البحث الثالث : فی شبهات المسألة
الشبهة الاُولیٰ :
ما أفاده «الکفایة» بتوضیح منّا: وهو أنّ غرض المولیٰ من الإیجاب التخییریّ؛ إمّا یکون واحداً بالذات والحقیقة، فعلیه یستکشف وجود جامع بین الفعلین أو الأفعال؛ لأجل أنّ الاُمور المختلفة المتباینة، لا یمکن أن یصدر منها الواحد، ولأجل اعتبار نحوٍ من السِنخیّة بین المعلول وعلّته، فلابدّ من کون ذلک الجامع هو الواجب الشرعیّ وإن کان مقتضیٰ ظاهر الأدلّة خلافه، فلا معنی للوجوب التخییریّ رأساً.
أو یکون غرض المولیٰ متعدّداً، ویکون کلّ واحد منها قائماً بفعل من تلک الأفعال الثلاثة، ولکنّه لا یمکن تحصیلها معاً؛ للمضادّة بینها، وعندئذٍ لابدّ من الالتزام بوجوب کلّ واحد منها؛ بنحوٍ یجوز ترکه إلیٰ بدل، لا مطلقاً، وعلیٰ هذا یکون التخییر شرعیّاً؛ إذ لا نعنی من «التخییر الشرعیّ» إلاّ ذلک، انتهیٰ.
ثمّ أردف کلامه بما لا یرجع إلیٰ محصّل، بل یناقض مسلکه.
ولنا تتمیم هذه الشبهة بأن نقول: وإذا کان فی الشرع الجمع بین الأطراف جائزاً، بل راجحاً، فیعلم منه أن لا مضادّة بینهما، ویستکشف بذلک أنّ ما هو الواجب حقیقة هو الجامع، فلا تخییر شرعیّ مطلقاً، فافهم واغتنم.
أقول أوّلاً: لا داعی إلیٰ إرجاع الأدلّة إلیٰ أنّ الواجب حقیقة هو الجامع؛ لأنّ من المحتمل کون المولیٰ ذا غرض متعدّد؛ لعین الأغراض المتعدّدة فی الواجبات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 7 المتعیّنة، إلاّ أنّه ـ تسهیلاً علیٰ العباد، وعدم إیقاعهم فی الکلفة والشقّة، حفاظاً علیٰ بعض الأغراض السیاسیّة العالیة یرتضی بواحد منها، ویخیّر المکلّفین فی ذلک، ولأجله یشتهی الجمع، أو یأمر بذلک أمراً ندبیّاً.
وهذا الاحتمال قریب جدّاً؛ ضرورة أنّنا فی الخصال نجد أنّ الشرع یحبّ کلّ واحدة، لأنّها الخیرات، ولکن لا یأمر إیجاباً بالنسبة إلیٰ الکلّ وإلیٰ جمیع الأطراف؛ لتلک النکتة والعلّة، فلوتمّ البرهان المزبور فلا یتمّ مقصوده.
وثانیاً: أنّ غرض المولیٰ من الواجب التخییریّ، بمنزلة حرارة الماء بالنسبة إلیٰ النار والحرکة والشمس والکهرباء، فإنّ الحرارة کما تحصل بکلّ واحد من الأطراف، کذلک غرض المولیٰ یحصل من کلّ واحد من الأفعال الواجبة تخییراً.
إن قلت: فما معنیٰ عدم صدور الواحد من الکثیر؟
قلت: کان ینبغی للکفایة ولأصحابنا الاُصولیّین أن لایدخلوا البیوت إلاّ من بابها، ومن کان له حظّ من الفلسفة العلیا، ما کان ینبغی له أن یتمسّک بتلک القاعدة فی هذه المقامات؛ فإنّ مصبّها وموردها الواحد المتوحّد بالوحدة الحقّة الحقیقیّة الأصلیّة، وفی جریانها فی سائر الوحدات البسیطة إشکال، فضلاً عن العلل والمعالیل المرکّبة، ولاسیّما الطبیعیّة منها.
