الأمر الثالث : حول اعتبار المندوحة
إنّ فی اعتبار شرطیّة المندوحة وعدم اعتبارها، أو إضرارها بالنزاع، أو التفصیل فی المسألة، وجوهاً وأقوالاً لا بأس بالإشارة إلیها إجمالاً؛ حتّیٰ یتبیّن الحقّ ویستبان حدوده:
الوجه الأوّل :
ما هو صریح «الدرر» وبعض آخر «من أنّ النزاع فی مسألة اجتماع الأمر والنهی، بعد الفراغ من صدور الأمر والنهی عن جدّ، وهو لا یعقل إلاّ فیما إذا کان العبد متمکّناً من امتثال کلّ واحد منهما، ولو لم یکن یتمکّن من الامتثال ـ بأن لا یجد أرضاً مباحة یقیم فیها الصلاة فلا یکون أمر فی البین حتّیٰ یتنازع فی اجتماعه مع النهی؛ لأنّ الصلاة فی المغصوب لیست مورد الأمر، والصلاة المطلقة غیر مقدورة.
وبعبارة اُخریٰ: الممتنع الشرعیّ کالممتنع العقلیّ، فلابدّ من وجود المندوحة حتّیٰ لا یلزم التکلیف بالمحال المستتبع للتکلیف المحال مع الالتفات والتوجّه، کما هو الظاهر».
ویظهر منه قدس سره أنّ المسلّم عند الکلّ عدم الجواز والامتناع؛ لقبح التکلیف بما لایطاق فی صورة عدم المندوحة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 177
الوجه الثانی :
لا یعتبر قید المندوحة فی صحّة نزاع الاجتماع والامتناع فی مرحلة الجعل والإنشاء؛ لأنّ البحوث الاُصولیّة تکون فرضیّة وحیثیّة، فالأمر والنهی فرضیّان، والبحث حیثیّ ؛ أی یکون حول أنّ الأمر المتعلّق بشیء، والنهیَ المتعلّق بالعنوان الآخر، هل یتداخلان وتلزم الوحدة فی المتعلّق فی وعاء الجعل، أو فی وعاء الخارج، ویتجاوزان إلیٰ أنفسهما، أم لا؟ ولا یلزم المحالیّة من هذه الجهة، وأمّا لزوم الاستحالة من المناشئ الاُخر فلا ربط له بهذه المسألة.
أقول: وأنت خبیر بعدم التهافت بین المقالتین؛ الاُولیٰ وهذه الثانیة الظاهرة من «الکفایة» وبعض المحشّین؛ لأنّ المفروض فی الاُولیٰ أنّ الأمر والنهی الفعلیّین، هل یعقل اجتماعهما فی المجمع، أم لا؟ والفعلیّة منوطة بالقدرة، وهی لا تکون إلاّ مع المندوحة، والمفروض فی الثانیة عدم الفعلیّة؛ وأنّ البحث حیثیّ، فکلاهما یقبلان اعتبار القید ولا اعتباره؛ حسب اختلاف نظرهما إلی المسألة وإلی الجواز الفعلیّ ولا جوازه، فلا تخلط.
ومن هنا یظهر: أنّ القائلین بصغرویّة النزاع، إن کانوا یبحثون بحثاً حیثیّاً ـ وهو امتناع اجتماع الأحکام المتضادّة فی المجمع وعدمه، وامتناع السرایة وعدمه، من غیر النظر إلی الجهة الاُخریٰ فلابدّ وأن لا یعتبروا قید المندوحة.
وإن کانوا ناظرین إلی الأمر والنهی الفعلیّین؛ وأنّهما لا یسریان إلیٰ متعلّق الآخر، ولا یتعانقان فی المجمع، فلابدّ وأن یکون الأمر فعلیّاً، وهو عندهم لا یعقل إلاّ مع القدرة علیٰ الامتثال، فلابدّ من وجود المندوحة، فمناط اعتبار قید المندوحة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 178 وعدمه هذا الأمر، دون غیره.
