التنبیه الأوّل : حول فساد المعاملة النوعیّة بالنهی عنها وعدمه
إذا تعلّق النهی بالمعاملة النوعیّة وکانت المعاملة بنوعها مورد النهی التحریمیّ، کالقمار مثلاً، فلایتمّ الوجه الذی ذکرناه لفساد المعاملة؛ لعدم وجه لکونه إرشاداً إلی شیء، کما هو الواضح.
وربّما یستفاد من کلام جمع بعض وجوه استدلّ بها علی دلالة النهی علی الفساد مطلقاً من غیر فرق بین کون النهی متعلّقاً بحصّة من المعاملة النوعیّة، أو بنفسها، ولابأس بالإشارة إلیها وإلیٰ أهمّها:
منها : «أنّ النهی إذا تعلّق بنفس الإیجاد والإنشاء فهو لایقتضی الفساد؛ إذ حرمة الإیجاد لاتقتضی مبغوضیّة الموجَد، وأمّا لو تعلّق النهی بنفس الموجَد والمنشأ فهو یقتضی الفساد؛ لخروج المنشأ حینئذٍ عن تحت اختیاره وسلطانه، ولا قدرة علیه فی عالم التشریع، والمانع التشریعیّ کالمانع العقلیّ.
ومن هنا کان أخذ الاُجرة علی الواجبات حراماً؛ لخروج الفعل بالإیجاب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 378 الشرعیّ تحت قدرته ونفوذه» انتهیٰ.
أقول : هذا ما أفاده العلاّمة النائینیّ قدس سره وقد تبیّن فساده فیما مرّ، وفی المکاسب المحرّمة، وفی کتاب الإجارة.
وإجماله : أنّ العجز المدّعیٰ والخروج عن تحت القدرة إمّا واقعیّ، أو ادعائیّ، فإن کان واقعیّاً فلا معنیٰ للتکلیف أیضاً، وإن کان ادعائیّاً فلابدّ من قیام الدلیل الشرعیّ علیٰ نفوذ ذلک الادعاء، وعلیٰ إطلاق مصبّ الدعویٰ؛ حتّیٰ یترتّب علیه أحکامه وآثاره الخاصّة، دون الأثر الواحد؛ وهو نفس التکلیف المتقوّم بالقدرة.
ومن الأباطیل الشائعة : «أنّ المانع الشرعیّ کالمانع العقلیّ» لأنّه من المقایسة والتخییل، ومن القول بغیر علم. ومجرّد اقتضاء الذوق شیئاً لایکفی فی منطق الشرع، کما هو البارز الظاهر.
ومنها : وهو ما مرّ منّا فی مطاوی بحوثنا السابقة؛ من أنّ صحّة کلّ معاملة وکلّ مرکّب اعتبر سبباً لأمر آخر مترتّب علیه، منوط برضا الشرع وطیب الشریعة، وتکون المعاملات بغیر الرضا وبغیر الإمضاء باطلة. وهذا ما هو المشهور عنهم من أصالة الفساد فیها؛ قضاءً لحقّ الاستصحاب.
وإذا کانت الصحّة مشروطة بذلک، فکیف یعقل الجمع بینهما وبین الحرمة التکلیفیّة الکاشفة عن المبغوضیّة، والمساوقة للکراهة المضادّة للرضا والطیب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 379 بالضرورة؟! من غیر فرق بین ما کانت الحرمة متعلّقة بالسبب، أو المسبّب، أو غیر ذلک؛ لأنّ مبغوضیّة کلّ واحد من هذه الجهات، توجب السرایة إلی الجهة الاُخریٰ، ولایمکن حینئذٍ الجمع بینها وبین الرضا والطیب المتعلّق بالآخر؛ لعدم إمکان التفکیک بینها، وقد تبیّن فی محلّه: أنّ المتلازمین لایمکن أن یکونا محکومین بالحکمین المتخالفین، أو محکومین بالحبّ والبغض والرضا والکراهة، ولا شبهة فی تلازم السبب والمسبّب، أو تلازم الحکم والموضوع وهکذا، فتحریم البیع الإنشائیّ لایجتمع مع الرضا والطیب النفسانیّ المتعلّق بترتّب الأثر علیه.
لایقال : قد اشتهر جواز کون الإیجاد مبغوضاً، دون الوجود البقائیّ، کما فی تصویر ذوات الأرواح وتجسیمها، فإنّ المحرّم حسبما ذهب إلیه جمع هو الإیجاد المصدریّ، وأمّا الوجود الحاصل المصدریّ فهو أیضاً ـ لما لاینفکّ عن الإیجاد ـ محرّم، ولکنّ الوجود البقائیّ المستند إلی المادّة والهیولیٰ یکون حلالاً وجائزاً، ویجوز اقتناؤها وبیعها، فعلیه لا بأس بأن یقاس ما نحن فیه بذلک، فیکون البیع الإنشائیّ والإیجادیّ محرّماً ومبغوضاً ، ولکنّ البیع المسبّبی الباقی ببقاء العوضین یکون ممضیٰ.
