الوجه الثالث عشر
حول لسان الآیة فی الإرشاد
قد أقمنا الـقرائن الـکثیرة فی طیّ الـبحوث الـماضیـة علی أنّ هاتین الآیتین بصدد توجیـه الـناس إلـیٰ الإسلام فی ق الـب أدبیّ ولسان لیّن ومحاجّـة طیّبـة؛ من غیر أن یواجههم بصلابـة وشدّة واستهزاء وتعجیز تهکّمی، ولذلک أتیٰ ب الـفاء، فقال: «فَاتَّقُوا النَّارَ» مع أنّ الاتّقاء من الـنار لازم علیهم؛ لأنّ الـمفروض هم الـمعاندون الـعاجزون عن الإتیان بمثلـه، والآیـة بصدد إثبات تعجیزهم وإبراز ضعفهم بناءً علیٰ ما ق الـه الـمفسّرون، وأمّا علیٰ ما ذکرنا فالآیـة وردت فی محلّها، فإنّهم حیث لاتخلو ح الـهم: إمّا عن الـتمایل إلـی الـحقّ واقعاً، فتکون الـقضیـة الـشرطیـة واقعیـة؛ لعدم وجوب الاتّقاء إلاّ بعد تمامیـة الـحجّـة، وإمّا عن الـمعاندة و الـکفر الـباطنی الـمشفوع ب الـلجاج و الـضدّیـة، فتکون الـقضیـة الـشرطیـة مشتملـة علیٰ الأدب فی الـمحاورة، وافترضت أنّهم غیر واقفین علیٰ الـحقّ فلابدّ من الـفاء أیضاً.
ومن وجوه البلاغة واللطافة فی المقام: أنّ فی ضمن تثبیت الـکتاب الإلهی وتحقیق الـوحی الـسماوی، تحقیقاً للنبوّة الـخاصّـة، وفی ضمن هذا الأمر تثبیت للمعاد ووجود الـنار الـخاصّ، غیر الـنیران الـمادّیـة الـدنیویـة، وهی الـنار الـتی وقودها الـناس و الـحجارة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 458 وبعبارة اُخریٰ: اعتبرهم الإسلام بین الـخطوط خطّ الإسلام والانحفاظ من الـنار الـکذائیـة، وخطّ ضدّ الإسلام و الـوقوع فیها، وخطّ ضدّ الإسلام و الـنجاح والاستسلام من الـنار؛ وذلک لأنّهم إمّا یعجزون فیقرّون بالإسلام، فهم فی خلاص من الأمر و الـنار، وإمّا یعجزون ولایعترفون ب الـحقیقـة، فیستحقّون الـنار الـتی وقودها الـناس و الـحجارة، وقلوبهم الـقاسیـة الـتی أشدّ قسوة منها، وإمّا یأتون بمثلـه فلازم ذلک کذب دعویٰ الإسلام، وهی الـنار الـکذائیـة وکذبـه صلی الله علیه و آله وسلمنعوذَنْ بالله الـعلیم، وحیث لا سبیل إلـیٰ الـث الـث یدور أمرهم بین الأمرین الأوّلین، فعند ذلک دعاهم إلـیٰ الاتّقاء من الـمسبّب و الـنیران؛ بالاعتراف ب الـسبب، وهو الإسلام والأحکام.
ففی هذه الـدعویٰ وکیفیـة بیان الـمقصود أیضاً نوع تقریر جدید وتحریر بدیع، فإنّ الـظاهر هو أن یقال: ف الـتحقوا بالإسلام وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فاعترفوا بالله وب الـکتب و الـنبوّة، ولکنّـه لمکان أنّ عدم الاعتراف بعد هذه الـصورة، وبعد فرض عدم الإتیان بها، یستند إلـیٰ الاُمور غیر الإنسانیـة، ویرجع إلـیٰ الـمعاندات الـقومیـة والأوصاف الـرذیلـة الـجاهلیـة، لابدّ من تهدیدهم وتحذیرهم عمّا هو الـمحجوب عنهم وینتظرهم واُعدَّ لهم وهیّئ لأمث الـهم، فإنّ فی هذا الـمنهج من الـبلاغـة ما لایدرکـه أیضاً إلاّ الـوحید الـسلیم قلبـه و الـفرید الـدقیق إدراکـه، ولولا هذه الـمحاسن الـکلامیّـة والآداب الـخاصّـة الـملحوظـة حال الـمُحاجّـة وعند الـمواجهات الابتدائیـة، لما کان یعترف بالإسلام إلاّ الـقلیل. وحیث إنّ أبط الـهم اعترفوا وفرسانهم أذعنوا لها خضع الآخرون الأسفلون، وانسلک فی سلک الإسلام الـمؤمنون علیٰ وجـه استراحوا من همّ الـدنیا وشؤونها، وفارقوا مظاهر
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 459 الـمادّة ومج الـیها، و الـتحقوا من أوّل الأمر ب الـملائکـة الـمسبّحین، حشرهم الله مع الـنبیّـین و الـصدّیقین، وجزاهم الله عن الإسلام أفضل جزاء الص الـحین، فإنّ لهم حقوقاً کثیرة علیٰ أخلافهم، ولولاهم لکنّا فی ما کان فیـه آباؤنا الأوّلون وأسلافنا الـجاهلون. والله ولی الـحمد وإلـیـه الـملجأ وعلیـه الـتّکلان.
وفی تعقیب الآیـة بقولـه تع الـیٰ: «اُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ» رمز وقلب للقضیّـة الـمفروضـة إلـیٰ الـقضیّـة الـمحقّقـة؛ حتّیٰ لایخطر ببال الـمنکرین: أنّ الـقضایا الـشرطیـة لاتکون إخباراً إلاّ عن وجود الـملازمـة، وأمّا صدق الـشرط و الـمقدّم و الـت الـی فهو أخصّ منها، فلایخبر الـنبیّ الـصادق صلی الله علیه و آله وسلم عن وجود هذه الـنیران، ولکن بعد ذلک یتبیّن أنّ الـنار الـمفروضـة لیست مجرّد الـخیال و الـتصویر، بل نار حامیـة متحقّقـة معدّة ومهیّأة حاضرة لأهلها وقیٰ الله تع الـیٰ جمیع الـمؤمنین منها ووُقیْنا حسابها وشرّها. اللهمّ آمینَ یا أرحم الـراحمین.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 460