بعلّیـة الـصورة لها وموضوعیتها لها، کذلک الأمر فی نشآت الـغیب، فلا فارق بین الـنشآت الـغیبیـة والـشهودیـة من هذه الـجهـة.
ولانحتاج إلـیٰ مقالـة احتملها الـسیّد الـمحقّق الـوالـد الـعارف الـحکیم، الـجامع بین مراحل الـعلم والـعمل، والـمواطن فی الـمسائل الإلهیـة والـحکمیـة والـبحوث الـفقهیـة والاُصولیـة خیر مواطنـة وأحسن إیطان: هی: أنّ للنفس خلق الـمادّة الإبداعیـة، فتکون قائمـة بها علیٰ خلاف
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 83 الـدنیا والـطبیعـة، فإنّـه غیر ممکن تصدیقـه، فلا تذهل.
فبالجملة: تحرّر أنّ الـجمع بین الـعقل والـنقل ممکن جدّاً، وجمیع الإشکالات فی هذه الأبواب، ناشئـة من الـقول بالـمادّة الـجوهریـة الـمتبدّلـة الـفاسدة، والـکلام یحتاج إلـیٰ تـتمیم نتعرّض لـه فی محلّـه الأنسب إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.
ثمّ فی نسبـة الـجریان إلـیٰ الأنهار إشعار بقاعدة عقلیـة: وهی أنّ الـدار الآخرة لهی الـحیوان، فلاتکون مجازیـة. واللّٰه الـعالـم.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 84