إن قلت: فما معنی حدیث السنخیّة بین العلّة والمعلول؟
قلت: نعم، لو کان غرض المولیٰ الحرارة التی توجدها النار، فلا یأمر إلاّ بإیجاد النار، وأمّا إذا کانت الغایة والغرض مطلق الحرارة، فلا یأمر إلاّ بواحد منها علیٰ سبیل التخییر، وحیث نجد الأدلّة متکفّلة للتخییر، فیعلم أنّ الغرض واحد بالوحدة النوعیّة، دون الشخصیّة.
وغیر خفیّ: أنّ برهانه قدس سره لو کان تامّاً، یستلزم الامتناع الآخر العقلیّ: وهو وجود الجامع فی الخارج؛ ضرورة أنّ الحرارة الخارجیّة متقوّمة بالعلّة الخارجیّة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 8 وتلک العلّة إمّا النار، أو الکهرباء، أو الجامع بینهما، لا سبیل إلاّ إلیٰ الثالث، فلابدّ من خارجیّته، وهو واضح البطلان، فیعلم من هنا: أنّ مصبّ تلک القاعدة مقام آخر، فافهم وتدبّر.
وهنا (إن قلت قلتات) خارجة عن أفهام طلاّب الاُصول، وغیر راجعة إلیٰ محصّل فی الفنّ، وکفیٰ بذلک شهیداً.
الشبهة الثانیة
أنّ التخییر مقابل التعیینِ والتعیّنِ، والتعیّن یساوق التشخّص، والتشخّص یساوق الوجود، والوجود یقابل العدم، فیکون التخییر معنیً راجعاً إلیٰ العدم، وما کان حقیقته (اللیس) أی لا حقیقة له رأساً، کیف یمکن أن یکون متحقّقاً؟! فالتخییر غیر متحقّق، فالوجوب التخییریّ مستحیل؛ لأنّ العدم المحض لا شیء محض، ولا یتعلّق به الإرادة، ولا البعث والإیجاب، ولا التصوّر والشوق وهکذا.
وإن شئت قلت: فی التخییر تردّد، وهذا التردّد یباین الوجود؛ لأنّه عین التعیّن، فکیف یعقل تحقّق التردّد؟! من غیر فرق بین وعاء من الأوعیة؛ ذهناً کان، أو خارجاً، أو کان من قبیل وعاء الاعتبار؛ ضرورة أنّ الاعتباریّات کلّها، وجودات لحاظیّة اعتباریّة لأغراض عقلائیّة، وما هو حقیقته التردّد لایمکن الإشارة إلیه، ولا لحاظه.
ومن العجیب، توهّم العلاّمة النائینیّ قدس سره حیث قال: بإمکان تعلّق الإرادة التشریعّیة والآمریّة بشیء غیر معیّن، أو بکلّ واحد من الأطراف علیٰ سبیل البدلیّة، مستدلاًّ بالفرق بین التکوینیّة الفاعلیّة، وبین التشریعیّة الآمریّة؛ ضرورة أنّ التکوینیّة لا یمکن تعلّقها بالکلّی، بخلاف الآمریّة، فإنّها لا تتعلّق إلاّ بما هو الکلّی!!
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 9 وأنت خبیر: بأنّ حقیقة الإرادة التشریعیّة لیست إلاّ إرادة البعث، وهی تکوینیّة کسائر الإرادات، وسبب عدّها تشریعیّة أنّها تعلّقت بالبعث والتشریع والتقنین، فإذن کیف یعقل تعلّقها بما هو اللاتعیّن؟!
