الجهة الثالثة: فیما استدلّ به للأشعریّ علی اختلاف الطلب والإرادة
وهو اُمور :
الأوّل : لاشبهة فی وجود الأوامر الامتحانیّة، ولا إشکال فی عدم کون الإرادة من مبادئها، وإلاّ یلزم اتحاد تلک الأوامر مع الأوامر الحقیقیّة، فما هو الفارق لیس إلاّ کون الطلب من مبادئها، وإلاّ یلزم أن لاتکون تلک الأوامر أوامر، مع أنّها أوامر بالضرورة.
فبالجملة : لایشترط فی تحقّق الأمر الإلزامیّ وهکذا النهی، استباقهما بالإرادة والکراهة؛ فإنّهما من المبادئ الوجودیّة للأمر والنهی الحقیقیّین المتعلّقین بالموادّ واقعاً، بل ربّما یکون أمر آخر وراءهما مبدأً لهما؛ وهو الطلب النفسانیّ، والکلام النفسیّ.
ولایمکن إنکار ذلک؛ لأنّ مجرّد التصوّر والتصدیق والقدرة غیر کافٍ، ولا ثالث إلاّ ذلک، فلا وجه للتمسّک بعدم الوجدان، کما فی کلام المعتزلیّ والإمامیّ؛ لأنّه أعمّ، والبرهان قائم علی لزومه وإن خفی علی النفس نیله وتحصیله.
والعجب من العلاّمة النائینیّ رحمه الله من تخیّل التزام الأشعریّ بالطلب مجامعاً
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 27 للإرادة!! مع أنّ الأمر لیس کذلک، بل هو بصدد إثبات الأمر الآخر وراءهما عند فقدها، کما سیظهر من سائر البراهین القائمة علیه.
أقول : فیما مرّ جهات من النظر ربّما تظهر تدریجاً فیما یأتی. والذی هو مورد البحث هنا: هو أنّ الأوامر الامتحانیّة وغیر الامتحانیّة، مشترکة ـ من جمیع الجهات فی السلسلة الطولیّة والمعالیل والغایات؛ من لزوم التصوّر، والتصدیق، وغیر ذلک، وإنّما الاختلاف بینهما فی الدواعی؛ فإنّ الآمر إذا لاحظ قیام غرضه بالضرب، یترشّح منه ـ بعد التصدیق ـ إرادة إلیٰ إیجاد الهیئة الباعثة إلی الضرب، فیرید ذلک، ویتحقّق المراد بتبع الإرادة.
وإذا لاحظ امتحان طفله، یریٰ أنّ هذا لایحصل إلاّ بأمره نحو شیء، فیوجد الهیئة الباعثة إلی الضرب.
فما هو الداعی فی الأوّل؛ لایحصل إلاّ بالضرب بوجوده الخارجیّ، ولکن لایرید الضرب، بل یرید البعث إلی الضرب؛ بإیجاد الهیئة الموضوعة له.
وماهو الداعی فی الثانی؛ هو الاطلاع علیٰ حدود تأثیر الأمر وحدّ انقیاد المأمور والطفل، فلا شیء وراء الإرادة فی جمیع الأوامر. وتوهّم تعلّق الإرادة بصدور الضرب، من الواضح بطلانه کما یأتی.
نعم، الإرادة بمعنی الحبّ والاشتهاء والمیل والکیف النفسانیّ، متعلّقة بالضرب، ولکنّها غیر الإرادة بمعنی المبدأ الفعّال، وبمعنی الأمر الحاصل بفعالیّة النفس، فلاتخلط.
فتوهّم : أنّ البعث والزجر صوریّ هنا، ولا واقعیّة له، منشأه الخلط بین
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 28 الأغراض والدواعی. فما یظهر من صاحب «الکفایة» : من تقسیم الإرادة إلی الإنشائیّة، والتکوینیّة الجدّیة الحقیقیّة ـ لو تمّ ـ فهو بلحاظ أنّ الإرادة التشریعیّة، هی التی تعلّقت بالقانون والبعث، قبال إرادة الفاعل، فإنّها تعلّقت بالضرب.
