شرائط اندراج العنوانین اللذین بینهما عموم وخصوص من وجه
بقی البحث فی شرائط اندراج العناوین التی بینها نسبة العموم والخصوص من وجه، فالذی هو التحقیق وهو المیزان والملاک فی دخول کلّ شیء فی محطّ الکلام فی المقام: هو أنّ مصبّ الأمر والنهی إذا کان بحیث لا یرجعان إلیٰ وحدة المتعلّق فی مقام الجعل والتقنین، یکونان مندرجین فی بحث الاجتماع والامتناع؛ سواء کانا من العناوین العرضیّة، أو الذاتیّة، أو المختلفة منهما، وسواء کانا من العناوین التی تتعلّق بها الإرادة أوّلاً وبالذات، أو کانا من العناوین التی تتعلّق بها الإرادة باعتبار تعلّقها بمناشئ وجودها المعبّر عنها ب «الأسباب التولیدیّة» فإنّ النظر إلیٰ أنّ مع الاختلاف فی عالم الجعل والتقنین، یمکن أن یدّعی أحد عدم امتناع اجتماع الإرادتین فی المجمع، بخلاف ما إذا کانا متّحدین فی موقف تعلّق الإرادة، فإنّه لا یتفوّه أحد بإمکانه.
وبعبارة اُخریٰ: قد مرّ میزان النزاع وملاک الخلاف فی المسألة، وإجماله أنّ التلازم الدائمیّ بین العناوین المختلفة عنواناً ومفهوماً، یمنع من اتصافهما بالأحکام المتضادّة المتمانعة.
وأمّا إذا کان التلازم غیر دائمیّ، فإن کان من قبیل المطلق والمقیّد فهو أیضاً ممنوع؛ للزوم کون متعلّق الحکمین المختلفین واحداً، وهو أیضاً محال، خلافاً لما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 146 نسب إلی «الفصول».
وأمّا إن کان من قبیل العامّین من وجه، فحیث لا یکون التلازم دائمیّاً، ولا یلزم وحدة متعلّق الحکمین، فلا مانع من دعویٰ إمکان ترشّح الإرادتین والحکمین المتمانعین علیهما فی المجمع، ویصیر مورد النزاع نفیاً وإثباتاً.
إن قلت: «إذا کان الأمر متعلّقاً بالطبیعة، والنهی منحلاًّ إلی الأفراد کما هو المعروف عنهم، یلزم کون النسبة بین جمیع العناوین عموماً وخصوصاً مطلقاً؛ ضرورة أنّها فی المجمع تکون الصلاة مورد الأمر ومصداق الغصب، وهی الصلاة مورد النهی، ولا شبهة فی أنّ نسبتهما عموم وخصوص مطلقاً».
قلت: هذا ما أفاده العلاّمة الاُستاذ البروجردیّ فی آخر مباحث المسألة، وهو منه عجیب وواضح فساده.
فتحصّل: أنّ التلازم الدائمیّ، ولزومَ وحدة المتعلّق فی مقام الجعل والتقنین علیٰ سبیل منع الخلوّ، یمنع من جریان النزاع، وفی العامّین من وجه ـ بجمیع صورهما وأقسامهما لا یلزم شیء منها، فما أفاده القوم أحیاناً فی شرائط اندراجهما فی محطّ البحث، کلّه مخدوش وممنوع جدّاً، ولا یتفوّه بذلک إلاّ من تغافل عن میزان البحث وملاک النزاع.
وتوهّم: أنّ الکلام حول السرایة وعدم السرایة، أو حول الترکیب الاتحادیّ والانضمامیّ، أو غیر ذلک، ممّا لا ینبغی أن نحوم حوله، وإلیک نبذة منها:
الأوّل: ما یظهر من الوالد المحقّق ـ مدّظلّه من أنّ العنوانین إذا اُخذ مفهوم أحدهما فی متعلّق الآخر کقوله: «صلّ الصبح» و«لا تصلّ فی المغصوب» فیشکل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 147 جریان النزاع فیه؛ لعین ما مرّ فی المطلق والمقیّد وإن کان بینهما العموم من وجه.