وبعبارة اُخریٰ: تشخص الإرادة بالمراد، وهذا یرجع إلیٰ أنّ وجودها به علیٰ حذو سائر الأوصاف الإضافیّة، وکما لا یعقل تعلّق الإرادة الفاعلیّة إلاّ بالمعیّن، کذلک لا یعقل الأمر فی جانب تلک الإرادة؛ لأنّها بالمراد تتشخّص وتوجد.
وتوهّم: أنّ المراد فی الإرادة الفاعلیّة جزئیّ، وفی الآمریّة، کلّی، غیر تامّ؛ فإنّ المراد فی الآمریّة هو البعث نحو الکلّی، وهذا أمر جزئیّ یوجد بالإشارة وبالشفتین، ویکون من قبیل أفعال النفس، وإن کان لکلّ واحد من مبادئ هذا البعث أیضاً إرادة خاصّة، کسائر الأفعال التی تتعلّق بها الإرادة، وتکون متقوّمة بمقدّمات وخطوات، فلاحظ جدّاً.
فما هو المراد هو بعث الناس إلیٰ المادّة، وهو إذا تحقّق یکون جزئیّاً، حذو سائر أفعاله، وما هو الکلّی هو متعلَّق ذلک البعث؛ حسب المفهوم المعلوم منه للمخاطب، وهو لیس مورد الإرادة.
وإن شئت قلت: الإرادة فی اُفق النفس تعلّقت بما هی موجودة فی النفس، وتکون من صفاتها، فتکون جزئیّة خارجیّة، وأمّا کلّیتها فباعتبار نفس طبیعة المراد، مع قطع النظر عن هذا اللحاظ النورانیّ الساطع علیه.
أقول: وفی ختام هذه الشبهة تقریب آخر ینشعب منها: وهو أنّ کلّ موجود إذا صحّ اتصافه بشیء، فذلک الشیء إمّا یکون بنفسه خارجیّاً، أو وإن لم یکن خارجیّاً، ولکنّه ذهنیّ، والاتصاف به خارجیّ، کما فی المعقولات الثانیة علیٰ مصطلحات أرباب الحکمة مثل الوجوب والإمکان.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 10 ومن القسم الثانی جمیع الاُمور الاعتباریّة؛ فإنّها عناوین ذهنیّة، إلاّ أنّ للاعتبار عرضاً عریضاً، ولأجله یعتبر الشیء فی الخارج من غیر اشتغال الخارج به تکویناً، وذلک مثل الملکیّة والحریّة والرقیّة وغیرها، ومثل الوجوب والندب التعینیّین، فإنّ الشیء یوصف بالبیاض معیّناً، وبالوجوب والإمکان معیّناً، وبالوجوب والندب معیّناً، ولکن لا یوصف بالبیاض التخییریّ، أو بالملکیّة التخییریّة، أو الإمکان والوجوب التخییریّین، فکیف یوصف بالوجوب التخییریّ، وکیف یصحّ أن یقال: «هذا واجب وموصوف بالوجوب التخییریّ»؟!
ولو صحّ فی الاعتباریّات ذلک، لصحّ أن یقال: «هذا موصوف بالملک التخییریّ» أی مردّد بین کونه لزید أو لعمر بالتردید الواقعیّ، وإلاّ ففی موارد العلم الإجمالیّ یتردّد المعلوم بالإجمال بین الأطراف، ولکنّه لیس تردّداً واقعاً، بل هو متعیّن واقعاً، ومجهولة بعض خصوصیّاته، مثل خصوصیّة مقولة الأین فی الخمر، والتردّد بین کونها فی هذا الإناء ، أو الإناء الآخر، فلعدم الاطلاع علیٰ بعض الخصوصیّات، مع الاطلاع علیٰ أصل وجوده فی البین، یقال: «إنّ المعلوم مردّد بین کذا وکذا».
ولأجل مثل هذا قیل: «إنّ فی الواجب التخییریّ یکون الواجب أحد الأطراف معیّناً» ولعلّ من یقول بذلک یعتقد بعدم وجوب الموافقة القطعیة هنا، ویکفی الموافقة الاحتمالیّة، فلاحظ وتدبّر.