وأمّا توهّم : أنّ الإرادة فی التشریع غیر الإرادة فی التکوین، فهو واضح المنع؛ لأنّ کلّ فعل صادر من الفاعل المختار مسبوق بالإرادة، إلاّ أنّ الاختلاف فی الدواعی ومتعلّقات الإرادة. وما أفاده العلاّمة الأراکیّ رحمه الله هنا، فی غایة الوهن، ولا حاجة إلی نقله ونقده، والعذر منهم أنّهم لیسوا من أهله.
الثانی : لاشبهة فی استحقاق الکفّار بل مطلق العصاة للعقاب، ولا شبهة فی أنّ صحّة العقوبة، منوطة بترشّح الإرادة الجدّیة من المولیٰ متوجّهةً إلیٰ أفعالهم وأعمالهم، ولا کلام فی أنّ إرادته تعالیٰ علّة الإیجاد، فلا یعقل التفکیک بینها وبین متعلّقها، فلابدّ من الالتزام بأمر آخر وراء الإرادة؛ وهو المسمّیٰ بـ «الطلب والکلام النفسیّ» وإلاّ یلزم عدم صحّة العقوبة، بل وعدم استحقاقهم.
وأنت تریٰ : أنّ الأشعریّ التزم بهذه الصفة للبرهان العقلیّ، وإلاّ فلا منع من قبله ـ عند فساده ـ من إنکار مرامه، کما عرفت : أنّه یرید إثبات أمر غیر الإرادة فی موقفها، لا مجامعاً لها، وأنّ المسألة عقلیّة، لا لغویّة، وأنّه لایمکن الإصلاح بین الفرق المذکورة؛ بحمل حدیث الاتحاد والعینیّة، علی العینیّة مفهوماً ومصداقاً وإنشاءً، وحمل حدیث المغایرة والاثنینیّة علی اثنینیّة الإنشائیّ من الطلب، کما هو المتبادر منه بدواً، والحقیقیّ من الإرادة کما هو المراد غالباً منها حین إطلاقها،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 29 فیرجع النزاع لفظیّاً. فما فی «الکفایة» وغیره من إصلاح ذات البین حسن، ولکنّه لیس بمصیب، فلاتغفل.
أقول : قد عرفت أنّ إرادة الأمر لیست متعلّقة بالضرب والقتل وبالصوم والصلاة، بل إرادة متعلّقة بالبعث إلیها والزجر عن المحرّمات، وعند ذلک لایتخلّف المراد عن الإرادة، بل هو حاصل.
وأمّا ما قیل : «بأنّ الإرادة متعلّقة بصدور الفعل من المکلّف عن اختیار» فهو ـ مضافاً إلی بطلانه کما مرّ ـ یلزم منه صدور الفعل مسبوقاً بالاختیار؛ لعدم إمکان تخلّف المراد عنها بالنسبة إلیٰ إرادته تعالیٰ، دون إرادتنا، فإنّها لیست علّة تامّة، ولا جزءها الأخیر فینا، وسیأتی الإیماء إلیه إن شاء الله تعالیٰ.
ویمکن تقریب هذا البرهان بوجه آخر: وهو أنّه تعالیٰ وکلَّ مولی إذا کان عالماً بالکفر والعصیان، لایتمکّن من ترشیح الإرادة الجدّیة بالنسبة إلی العبد المزبور، کما لایعقل ترشیح الإرادة بالنسبة إلی بعث الحجر والعاجز والجاهل والناسی؛ مع حفظ العناوین، فإذن یلزم عدم استحقاق هؤلاء الکفرة الفجرة للعقوبة؛ لعدم إمکان تعلّق الإرادة بالبعث أیضاً، فلابدّ من الالتزام بالطلب الذی هو محقّق استحقاق العقوبة، ولا إرادة بعد ذلک رأساً.