وفیه: أنّ ما مرّ فی المطلق والمقیّد هو لزوم وحدة المتعلّق ثبوتاً وواقعاً، لاوهماً وتخیّلاً ولفظاً، فإذا کان بینهما الاختلاف فی عالم التقنین من غیر تلازم دائمیّ بینهما، فلا منع من جریانه ولفظة «الصلاة» المشترکة بین العنوانین لا تستلزم وحدة المتعلّق بعد کون کلّ واحد من المتعلّقین مقیّداً بقید مخصوص به، وإلاّ یلزم خروج صورة اُخریٰ من محطّ النزاع؛ وهی ما إذا کانت لفظة «الصلاة» مثلاً مشترکة بین المعنیین المختلفین فإنّه لأجل وحدة اللفظ لا یلزم الخروج، کما لا یخفیٰ وتدبّر.
الثانی: ما أفاده العلاّمة النائینیّ قدس سره: «وهو أنّه لابدّ وأن تکون نسبة العموم من وجه، بین نفس الفعلین الصادرین عن المکلّف بإرادة واختیار، اللذین تعلّق بهماالطلب الأمری والنهی، کما فی مثل الصلاة والغصب.
وأمّا إذا کانت النسبة بین الموضوعین، کما فی «العالم» و«الفاسق» فی مثل قوله: «أکرم العالم» و«لا تکرم الفاسق» فهو خارج عن محلّ البحث؛ لما عرفت من أنّ الترکیب فی مثل ذلک یکون علیٰ جهة الاتحاد، ویکون متعلّق الأمر بعینه هو متعلّق النهی؛ من غیر فرق بین أنحاء العمومات الاُصولیّة، والبدلیّة، والشمولیّة، فإنّه فی الجمیع ینبغی إعمال قواعد التعارض» انتهیٰ.
الثالث: ما أفاده أیضاً قدس سره بقوله: «لیس من مسألة الاجتماع ما إذا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 148 کانت النسبة بین العناوین المتولّدة من الفعل الصادر عن المکلّف، کما إذا کان للفعل عنوانان تولیدیّان تکون النسبة بینهما العموم من وجه، کما إذا أکرم العالم المأمور بإکرامه والفاسقَ المنهیّ عن إکرامه بفعل واحد تولّد منه کلّ من الإکرامین؛ بأن قام قاصداً به التعظیم لکلّ منهما، فإنّه لیس من هذه المسألة؛ لما مرّ».
الرابع: ما یظهر من بعض آخر؛ وهو أنّ العناوین إذا کانت بالنسبة إلیٰ المجمع من قبیل المحامیل بالضمیمة، فهی داخلة فی محطّ البحث؛ لأنّ مبادئ تلک المحمولات بالضمیمة، مختلفة حیثیّةً وخارجاً وبحسب التکوین، ویکون النزاع فی أنّ الأمر یتجاوز إلیٰ حیثیّة النهی، أم النهی إلیٰ حیثیّة الأمر، أم لا.
وأمّا إذا کانت العناوین خارجات المحمول وذاتیّ باب البرهان کلاًّ، أو کان أحدهما بالنسبة إلیٰ مورد الآخر خارج المحمول، وإن کان الآخر محمولاً بالضمیمة بالنسبة إلی الموضوع الخارجیّ، فهی غیر قابلة للبحث عنه امتناعاً واجتماعاً؛ ضرورة أنّ ما هو مورد الأمر مثلاً یکون عین ما تعلّق به النهی.
مثلاً: إذا کان الشرب واجباً، والتصرّف فی مال الغیر حراماً، فإنّه لامعنیٰ لدعوی الاجتماع فی مورد الشرب؛ لأنّ حیثیّة التصرّف فی مال الغیر عین حیثیّة الشرب، وعلیٰ هذا یشکل کون المثال المعروف ـ وهو الصلاة والغصب صحیحاً.
أقول: لا نحتاج إلیٰ مزید تأمّل فی توضیح مفاسد هذه الآراء الناشئة من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 149 الغفلة عن ملاک النزاع وأساس البحث فی مسألة الاجتماع، وقد عرفت أنّ اختلاف العناوین مفهوماً، یستلزم اختلاف مبدأ نیلها ولو اعتباراً، فلا یعقل انتزاع الشرب والغصب من شیء واحد بجهة واحدة.
