الوجه الرابع عشر
حول توصیف النار بالتی وقودها الناس والحجارة
ربّما یخطر بالبال أن یقال: إنّ الـقرآن ـ مضافاً إلـیٰ کونـه کتاب هدایـة، وینشر الـحقائق الـجامعـة لسعادة أبناء الـبشر فی کافّـة أنحاء الـخیرات، وفی جمیع الـنواحی و الـضواحی ـ یشتمل علیٰ بعض الاُمور الـتخیّلیـة والادّعائیـة، وبعض الاستعارات و الـتشبیهات الـخارقـة للعادات الأوّلیـة، و الـخارجـة عن متعارف الاستعمالات الـشعریـة و الـخطابیـة فی الـعصر الأوّل.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 460 وإن شئت قلت: إنّ الـقرآن لیس کتاب مذکّرات ولا من الـمختلقات الـشائعـة فی عصرنا الـمهیّأة للتمثیلیـة و الـمسرحیـة الـمسمّیٰ فی لغـة الأجانب بـ «رمان»، فإنّ الـقرآن أعظم شأناً وأجلّ مقاماً وأرفع درجـة عند کافّـة الأنام وعامّـة الأعلام؛ لأنّـه من الـربّ الـقادر الـعلاّم، فعلیـه کیف یقول اتّقوا الـنار الـتی وقودها الـناس و الـحجارة، فإنّ تلک الـنار مجرّد خیال وتفکّر شعری واستعمال جدید وترکیب غیر مسبوق وغیر مبیّن، ف الـتهدید والإخافـة من هذه الـنار، لایؤثر حقّ الـتأثیر فی اُفُق شبـه جزیرة الـعرب ولا فی سائر الآفاق؛ لأنّهم یظنّون أنّها نار لا واقعیّـة لها؛ لما لا عهد لهم بها، ولا سبق خارجی ـ بل ولا ذهنی ـ لهم بأمث الـها وأشباهها، فهذا خلاف الـبلاغـة جدّاً بل و الـفصاحـة.
وقد أتیٰ بها مرّة سابقـة علیٰ هذه الـمرّة فی سورة الـتحریم: «قُوا أَنْفُسَکُمْ وَأَهْلِیکُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»، وتوهّم جمع من الـمفسّرین: أنّ الإتیان بها هنا معرفـة لسبقها نکرة، ممّا لایخفیٰ شناعتـه وانحطاطـه ؛ لأنّ الـسؤال یتوجّـه إلـیٰ وجـه الـتنکیر فی الآیـة الاُولیٰ، وقد عرفت منّا: أنّ الـقرآن ناظر بأحسن الـنظرة الـع الـمیـة، ویلاحظ بأتمّ الـملاحظـة الـعلمیـة جانباً واحداً، وهو حسن الـترکیب وقبول الـطباع ولطف الـترنّم و الـوقوع فی الأسماع و الـقلوب حتّیٰ یخضعوا لـه فی أسرع الأوقات الـممکنـة، فیأتی بمعرفـة أو نکرة ملاحظاً فیـه ذلک، وهکذا فی الـتقدیم و الـتأخیر و الـجمع والإفراد، وربّما یلعب ب الـقواعد الـعامّـة رعایـة لهذه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 461 الـنکتـة الـلازمـة الـتامّـة، و الـتفصیل فی محلّ آخر.
وبالجملة: کیف الـفرار عن هذه الـعویصـة؟ فإنّ الأصحاب الأوّلین والأنداد الـمخ الـفین والأضداد والأعداء الـمُدِقِّین فی الأخذ بنقاط ضعیفـة، ینادون بأنّـه کتاب شعری ونثر أدبی، ومن الـمقامات الـعادیـة، وإلاّ ف الـنار تشوی الـوجوه وتُفنی الأناسی و الـصیاصی، وکلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً اُخر، فما هذه الـنار الـتی وقودها الـناس و الـحجارة ؟ فإنّ وقود الـنیران فی ع الـمنا أمر آخر فهو مجرّد تفکیر شعری وإلـقاء محاضری لا واقعیـة لـه.
أقول: سیظهر لک فی الـبحوث الآتیـة حقیقـة الـحال إن شاء الله تع الـیٰ، وأمّا الـمستمعون الأوّلون فربّما یتدبّرون من هذه الآیـة فی عظمـة تلک الـنار، فإنّـه إذا حصل لهم الـعلم بأنّـه أمر خارج عن قدرتهم، وأقرّوا ب الـعجز فی الإتیان بمثلـه، ینتقلون من هذا وأمث الـه إلـیٰ أمر عجیب، فیقع فی أنفسهم الـخوف و الـوحشـة بوجـه أعظم، وتقع فی نفوسهم الـخشیـة و الـدهشـة الـعظمیٰ، فیصبح الـکتاب علیٰ هذا فی أحسن وجوه الـبلاغـة؛ من غیر اختلال فی فصاحتـه بعد ذلک، فتدبّر جیّداً.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 462