وعند ذلک تحصل المغایرة بین الطلب والإرادة بالضرورة؛ فإنّه إذا سئل عنه: «هل یرید ذلک» أو «أراده» فلا جواب إلاّ : «أنّه لم یرده» لعدم الأمر به، وعدم اظهاره، بعد کون الإرادة هی الفعل النفسانیّ، ومن مقولة الفعل تسامحاً، وإذا سئل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 30 عنه: «هل یطلبه ویشتهیه، ویمیل إلیه» فالجواب: «نعم».
فیعلم : أنّ هذا الطلب غیر الإرادة المصطلحة قطعاً، وإن اُطلق علیٰ کلّ واحد منهما مفهوم الآخر، ولکنّ الغرض إثبات أمر آخر وراء صفة الإرادة والعلم والقدرة والکراهة، وهو صفة الطلب الذی هو من مقولة الانفعال، أو الکیف النفسانیّ، ولایعقل اتحادهما مع اختلافهما بحسب المقولة.
فتحصّل : أنّ تصحیح العقوبة لاینحصر بالإرادة المظهرة، أو الإرادة نفسها، أو الطلب الإنشائیّ، بل ربّما یکون تصحیح العقوبة بأمر آخر وهو الطلب، بل والاشتهاء النفسانیّ غیر البالغ إلیٰ حدّ الإرادة؛ لأجل الموانع الراجعة إلی امتناع العبید عن الإطاعة والامتثال.
ولعمری، إنّه بعد هذا التقریب، لایتمکّن الأعلام من حلّ هذا الإعضال، وهذا من غیر فرق بین ما ذکرناه فی مصبّ الإرادة التشریعیّة، وبین کون مصبّها صدور الفعل عن الغیر اختیاراً، وبین کون مصبّها إیصال الغیر إلی الفائدة.
أقول : الخلط بین الخطابات الشخصیّة والکلیّة القانونیّة، یورث إشکالات، وأوقع الأصحاب فی انحرافات، وتفصیل ذلک یطلب من محالّه، ولعلّ ذلک یأتی فی مباحث الترتّب.
وإجماله : أنّ من شرائط الخطاب الشخصیّ، احتمال تأثیر الأمر فی المخاطب والمأمور، وإلاّ فلا تصدر الإرادة الجدّیة مع فقد الاحتمال، ولعلّ لذلک قال الله تعالیٰ: «وَقُولا لَهُ قَوْلاًَ لَیِّنَاً» لعدم إمکان أمره تعالیٰ جدّاً؛ لعلمه بعدم انبعاثه مثلاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 31 ومن شرائط الخطاب القانونی؛ احتمال تأثیر القانون فی المجتمع البشریّ، من غیر ملاحظة الأفراد والأشخاص، ومن غیر انحلال الخطاب إلی الخطابات، فإذا کان جمیع المجتمع والاُمّة، کافرین ومتمرّدین وعاصین، فلایعقل الخطاب القانونیّ الجدّی أیضاً؛ إلاّ من الغافل غیر الملتفت.
فلاینبغی توهّم انحلاله إلی الکثیر، وشرطیّةِ احتمال الانبعاث فی کلّ مخاطب بالخطاب العامّ بعد الانحلال؛ ضرورة أنّ الخطاب کالإخبار، فکما أنّ «کلّ نار حارّة» لایکون إخبارات کثیرة وإن کان ینحلّ إلی الاخبارات المتعدّدة، کذلک الإنشاء الکلّی القانونیّ واحد، والمنشأ منحلّ إلی الکثیر، ولذلک صحّ الخطاب لجمیع الطوائف المشار إلیها؛ بما فیهم العالم والقادر والذاکر وغیر المتمرّد والمؤمن، وغیر ذلک، بمقدار یصحّ جعل القانون، ویمکن ترشّح الإرادة الجدّیة متعلّقة بمثل هذا القانون الکلّی العام، فافهم واغتنم؛ فإنّه مزالّ الأقدام. وهذا ما أفاده السیّد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فی المسائل الآتیة، وإن تغافل عنه هنا، والأمر سهل.
