الوجه الثامن
حول المناقضة المتوهّمة فی الآیات
من الاُمور الـنافیـة لنصاب الـبلاغـة وبداعـة الاُسلوب لحنُ کون الآیات موهمـة للمناقضـة، فإنّـه یضرّ بما هو الـمأمول والـمطلوب، مثلاً:
بین هذه الآیـة الـظاهرة فی تقدّم خلق الأرض علیٰ الـسماء، وتقدّم خلق ما فی الأرض علیٰ الـسماء، وبین الآیات الـواردة فی سورة الـنازعات توهّم الـنِّقاض؛ لما قال اللّٰه تعالـیٰ هناک: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْکَهَا فَسَوَّاهَا * وَ أَغْطَشَ لَیْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَ الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِکَ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 148 دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا * وَ الْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَکُمْ وَ لِأَنْعَامِکُمْ».
وأمّا توهّم: أنّ الـبعدیـة فی الـذکر لاتُنافی الـقبلیـة فی الـخلق، فهو ـ مضافاً إلـیٰ أنّـه خلاف الـبلاغـة ـ أنّـه صرّح بأنّ «اَلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِکَ دَحَاهَا»، والـمشار إلـیـه ظاهراً هو الـمرتبط بخلق الـسماء وخصوصیّاتها، أو نفس الـسماء؛ لجواز رجوع لفظـة «ذلک» إلـیـه، کما لایخفیٰ.
وأمّا تخیّل أنّ الأرض متقدّمـة فی أصل الـخلقـة ومتأخّرة عن الـسماء فی الـدَّحْو والإنباط، أو متأخّرة فی الـتحرّک الـکُروی، فکلّـه غیر جائز، فإنّ الـسابق بمقتضیٰ هذه الآیـة هو ما فی الأرض، وهذا هو الـملازم لتقدّم الأرض، والـمتأخّر بمقتضیٰ تلک الآیات أیضاً هو دَحْو الأرض الـمتقدّم علیٰ خروج مائها ومرعاها، فیکون الـمرعیٰ والـسماء متأخّرین، ویستلزم طبعاً تأخّر الـدحو والأرض.
والجواب عن أصل التنافی المباین للبلاغة وهو إیهام الـتنافی، فذلک فیما إذا کان الـکلام واحداً لامتعدّداً بعیداً بعضـه مکّیّ وبعضـه مدنیّ.
وأمّا الـجواب عن الـمناقضـة الـمتوهَّمـة فهو أنّ المتقدّم هو خلق الـقویٰ وقوّة کلّ شیء ومبدأ کلّ ما فی الأرض سابق فی الـخلقـة، وأمّا الـمتأخّر فهو تنظیم حرکـة الأرض طبعاً؛ للحاجـة إلـیٰ خلق الـسماء فی الـنظام الـعالـمی، وأیضاً یکون الـمتأخّر خروج الـماء وخروج الـمرعیٰ والـشرائط اللازمـة لحرکـة تلک الـقُویٰ والـنُطَف إلـیٰ الـفعلیّـة
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 149 والـشخصیـة الـکمالـیـة والـوجود الـکامل، فمسألـة تعبیـة الأقوات فی أربعـة أیّام ممّا لایکاد یخفیٰ، والـقُویٰ والأقوات بمبادئها متقدّمـة علیٰ الاستواء إلـیٰ الـسماء، کما هو الـمحکّی عن معتقدات الـیهود.
وأمّا دعویٰ: أنّ الآیات الـمکّیـه هی الآیات الـواردة لبیان الـواقعیّات، والآیات الـمدنیـة لوحظت فیها جوانب سیاسات الـملّـة وترغیب الـیهود بالإسلام، وأنّهم یتوهّمون أنّ الـقرآن یصدّقهم فی مقالـتهم ومعتقدهم، فلا دلالـة فیها علیٰ شیء خلاف ما دلّ علیـه الآیات الـسابقـة، فهذا فی حدّ نفسـه جائز إلاّ أنّـه بعید فی الـنظر عن ساحـة الـکتاب الإلهی. واللّٰه الـعالـم.
وأمّا قول الـقُرطبی تبعاً لقتادة: إنّ دخان الـسماء کان مقدّماً علیٰ خلق الأرض «ثُمَّ اسْتَوَیٰ إِلَی السَّمَاءِ وَ هِیَ دُخَانٌ» فسوّاها، ثمّ دحا الأرض بعد ذلک، فهو أفحش فساداً لصراحـة الـکتاب فی أنّـه تعالـیٰ: «رَفَعَ سَمْکَهَا فَسَوَّاهَا» ثمّ قال: «وَ الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِکَ دَحَاهَا».
وسیمرّ علیک ـ إن شاء اللّٰه ـ مسألـة خلق الـسماوات والأرض فی الـبحوث الآتیـة علیٰ وجـه أبسط.
ومن الـغریب ما فی تفسیر بعض الـمعاصرین من إلـغاء مفاد کلمـة «قبل» و«بعد»، وکان علیـه أن یُلغی مفاد سائر الـجمل؛ لأنّـه تعالـیٰ منزّه عن الـحرکـة والـسکون وعن الـمادّة والـمدّة والـتصرّم، کما هو منزّه عن الـقَبْلیـة والـبَعْدیـة؛ غافلاً عن أنّـه تعالـیٰ یصرّح ـ فی موضع أو أکثر فی قصص الأنبیاء ـ بتقدّم بعضهم علیٰ بعض فی الـزمان؛ وإنْ تأخّر فی الـکلام،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 150 قال ـ عزّ من قائل ـ : «إِلَی نُوحٍ وَ النَّبِیّـِینَ مِنْ بَعْدِهِ»، «إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ»، وقال: «وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ»، والـظاهر أنّـه لدفع توهّم: أنّ ذکره بعد ذکر الـمتأخّرین عنـه زماناً لایکون دلیلاً علیـه، فعلیـه کیف یُلغیٰ ذلک فی حقّـه تعالـیٰ فی الاستعمالات الـلُّغویّـة الـکلامیـة، الـتی نزلت لهدایـة الـبشر علیٰ مقدار طاقتهم وأفهامهم؟! فلا تغترّ بما فی صحف باطلـة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 151