لأنّا نقول : هذا ما یوجد فی کلمات جمع منهم، إلاّ أنّه غیر تامّ؛ ضرورة أنّه فی المثال لایکون الإیجاد أو السببیّة اعتباریّین حتّیٰ یتقوّما بالإمضاء، فلا مانع من التفکیک المزبور عقلاً، وأمّا فیما نحن فیه فلایتمّ؛ لما عرفت من أنّ الإیجاد والسببیّة لایتمّ إلاّ بضمّ الرضا والطیب، وهذا لایجتمع مع الکراهة الشدیدة المستکشفة بالنهی التحریمیّ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 380 ومن العجیب ما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : «من أنّه لم تتحقّق مساوقته للفساد؛ إذ أیُّ منافاة بین تحقّق المسبّب غیر المبغوض، وبین حرمة التسبّب؟! فإنّ الحیازة تتحقّق ولو بالآلة الغصبیّة المحرّمة تکلیفاً» انتهیٰ.
وأنت خبیر بما فیه؛ فإنّ فی المثال تکون الحیازة ممضاةً، والغصب محرّماً، والنسبة عموماً من وجه، فیکون من قبیل البیع فی المغصوب. وأمّا فی المقام فیکون النسبة بین المحرّم والممضاة عموماً وخصوصاً مطلقین؛ ضرورة أنّ البیع الربویّ محرّم، والبیع ممضی، وربّما تکون النسبة متساویة کما فی المعاملة القماریّة، فإنّ المضرّ هی الماهیّة النوعیّة.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الممضیٰ هی العقود، فتکون النسبة عموماً مطلقاً.
وعلیٰ کلّ تقدیر : تثبت الملازمة بین ما هو المحرّم، وما هو المحلّل والممضیٰ من ناحیة، وهذا أیضاً من المستحیل، کما تحرّر فی محلّه، فلیتأمّل.
وبالجملة : الحیازة بالآلات الغصبیّة إذا کانت محرّمة، ومورد الکراهة والمبغوضیّة لأجل النصّ الخاصّ، فهی لا یتعلّق بها الرضا والطیب النفسانیّ والعقلائی المعتبر فی صحّتها ونفوذها.
وربّما یقال بعدم اشتراط رضا الشرع وطیب الشریعة فی نفوذ التجارات والمعاملات، والذی هو المضرّ بها ردعها فی الإسلام، فلایلزم الجمع بین المتضادّات بإنکار الکبریٰ دون الصغری.
أقول : هذا ما یستظهر من الوالد المحقّق فی هذا المقام، ومن بعض السادة فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 381 کتاب الإجارة.
وقال فی «تهذیب الاُصول» : «أضف إلیٰ ذلک أنّ المعاملات عقلائیّة، والعقلاء علی أثر ارتکازهم وبنائهم حتّیٰ یردع عنه الشارع» انتهیٰ.
وأنت خبیر بما فیه؛ ضرورة أنّ قضیّة ردع الشرع عن طائفة من المعاملات، ومقتضیٰ أنّ الشرع لیس بناؤه فی بیان الأحکام والقوانین علی الإعجاز والتکهّن والإخبار عمّا یأتی؛ هو اعتبار عدم الردع کما علیه الشهرة.
هذا، ویکفی للردع أدلّة الاستصحاب، فمع الشکّ فی النقل والانتقال ـ لأجل احتمال مردوعیّة المعاملة المشکوکة بحسب الواقع ـ لابدّ وأن نرجع إلی الحجّة الشرعیّة، ولا تکفی الحجّة العرفیّة بذاتها، ولا حاجة فی ردعها إلی الأدلّة الخاصّة، بل یکفی إطلاق قوله: «لاتنقض الیقین بالشکّ» فلیتأمّل جیّداً.
ثمّ إنّ أیّ بیان أوسع وأظهر للردع من التحریم، وأیّ مخصّص أقویٰ وأمتن من المخصّص المحدّد للعامّ، والمتکفّل لحکم ضدّ حکم العامّ بالنسبة إلیٰ مورد التخصیص والتقیید؟! فما أفاده ـ دام ظلّه بقوله: «ومثل ذلک لایکفی ردعاً، ولا یعدّ مخصّصاً ولا مقیّداً لما دلّ علیٰ جعل الأسباب الشرعیّة بنحو القانون»، غیر موافق لاُفق التحقیق، کما عرفت بتفصیل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 382 فبالجملة : تحصّل إلیٰ هنا؛ أنّ قضیّة الإقرار بهذه الکبریٰ، عدم إمکان الجمع بین الرضا والمبغوضیّة؛ إمّا مطلقاً سواء کانت النسبة بین مورد الرضا والبغض، عموماً وخصوصاً مطلقین کما هو الحقّ، أو فی مثل القمار والظهار، فتکون قضیّة النهی التحریمیّ فساد المعاملة، سواء تعلّق النهی بحصّة منها، أو بالطبیعة النوعیّة، وسواء کان مورد النهی هو السبب، أو المسبّب، أو التسبّب، أو غیر ذلک ممّا یرجع إلی المعاملة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 383