ویمکن أن یقال : بأنّ قضیّة البرهان المزبور عدم صدور التکلیف رأساً، لا کون الطلب مبدءه.
الثالث : قضیّة البراهین مجبوریّة العباد والمکلّفین فی أفعالهم وأعمالهم، ولا تأثیر لقدرتهم فی شیء منها، فلا معنیٰ لتعلّق إرادة الله تعالیٰ التشریعیّة والمولی الحقیقیّ بهذه الأعمال العاجز عنها العباد، فیلزم عدم تعلّق التکالیف بهم، وهو خلاف الضرورة، فیعلم أنّ مبدأ هذه التکالیف لیس الإرادة، فلیسمّ ذلک «الطلب».
أقول : أمّا مقالة الجبر فهی سخیفة، وتفصیلها فی مقام آخر؛ لخروج الکلام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 32 عن وضع الکتاب وطلاّبه، ویکفی لفسادها ـ بعد فساد التوهّمات الباعثة علیها، وقیامِ البراهین القطعیّة علی امتناعها، ولزومِ إمکان الواجب جلّ اسمه، وکونه فی معرض الحوادث والتغییرات ، وغیر ذلک من التوالی الفاسدة شهادة الوجدان السلیم والطبع المستقیم، علی أنّ الناس والحیوانات مختارون فی جمیع شؤونهم وأفعالهم وأقوالهم، وأنّ الکلّ مشترکون فی القیام بالإیجاد بعد الترجیح والاصطفاء وأنّ حرکة ید الکاتب الخبیر غیر حرکة ید المرتعش القصیر، ولا حاجة فی مقابل هذا الوجدان إلی إقامة البرهان.
وربّما یقال : بأنّ البراهین لاتفید أکثر من ذلک، وما کان مخالفاً ففیه جهة القصور والنقصان.
ولکن فی نفسی شیء؛ لاحتمال دعویٰ أنّ الجبّار علی الإطلاق، کما هو الفاعل علی الإطلاق، ومباشر جمیع الأفعال والأعمال، قادر علیٰ إیجاد هذا الوهم؛ وهو مختاریّة العباد، فمجرّد الوجدان بلا ضمّ البرهان غیر سدید، إلاّ لبعض النفوس الصافیة الخالیة عن الشوائب والأوهام.
ثمّ إنّه لا معنی للأشعری من الالتزام بالتکلیف؛ لأنّه لو فرضنا وجود الطلب وراء الإرادة المسمّیٰ بـ «الکلام النفسیّ» فلایمکن لنا الالتزام بالتکلیف مع فقد القدرة المعتبرة.
ولو التزم بعدم اعتبارها، فلا وجه لعدم التزامه بصحّة العقوبة فی مورد دون مورد، بل هو من المنکرین للحسن والقبح، ویقول بصحّة عقوبة کلّ أحد بلا وجه؛ لأنّه تصرّف فی سلطانه، وصحّةِ إنعام کلّ أحد؛ لأنّه مختار فی مملکته. فهذا النحو من الاستدلال، غریب عمّا وصل منهم من المبانی الفاسدة، والعقائد الکاسدة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 33 هذه هی الأدلّة الناهضة علیٰ إثبات أمر آخر وصفة اُخریٰ نفسانیّة مسمّاة بـ «الطلب» التی تکون بمنزلة الإرادة فی مبدئیّتها للأوامر والنواهی، والمقصود الأصلیّ إثباتها فی المبدأ الأعلیٰ، ولکنّ الأدلّة تورث ثبوتها فی غیره تعالیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 34