أقول:
اعلم أوّلاً: أنّ الأغراض فی الواجبات التخییریّة ـ بنحو کلّی تکون مختلفة:
فتارة: یمکن أن یکون للمولیٰ أغراض إلزامیّة، إلاّ أنّ مصلحة التسهیل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 11 تقتضی عدم إیجاب الکلّ، کما تقدّم.
واُخریٰ: تکون الأغراض متضادّة غیر قابلة للجمع، وکلّها إلزامیّة.
وثالثة: أن یکون له غرض وحدانیّ، ولکنّه یحصل بالمحصِّلات المتعدّدة، إلاّ أنّ لعدم إمکان الإشارة إلیه، أو للأغراض الاُخر، أوجب تلک الأسباب والمحصّلات، ولابدّ من إیجابها تخییراً أیضاً، کما هو الواضح، أو لعدم وجود الجامع أحیاناً بین المحصِّلات، وإن کان الغرض الوحدانیّ نفسه الجامع، کما تریٰ.
وثانیاً: أنّ مفهوم «التخییر» من جملة المفاهیم الانتزاعیّة التی لها المنشأ الخاصّ الخارجیّ، ویستعار للاستعمال فی الموارد المشابهة لذلک المنشأ، أو یدّعیٰ تشابهها معه.
مثلاً: مفهوم الربط والنسبة من المفاهیم الاسمیّة، المنتزعة من المعانی الاسمیّة؛ لعدم إمکان انتزاع المفهوم الاسمیّ من الحقیقه الحرفیّة، ولکنّه یستعار لإفادة تلک الحقیقة؛ لمشابهتها مع منشأ انتزاع مفهوم «الربط والنسبة» ضرورة أنّ المعنی الحرفیّ غیر قابل لأن یخبر عنه، أو یعبّر عنه مستقلاًّ؛ لأنّه غیره، کما تقرّر تفصیل المسألة فی مباحث المعانی الحرفیّة.
فعلیٰ هذا تبیّن: أنّ مفهوم «التخییر والاختیار» من المفاهیم الانتزاعیّة عن صفة الاختیار الموجودة لکلّ إنسان، بل وحیوان، ویستعار لإفادة أنّ المکلّف بالنسبة إلیٰ الأطراف بالاختیار، بخلاف الواجب التعیینیّ، فإنّه کأنّه لیس مورد الاختیار، بل هو بالنسبة إلیه خارج عن الاختیار توهّماً.
فعند ذلک نقول: إنّ المولیٰ فی تلک الحالات من الأغراض، یتصوّر کلّ طرف، ویشتاق إلیٰ کلّ طرف، ویرید کلّ واحد من الأطراف بالإرادة المستقلّة، ویبعث إلیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 12 کلّ واحد من الأطراف تعییناً فی عالم البعث والإرادة، فلا تکون إرادة واحدة بالنسبة إلیٰ المردّد، بل هناک إرادتان، أو إرادات متعدّدة، فیرید بها بعث الناس إلیٰ کلّ طرف، ولکنّه لمکان أنّ الأغراض کانت علی النحو المزبور، فلابدّ له من إفادة أنّ العبد مختار بالنسبة إلیٰ کلّ واحد من الأطراف، وإن کان بالنسبة إلیٰ ترک الکلّ غیر مختار، وعند ذلک یأتی بکلمة تفید ذلک الاختیار؛ سواء کانت من الحروف، أو کانت من الأسماء.
بل ربّما یتمکّن المولیٰ من إفادة الاختیار بعد إیجاب الکلّ تعییناً؛ فإنّه إذا بعث إلیٰ الکلّ، ثمّ توجّه إلیٰ لزوم مراعاة السهولة والتسهیل، أو توجّه إلیٰ أنّ الغرض لیس من قبیل الأغراض فی التعیینیّ، فیأتی بالقرینة المنفصلة لإفادة ذلک بجعل العبد بالخیرة.
