الأمر السادس : حول جریان شبهة الشرط المتأخّر فی المتقدّم
مقتضیٰ ما تحرّر منّا فی ملاک بحث المقدّمة؛ عدم الفرق بین المقدّمات المتقدّمة زماناً، کالمعدّات، وبین الاُمور الدخیلة فی تحصّل المأمور به المقارنة معه زماناً، وبین ماهو المتأخّر عنه زماناً الدخیلة فی تحقّقه خارجاً. وحیث لاشبهة فی الاُولیٰ والثانیة، تصل النوبة إلی الشبهة العقلیّة فی الثالثة الآتیة من ذی قبل إن شاء الله تعالیٰ.
إن قلت : تقدّم العلل الناقصة علی المعلول، وانحفاظها إلیٰ حال استجماع شرائط التأثیر، ممّا لابأس به، کما هو المتراءیٰ فی جمیع العلل الزمانیّة، وأمّا تقدّم تلک العلّة وفناؤها، فهو أیضاً غیر ممکن؛ لأنّ فرض کونها علّة ناقصة، یناقض إمکان تحقّق المعلول عند عدمها.
قلت : هذا ما یظهر من «الکفایة» حیث أجری الشبهة العقلیّة بالنسبة إلی المقدّمة المتقدّمة زماناً. واستشکل جلّ من تأخّر عنه: بأنّ الوجدان فی المعدّات علی خلافه، غافلین عن أنّ مقصود «الکفایة» لیس ماهو الظاهر فساده، بل مقصوده هو أنّ فرض العلّة الناقصة؛ وانعدامها حین تحقّق الأثر، ممّا لایجتمعان عقلاً؛ وذلک مثل العقد المتصرّم بالنسبة إلیٰ تحقّق المعلول، وهو المعنی الإنشائیّ والملکیّة الإنشائیّة، فإنّه کیف یعقل حصول الاُمور المتأخّرة تأخّراً علّیاً، مع عدم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 30 وجود العلّة التامّة؟!
وتوهّم : أنّ آدم علیه السلام معدّ بالنسبة إلی النبیّ الأعظم ومعدوم، غیر نافع؛ لأنّ الالتزام ببقاء أثر المعدّ الأوّل مع المعدّ الآخر، یکفی لرفع الشبهة، کما هو کذلک فی المعدّات المترتّبة، ولکن لایمکن الالتزام بذلک هنا؛ ضرورة أنّ الألفاظ المعتبرة فی الإیجاب والحروف، اللاّزم استعمالها فی تحقّق الأمر الإنشائیّ، لیست ذات أثر محفوظ فی التأخّر بالضرورة، حتّیٰ یقال: بأنّ الحرف الأخیر والحرف الأوّل، کالأب والجدّ بالنسبة إلی الملکیّة والابن.
وبعبارة اُخریٰ : الأمر هنا لیس کالأمر فی صدور الفعل من الفاعل، فإنّ القدرة والعلم من شرائط تحقّق الفعل، ولکن الإرادة هی العلّة التی إلیها یستند الفعل، ویعتبر بقاء القدرة والعلم حین تأثیر الإرادة.
وأمّا الحرف الأخیر من ألفاظ الإیجاب، فلیس علّة حصول الملکیّة الإنشائیّة، بل الملکیّة تستند إلیٰ ألفاظ الإیجاب بأجمعها، فلاینبغی الخلط بین ذوات المعدّات، وبین آثارها اللاّزمة فی حصول المستعدّ فی ظرفه، فعلیه کما یشکل الأمر فی المقدّمة المتأخّرة، یشکل الأمر فی المقدّمة المتقدّمة زماناً.
ولایصحّ أن یقاس ذلک بالصّلاة؛ فإنّ الصلاة لیست معتبرة علّة؛ حتّیٰ یقال: بأنّ تصرّم أجزائها ینافی اعتبار العلّیة للمجموع، بل الصلاة نفس المأمور بها، فإذا تحقّق الجزء الأخیر فقد تحقّق المرکّب الاعتباریّ فیسقط أمره، لا أنّها علّة للسقوط، کما مضیٰ فی بحث الإجزاء.