ومن هنا یظهر ما فی إفادة السیّد الوالد ـ مدّظلّه : من أنّ قضیّة الصغرویّة عدم اعتبار المندوحة قطعاً.
فبالجملة تارة: یکون النزاع حول لزوم وحدة المتعلّق وعدمه، ویکون بحثاً حیثیّاً، فلا وجه لاعتبار المندوحة.
واُخریٰ: لا یکون حیثیّاً، بل هو بعد الفراغ من أصل الأمر الفعلیّ، فلابدّ من اعتباره حسبما رأوا من أنّه من التکلیف بالمحال.
وإن شئت قلت: إن کان النزاع فی أنّ تصادم المجعولین فی المجمع، هل یستلزم مصادمة الجعلین بأیّ نحو أمکن، أم لا؟ فلا بدّ من قید المندوحة؛ لأنّ فعلیّة الجعل منوطة بالمندوحة، وإن کان النزاع فی أنّ تصادمهما فی المجمع، هل یوجب تصادم الجعلین من جهة خاصّة ـ وهی وحدة المتعلّق، والسرایه وعدمهما فلا یکون القید معتبراً؛ لأنّه لم یفرض فعلیّة الجعلین، فلیتدبّر.
الوجه الثالث :
أنّ مع الالتزام بفعلیّة الأمر والنهی، لا حاجة إلیٰ قید المندوحة؛ بناءً علیٰ ما حرّرناه تبعاً للوالد المحقّق ـ مدّظلّه من أنّ الخطابات القانونیة تکون فعلیّة حتّیٰ فی موارد العجز. نعم لابدّ من مراعاة شرائط الخطابات القانونیّة المحرّرة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 179 سابقاً، فلا نعیدها.
وعلیٰ کلّ تقدیر: العبد فی صورة فقدان المندوحة مکلّف فعلاً بتکلیفین فعلیّین؛ أحدهما: الصلاة، والآخر: الغصب، فإن أمکن اجتماعهما فی المجمع فهو، وإلاّ فلابدّ من انکشاف سقوط أحد التکلیفین معیّناً، أو القول بالتخییر، فاعتبار قید المندوحة علی القول بأنّ النزاع لیس حیثیّاً، أیضاً ممنوع، فضلاً عمّا إذا کان حیثیّاً.
أقول: سیظهر فی الوجه الآتی من ذی قِبَل أنّ الفعلیّة المقصودة فی المقام، لا تناط بالقول بالخطابات القانونیّة، بل یمکن الالتزام هنا بفعلیّة تجتمع مع انحلال الخطاب القانونیّ إلیٰ الخطابات الجزئیّة الشخصیّة.
نعم، مع کون الأمر والنهی فعلیّین علیٰ أیّ تقدیر، لا یمکن النزاع إلاّ مع الالتزام بالخطابات القانونیّة، أو القول باعتبار المندوحة، فشرطیّة قید المندوحة فی عَرْض شرطیّة کون الخطابات قانونیّة، ولا وجه لترجیح أحدهما علی الآخر.
وإن شئت قلت: مع الالتزام بقانونیّة الخطابات یتعیّن الاجتماع، فلا معنیٰ للنزاع بعد ذلک، فإلغاء قید المندوحة یساوق إلغاء النزاع؛ لأنّ أساس الشبهة تحت کیفیّة إمکان الأمر والنهی فی المجمع مع التلازم الأحیانیّ، وإذا صحّ ذلک ـ بناءً علیٰ قانونیّة الخطاب فلا تصل النوبة إلی اعتبار القید المزبور وعدمه، فتأمّل جدّاً.
الوجه الرابع :
أنّ اعتبار قید المندوحة یلازم الالتزام بالاجتماع، ویستلزم سقوط النزاع قهراً، فیکون مضرّاً؛ وذلک لأنّ البحث فی مسألة الاجتماع والامتناع، لا یدور حول
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 180 أنّ الأحکام متضادّة أم لا، ولا یدور حول أنّ المحبوبیّة والمبغوضیّة متضادّة أم لا، ولا حول أنّ المصالح والمفاسد متباینات أم لا؛ ضرورة أنّ اجتماع هذه الاُمور إمّا غیر لازم، أو غیر مضرّ.