وإذا أمر بالاختیار فیکون کلّ طرف مورد الاختیار والخیرة؛ بلحاظ الاختیار الثابت للإنسان، وفی مقابل الوجوب التعیینیّ المخرج عن الاختیار فی عالم الادعاء والتخیّل، لا فی الواقع؛ انّما قراءة القرآن «مَا کَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاٰ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَی الله ُ وَرَسُولُهُ أمْرَاً أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ» مع أنّ التکلیف فرع الاختیار، فهذا النفی بلحاظ الوجوب المنافی للاختیار توهّماً، ولذلک إذا قضیٰ بنحو الواجب التخییریّ أیضاً ما یکون لهم الخیرة بالنسبة إلیٰ ترک الکلّ.
وبالجملة: تحصّل حتّی الآن، أنّ التردّد لیس فی جمیع المبادئ، ولا فی التوصیف، بل معنیٰ «أنّ هذه الشیء موصوف بالوجوب التخییریّ» أنّه موصوف بالوجوب غیر المنافی للاختیار فی عالم الاعتبار والادعاء، فتوصیف الوجوب بـ «التخییریّ» لإفادة أنّ العبد بالخیرة بالنسبة إلیٰ ترک هذا الطرف بخصوصه، فافهم واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 13
الشبهة الثالثة
فی کثیر من الواجبات التخییریّة، ینتقل ذهن العرف إلیٰ الجامع القریب، ویؤیّد ذلک ببعض القرائن الموجودة فی الأدلّة الخاصّة.
مثلاً: فی الخصال ینتقل الناس إلیٰ أنّ المولیٰ یرید تکفیر الذنب، وحطّ الخطیئة، فإذن یتوجّه إلیٰ أنّ ما هو الواجب هو الجامع القریب.
بل المتبادر من الواجبات التخییریّة: أنّ المولیٰ ذوغرض وحدانیّ یحصل بتلک المحصِّلات، فما هو الواجب والمطلوب بالذات، هو الجامع ولو کان بعیداً.
وأمّا إفادة مرامه بنحو التخییر؛ فهو إمّا لأجل عدم وجود اللفظ الواقعیّ لفهم المرام منه، أو لأجل أنّ إیجاب الجامع غیر کافٍ؛ لأنّه لا یحصل بمطلق السبب، بل سببه خاصّ بین الثلاثة والأربعة مثلاً، فلابدّ من إفادة ذلک السبب الخاصّ، فعلیه تکون الأدلّة فیباب إفادة الواجب التخییریّ، ناظرةً إلیٰ ذلک عرفاً وإن لا یلزم عقلاً.
بل ربّما یمکن دعوی عقلیّته؛ لأنّ ما هو الواجب النفسیّ التعیینیّ هو الغرض، دون الأسباب المنتهیة إلیه.
قلت: قد فرغنا من هذه الشبهة فی تقسیم الواجب إلیٰ النفسیّ والغیریّ، وذکرنا هناک: أنّه لا یجوز للعاقل البصیر الخلط بین مصبّ الإیجاب، وبین الأغراض، وإلاّ یلزم انحصار الوجوب النفسیّ بالشیء الواحد البسیط، فلابدّ من المحافظة علیٰ الأدلّة وظواهرها، کما یحافظ فی الواجبات النفسیّة التعیینیّة؛ من غیر فرق بین کونها من ذوات الجوامع القریبة، أو لم تکن منها.
نعم، ربّما تکون الأدلّة لأجل اقترانها بالقرائن، ظاهرة فی إفادة ذلک الجامع القریب، ولا سیّما فی غیر الواجبات التکلیفیّة، کالتخییر فی القصر بین خفاء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 14 الجدران والأذان، فإنّه ـ حسب ما قرّبناه فی محلّهـ یکون دلیله ناظراً إلیٰ إفادة بُعْد معیّن، ومقدار خاصّ من البعد عن البلد، ویکون هو السبب للانقلاب، دون الخصوصیّات المأخوذة فی الدلیل.