نعم، إذا لاحظنا أنّها علّة المعراج وسبب التقرّب، فیشکل بأنّ المعلول ـ وهو التقرّب ـ إمّا یحصل بالجزء الأخیر، وهو معلوم العدم، أو یحصل تدریجاً.
وأمّا إمکان حصول ذلک مستنداً إلی التکبیرة إلی السلام، ومع ذلک عند تحقّقه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 31 لایکون للتکبیرة وجود إلاّ بنحو التموّج الهوائیّ، فهو ممّا لایمکن الالتزام به عقلاً.
نعم، یتوجّه إلیٰ «الکفایة» : أنّ البحث هنا حول أنّ الوجوب المتعلّق بذی المقدّمة، یستلزم وجوباً آخر، أم لا، وهذه المسألة ومسألة بیع الفضولیّ وأمثالها، خارجة عن الجهة المبحوث عنها فی المقام، ولایکون فی الواجبات الشرعیّة، إلاّ وتکون المقدّمات المتقدّمة علیها زماناً، باقیة بآثارها حال الإتیان بالمرکّب، فیکون الشرائط المعتبرة فی تحقّقه صحیحاً، حاصلة عند الإتیان به، وقد مضیٰ أنّ جمیع المقدّمات الوجودیّة والأجزاء الخارجیّة بذاتها ، الداخلیة بآثارها ـ وهو التقیّد المعتبر فی المرکّب ـ داخلة فی حریم النزاع ومحطّ البحث.
وأمّا حلّ هذه المعضلة، فهو هیّن بعد المراجعة إلیٰ أوسعیّة الاُمور الاعتباریّة من هذه التوهّمات الباردة؛ وأنّ العقود لیست عللاً واقعیةً للمعالیل الاعتباریّة، بل هی موضوعات أو اعتبار العلل. وأمّا مسألة صحّة بیع الفضولیّ المفروض لحوق الإجازة به من الأوّل فهی عندنا ممنوعة أوّلاً، ویأتی ماهو حلّ أمثال هذه الشبهة ثانیاً إن شاء الله تعالیٰ.
فبالجملة تحصّل : أنّ أساس الشبهة، مأخوذ من مقایسة التکوین بالتشریع والاعتبار هنا؛ ضرورة أنّه فی التکوین لایعقل کون العلّة متصرّمة الوجود ومتقضّیة الذات، والمعلولِ آنیَّ الوجود ودفعیّ التحقّق، ولکن فی الاعتباریات لیست علّیة ومعلولیّة إلاّ اعتباراً، ومعنیٰ ذلک عدم المنع عقلاً من الوحدة العرفیّة بین الأجزاء المتصرّمة، ولذلک اعتبرت الموالاة کما لایخفیٰ.
وربّما توهّم من أجل هذه الشبهة صاحب «المقالات» : أنّ الإنشاء لیس إیجاداً، بل الإنشاء هو إبراز مافی الخیال، فیکون المعانی الإنشائیّة موجودات فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 32 النفس، ومظهرات بالألفاظ، فإنّ هذا لایستلزم إشکالاً، بخلاف ما إذا قلنا بالإیجاد، فإنّ الإیجاد بالمتصرّم بالذات، لایعقل بعد تصرّم الجزء الأوّل عند تحقّق المعلول الإنشائیّ.
ولکنّک أحطت خبراً : بأنّ اعتبار المبادلة مثلاً قبل الإبراز إن کان بیعاً، فقد تحقّق ولایحتاج إلی الإبراز، فیکون الوفاء واجباً، وإن لم یکن متحقّقاً فیعلم: أنّه یتحقّق بالإبراز والاستعمال، وحیث لاسبیل إلی الأوّل یتعیّن الثانی. وما هو الجواب عنه ما عرفت: من أنّ الإیجاد الاعتباریّ لایقاس بالإیجاد الحقیقیّ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 33