ولا یدور حول السرایة وعدمها، ولا حول الترکیب الاتحادیّ والانضمامیّ، کما عرفت مراراً؛ لإمکان الالتزام بالامتناع مع القول بالانضمام وعدم السرایة.
بل أساس النزاع ومبدأ الخلاف والتشاحّ؛ هو أنّ فی المجمع یمکن المحافظة علیٰ إطلاق الأمر والنهی، وتکون الإرادتان: الآمریّة والزاجریّة، باقیتین فیه علیٰ قوّتهما، أم لا، وإذا کان المکلّف متمکّناً من الجمع بین الصلاة وترک الغصب، فلا معنیٰ للإشکال فی الإمکان المذکور؛ ضرورة وضوح جواز ترشّح الإرادتین حتّیٰ فی المجمع، فالنزاع یصحّ علیٰ تقدیر عدم وجود المندوحة فی البین.
وإن شئت قلت:إن کان وجه الامتناع أحد الاُمور المزبورة إجمالاً، فلا یضرّ قید المندوحة؛ لأنّ القائل بالامتناع یقول بتضادّ الأحکام، ومع وحدة المجمع یلزم الجمع بین الضدّین، وهکذا سائر التوهّمات، فإنّه عند ذلک لا ینفع ولا یضرّ، وأمّا إذا کان فساد هذه الاُمور واضحاً، فیضرّ القید المزبور.
وإن شئت قلت: یلزم التفصیل، فلا یعتبر قید المندوحة علیٰ أساس الاُمور المشار إلیها، ویکون مضرّاً علی الأصل المذکور.
الوجه الخامس :
أنّ النزاع إن کان حیثیّاً، فلا حاجة إلیٰ قید المندوحة، وإن کان النزاع مطلقاً وفرض فعلیّة الأمر والنهی، فلا تعتبر المندوحة أیضاً وإن لم نقل بالخطابات القانونیّة؛ وذلک أنّ المبحوث عنه فی مسألة الاجتماع والامتناع: هو أنّ الأمر مع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 181 قطع النظر عن النهی یکون فعلیّاً علیٰ عنوانه، والنهی مع قطع النظر عن الأمر یکون فعلیّاً علیٰ عنوانه، وإنّما النزاع فی أنّهما معاً یبقیان علیٰ فعلیّتهما فی المجمع أم لا؟
ولا شبهة فی أنّ أمر الصلاة مع قطع النظر عن حرمة الغصب فعلیّ وبالعکس، فعلیه لا معنیٰ للتمسّک بأنّ الممتنع الشرعیّ کالممتنع العقلیّ، حتّیٰ یعتبر قید المندوحة فی محطّ الخلاف؛ ضرورة أنّ المکلّف یتمکّن من امتثال أمر الصلاة مع قطع النظر عن حرمة الغصب وبالعکس، فیکون الخلاف فی هذه الصورة وفی أنّهما یبقیان فی المجمع علیٰ حالهما من الفعلیة أم لا، فلا یعتبر المندوحة فی الفعلیّة المقصودة هنا.
نعم، إذا قلنا بالامتناع یقع التعارض بالعرض؛ سواء کانت المندوحة، أو لم تکن.
وإذا قلنا بالاجتماع، فإن کانت المندوحة فلا یقع التزاحم إلاّ علیٰ وجه أبدعناه فی إمکان التزاحم مع القدرة علی الجمع فی التزاحم بین أحد أطراف الواجب التخییریّ وبین الواجب التعیینیّ.
وإن لم یکن مندوحة فیقع التزاحم، ویعالج المبتلی به بمعالجات باب التزاحم، فالمندوحة مفیدة فی نتیجة المسألة، لا فی النزاع وعدمه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 182