الشبهة الرابعة
ما مرّ من الشبهات کان راجعاً إلیٰ مقام الجعل والتشریع، وهنا شبهة فی مقام الامتثال المستلزمة للإشکال فی مقام الجعل:
وهی أنّ مقتضیٰ بناء الفقهاء فی الواجبات التخییریّة، جواز الجمع بین الأطراف فی زمان واحد بالضرورة، وعلیٰ هذا یتوجه السؤال عمّا به یتحقّق الامتثال؟ ولا یعقل الإهمال الثبوتیّ، ولایمکن تعیین أحدها، ولا کلّها:
أمّا الأوّل: فللزوم الترجیح بلا مرجّح.
وأمّا الثانی: فلأنّ الوجوب الواحد یسقط بالواحد.
وأمّا توهّم: أنّ الجامع هو المسقط، فهو ممتنع؛ لعدم کونه مورد الأمر، ولا موجوداً آخر وراءهما.
فعلیه لابدّ من دعویٰ: أنّ الجامع هو مورد الأمر، ویکون الإتیان بهما موجباً لسقوط الأمر، کما إذا جمع بین المصداقین من الصدقة فیما کانت الصدقة مورد الأمر، فیثبت انتفاء الوجوب التخییریّ مطلقاً، إلاّ فیما لا یمکن جمعهما عرضاً.
أقول: قد مضیٰ فیما سبق، أنّه فی الواجب التخییریّ تکون الإرادة والإیجاب والبعث متعدّدة؛ حسب تعدّد الأطراف، والمفروض جواز اجتماع الأطراف أیضاً، فیعلم منه أنّ الأغراض لیست متضادّة، فعلیه یکون الجمع بینها موجباً لتحصیل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 15 جمیع مقاصد المولی المقاصد الإلزامیّة، ولا إهمال ثبوتیّ.
نعم، إذا کان ذا غرض واحد، وکان واحداً مرکّباً، فیمکن أن یحصل بعض الغرض ببعض منه، ولکن الامتثال حصل فی کلّ طرف؛ لأنّ فی کلّ ناحیة أمراً قد أتیٰ بمتعلّقه العبد والمکلّف، ویکون ذلک سبباً لسقوط ذلک الأمر وإن کان بسیطاً وواحداً بالشخص، فتصیر الأطراف متعاضدة فی إیجاده، ومتداخلة فی العلّیة، کما إذا زهق روح المقتول بضربتین من الشخصین، فإنّ الإزهاق یستند إلیٰ المعنی الجامع الحاصل من ضربتیهما خارجاً.
فبالجملة تحصّل: أنّه من اجتماع الأطراف، لایلزم کون الواجب التخییریّ واجباً تعیینیّاً.
وغیر خفیّ: أنّ ما هو المتعارف الواقع فی الواجبات التخییریّة، هو الفرض الأوّل؛ وهو تعدّد الأغراض حسب تعدّد الأطراف، مع وحدة الغرض الأعلی الحاصل بکلّ طرف، ولا یکون واحداً شخصیّاً، وإذا تعدّد الأمر والإیجاب والإرادة یکون الجمع مسقطاً بالنسبة إلیٰ الکلّ، والعبد ممتثلاً امتثالاً راقیاً.
فبالجملة: تبیّن لحدّ الآن؛ أنّ شبهات الواجب التخییریّ، لا تورث صرف الأدلّة عن ظاهرها، وعمّا هو مقتضی الأصل العقلائیّ.
نعم، ربّما یتوجّه بعض شبهات بالنسبة إلیٰ صنف خاصّ من الوجوب التخییریّ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 16