وقد عرفت: أنّ مسألة الترکیب الاتحادیّ والانضمامیّ فی الکتب العقلیّة، لیست علی الوجه الصحیح، فضلاً عمّا أراد منه علماء هذا الفنّ الاعتباریّ، وسیظهر فی المقاصد الآتیة مناسبات بعض التوضیحات حوله.
ولعمری، إنّ من التدبّر فیما أسلفناه فیما هو ملاک البحث، وما ینبغی أن تحوم حوله الآراء، یظهر المفاسد الکثیرة فی کلمات الأعلام وفی تقاریرهم. مع أنّ فی جمع منها الاشتباهات الآخر، وسیظهر بعض منها فی البحوث الآتیة إن شاء الله تعالیٰ.
وخلاصة الکلام: أنّ العقل حاکم بعدم إمکان ترشّح الإرادة الآمرة والزاجرة بالنسبة إلی المتعلّق الواحد، وهکذا بالنسبة إلی العنوانین المتلازمین دائماً، مثل «الصلاة» و«العبادة» بناءً علیٰ کون العبادة منحصرةً مصداقاً فی الصلاة. وهکذا بالنسبة إلیٰ العنوانین المتلازمین من طرف واحد؛ أی یکون التلازم الدائمیّ من طرف کما فی المطلق والمقیّد.
وإنّما الخلاف فی العنوانین غیر المتلازمین، ولکن قد یتّفق التلازم بینهما أحیاناً فی مصداق، فإنّه محلّ المناقشة والمناظرة بین الامتناعیّ والاجتماعیّ،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 150 فالامتناعیّ یقول: بأنّ التلازم الأحیانیّ یستلزم الخلل فی إحدی الإرادتین: الآمرة، والزاجرة، ولا یمکن التحفّظ علیٰ بقائهما فی المجمع، والاجتماعیّ ینکر علیه ذلک؛ بدعویٰ أنّ التلازم الأحیانیّ بحسب الاتفاق، لا یورث قصوراً فی الإرادتین المذکورتین، فافهم واغتنم.
فعلیٰ ما تقرّر، تندرج جمیع الصور؛ لاختلاف العناوین فیها فی مرکز التقنین، من غیر لزوم الوحدة فی المتعلّق مع عدم التلازم الدائمیّ من الطرفین، أو من طرف واحد بینهما:
أمّا عدم التلازم فظاهر واضح.
وأمّا عدم توحّد المتعلّق؛ فلأنّ فی مثل «أکرم العالم» و«لا تکرم الفاسق» وإن کان مادّة الإکرام واحدةً، إلاّ أنّ بالإضافة إلیٰ متعلّق المتعلّق یتعدّد؛ فإنّ ما هو الواجب فی ناحیة الأمر هو إکرام العالم، وهذا عنواناً غیر عنوان «إکرام الفاسق» بالضرورة، ولأجله تکون النسبة بینها العموم من وجه.
إن قلت: لو کان الواجب إکرام العالم؛ بحیث یکون المتعلّق هو المادّة المضافة إلی العالم، لکان یجب تحصیل العالم لإکرامه؛ قضاءً لحقّ إطلاق الهیئة، فما هو الواجب هو الإکرام المضاف إلیٰ ما هو مفروض الوجود، ویکون تحت دائرة الطلب؛ بحیث لا یجب تحصیله.
قلت: نعم، إلاّ أنّه لا یضرّ بما هو مورد نظرنا؛ ضرورة أنّ القضیّة ترجع إلیٰ أنّه یجب إکرام العالم إذا کان العالم موجوداً، فإذا کان القید موجوداً، یلزم الاجتماع فیما إذا أکرم بالإکرام الواحد العالم والفاسق، ویکون التلازم الأحیانیّ بین العنوانین مورد البحث نفیاً وإثباتاً، نظیر ما إذا ورد «صلّ فی المسجد» و«لا تغصب» فإنّ الهیئة فی جانب الأمر بالنسبة إلیٰ لزوم بناء المسجد بلا دعوة، فإذا کان المسجد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 151 موجوداً تجب الصلاة، فلو صلّیٰ فیه علی الفرش المغصوب یلزم الاجتماع فی المجمع الواحد، کما لا یخفیٰ.
