الوجه الحادی عشر
حول عبارة «فإن لم تفعلوا»
ربّما یتخیّل أنّ الأبلغ هو أن یقال: «فإن لم تأتوا»؛ لأنّ الأمر الـسابق کان بالإتیان بمثلـه، وهکذا أن یقال: «ولن تأتوا».
وغیر خفیّ: أنّ الإتیان ب الـفاء فیـه من الـبلاغـة و الـلطافـة ما لایدرکـه إلاّ الأوحدی.
وبیانه: أنّ فی مقام الاحتجاج افترض الـمستدِلّ أنّ الأمر دائر بین أحد الأمرین: إمّا إرغام أنف الـمسلمین وتبعـة الـقرآن الـکریم بالإتیان بمثلـه أو الالتحاق بهم وبهذه الـثُّلّـة و الـجماعـة ب الـتقویٰ من الـنار الـکذائیـة، ولا فرض ث الـث، وإلاّ یلزم بقاء الـمخاصمـة وعدم انقطاع الـمحاجّـة الـموجودة بین الـحقّ و الـباطل.
فمن هذا الـترتّب الـمفروض بین الآیتین یستبان: أنّ الـقضیـة من الـقضایا الـمنفصلـة الـحقیقیـة.
ثمّ بعد اتّضاح هذا الأمر، لابدّ وأن یتوجّـه الـقارئ الـعلیم إلـیٰ أنّ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 455 الـمخاطب بهذه الآیـة، لیس الـبلغاء و الـفصحاء وأهل الـممارسـة و الـتمرین فی الـشعر والأدب، بل الـمخاطب جماعـة الـمرتابین ، وربّما فیهم الـبُلَغاء والاُدَباء، فدعوة الـمرتابین إلـیٰ الإتیان ب الـمباشرة غیر صحیحـة، فالأمر بالإتیان أعمّ من الإتیان مباشرة أو تسبیباً، ولابدّ من قیام الـشاهد علیٰ ذلک، وهو قولـه تع الـیٰ: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا»، فإنّ الـمرتابین یفعلون الأفاعیل و الـجدّ والاجتهاد ب الـتوسّل إلـیٰ أهل الـکلام و الـبلاغـة لإتیان الـمماثل بصرف الـدراهم و الـدنانیر أو الـتطمیع و الـتهدید وغیر ذلک من الأسباب و الـوسائل الـممکنـة، فهم یجتهدون ویفعلون الأفعال الـخاصّـة لنیل مرامهم ومقصودهم، ومنها الـتوسّل إلـیٰ الأوثان بعبادتها والأصنام ب الـذبح عندها وغیر ذلک . وعلیٰ هذا تبیّن أنّ الأبلغ قولـه تعالـیٰ: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا».
ثمّ إنّ من البلاغة تضمین الـکلام بإیجاد الـیأس فیهم، وتوجیههم إلـیٰ الـهدایـة والإسلام وإعلامهم بأنّهم لن یفعلوا؛ من غیر إفادة عجزهم وتذلیل خواطرهم وضمائرهم ب الـتهکّم و الـتعجیز، ولذلک یقال: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا»وکأنّـه إخبار عن انصرافهم عن تعقیب هذا الأمر الـعظیم، وهو الإتیان بالـمِثْل و الـمشابـه؛ ضرورة أنّ عدم الـفعل کما یستند إلـیٰ عدم الـعلم أو الـعجز وعدم الـقدرة، یستند إلـیٰ عدم الإرادة، فلوحظ هذا الـجانب فی هذا الـتعبیر أیضاً، فهاتان الآیتان آیـة فی الـبلاغـة بحسب الـدعوة إلـی الـحقّ، والاشتمال علیٰ کیفیـة الاستدلال ومراعاة الـتوجیـه إلـیٰ جانب الـحقّ؛ بمراعاة الأدب فی الـکلام و الـبحث من جهات شتّیٰ ونواحٍ مختلفـة، کما أشرنا إلـیـه، وسیظهر أیضاً بعض هذه الاُمور فی الـبحوث الآتیـة إن شاء الله تعالـیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 456