الوجه الخامس
وجه الإتیان بقوله : «إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ»
من الـمناقشات الـظاهرة فی هذه الآیـة: أنّ قولـه تعالـیٰ: «إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ» أجنبیّ عن الآیات الـسابقـة، ولم یعهد من الـملائکـة إلاّ نسبـة السفک والفساد إلی الخلیفة، دون الجهالـة حتی یقال:«إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ».
وقد وقعت آراؤهم فی هذه الـمسألـة فی حَیْصَ بَیْصَ وکلٌّ أخذ مهرباً، وأقرب ما وقع عنهم: أنّ الـنظر هنا إلـیٰ ذیل الآیـة، وهو قولـه تعالـیٰ: «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ» فیعلم منـه أنّهم کانوا یعتقدون ما هو الـکذب، وهی دعویٰ الأعلمیـة والأخبریـة، وأنّ هذا الـخلیفـة جاهل غیر عارف بسبل الـسلام والـفضائل والـغیب والـحقائق، فبهذه الـمناسبـة والـملاحظـة قیل: «إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ».
وفیـه: مضافاً إلـیٰ أنّـه خلاف الـظاهر؛ أنّ الـخطورات الـذهنیـة والـتخیّلات الـنفسانیـة والـتسویلات الـوهمیـة، لا توصف بالـصدق
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 308 والـکذب اللذین من أوصاف الـکلام والـجملـة الـحملیـة الـمظهرة، فما فی کتب الـقوم کلّـه خالٍ عن معرفـة الـواقع الفارغ عن الوصول إلیٰ مغزیٰ المرام فی الـمقام.
والذی هو الحقّ: أنّ الـصدق والـکذب کما یوصف بهما الـکلام، یوصف بهما الأشیاء الـخارجیـة کالـحقّ والـباطل، فیقال: فجر صادق، وفجر کاذب، وباعتبار صدور الصدق والکذب یقال: إنسان صادق وکاذب، وتحقیقه فیمحلّه.
فالـصدق والـکذب هی الـواقعیـة فی قبال الـریاء والـسمعـة والـبطلان والـشیطان، وغیر ذلک ممّا لـه حظّ من الـواقعیـة الـنسبیـة، وعلیٰ هذا تکون الـملائکـة کاذبـة، لـما نسبوا إلـیٰ خلیفـة اللّٰه من سوء الـقول وکذبـه؛ ولأجل ما تخیّلوه فیـه من الـفساد والـسفک علیٰ الإطلاق، من غیر ملاحظـة الأهمّ والـمهمّ والـمصالـح الـعالـیـة الـجابرة للـمفاسد الـصادرة عنـه أحیاناً، حسب اختلاف الأفراد والأزمان والأعصار والأمصار.
ومما یشهد علیٰ ما ادّعیناه من اتّصاف الـکلام لأجل کونـه باطلاً بالـکذب ولو کان کلاماً إنشائیّاً؛ قولـه تعالـیٰ: «وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لِلَّذِینَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِیلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَایَاکُمْ وَمَاهُم بِحَامِلِینَ مِنْ خَطَایَاهُمْ مِنْ شَیءٍ إِنَّهُمْ لَکَاذِبُونَ». وقد تحرّر فی محلّـه: أنّ الـصدق والـکذب من طوارئ الـقضایا الإخباریـة، ولا یعقل اتّصاف الإنشائیـة بما هی إنشائیـة بها. وإرجاعها إلـیٰ لـوازم الـقضیـة الإنشائیـة، خروج عن ظاهر الـکلام ومحطّ الـبحث، فلاتخلط واغتنم.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 309