والعجب ما قد توهّم من لزوم کون العنوانین من المحمولات بالضمیمة بالنسبة إلی المجمع، وإلاّ یلزم اتحاد المتعلّق، فیکون النزاع المعروف فی مثل شرب الماء والغصب غیر جارٍ؛ لأنّ الغصب عین الشرب! ولا أظنّ أنّه التفت إلیٰ ما یقول؛ ضرورة أنّ الغصب لا یعقل أن یکون عین الشرب بالحمل الأوّلیّ.
وإذا کان عینه بالحمل الشائع فیلزم خروج جمیع الأمثلة؛ لأنّ الاتحاد فی المجمع یستلزم العینیّة إجمالاً، فإنّ الغصب عین الصلاة، والتصرّفَ فی مال الغیر عین الذکر والقراءة وهکذا؛ وذلک لما عرفت: من أنّ اختلاف العناوین مفهوماً، یستلزم اختلاف جهة الصدق خارجاً، ولا یعقل الاتحاد فی الحیثیّة بالضرورة.
وأعجب من ذلک توهّم: أنّ فی مثل الأفعال التولیدیّة کالتعظیم، یلزم اتحاد المتعلّق؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمسبّب یرجع إلی السبب، ویکون الواجب هو القیام، والمحرّم هو القیام!! مع أنّک أحطت خبراً بفساد الکبریٰ. مع أنّ القیام وحده لیس مورد الأمر والنهی، بل القیام للفاسق مورد النهی، وللعالم مورد الأمر، وبینهما الاختلاف الواضح کما تریٰ.
والأعجب من الکلّ توهّم: أنّ العناوین الاشتقاقیّة خارجة عن محطّ البحث؛ لأنّ جهة الصدق حیث تکون تعلیلیّة، فلا محالة یکون المجمع واحداً، فإن زیداً فی مثل «أکرم العالم» و«لا تکرم الفاسق» یجب إکرامه؛ لأنّه عالم، ویحرم إکرامه؛ لأنّه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 152 فاسق، ومن الظاهر لزوم الالتزام بالامتناع قطعاً!!
وفیه أوّلاً: أنّه یتوجّه عین ذلک إلی الکون الغصبیّ والصلاة، فإنّه واجب وحرام؛ لأنه صلاة وغصب.
وثانیاً: زید لیس بواجب إکرامه، ولا بحرام إکرامه، بل العالم واجب الإکرام، والفاسق محرّم الإکرام، وما هو مصداق ذاتیّ للعنوانین مورد الإیجاب والتحریم، وهو بحسب الوجود واحد، وبحسب الصدق کثیر، فإذن نقول: زید العالم بما هو عالم واجب، وزید الفاسق بما هو فاسق محرّم، وهذان العنوانان مختلفان مفهوماً وصدقاً، ومتّحدان مجمعاً.
إن قلت: شخص زید مشترک بین المأمور به والمنهیّ عنه؛ لأنّ الذات المبهمة مأخوذة فی المشتقّ.
قلت: نعم، ولکنّه لا یورث عدم تعدّد العنوان علی الوجه اللازم فیما نحن فیه، کما هو الظاهر، فتأمّل جیّداً.
إن قلت: اتفق الأصحاب ـ رضوان الله علیهم ـ علیٰ دخول العامّین من وجه فی باب التعارض.
قلت: نعم، ولکنّه عندنا مخدوش جدّاً؛ لعدم التعارض بینهما فی المدلول والجعل، والتعارض الخارجیّ بالعرض منوط بالعلم خارجاً بکذب أحدهما، وهو لا یمکن إلاّ علی القول بالامتناع کما عرفت منّا فی البحوث السابقة والاتفاق المزبور لا ینفع شیئاً؛ فإنّ «الحَقّ أحَقُّ أنْ یُتَّبَعَ» من عقول الرجال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 153