الجانب الثانی : فی تخصیص العامّ بالمفهوم المخالف
والمقصود بالبحث هو ما إذا فرغنا عن حجّیة المفاهیم، ولیس النظر هنا إلیٰ صور معارضة العامّ والمفهوم، فإنّه بحث مرّ إجمال منه فی باب المفاهیم، ویأتی بعض الکلام فی التعادل والترجیح. والمنظور إلیه هنا هو تخصیص العامّ بالمفهوم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 370 وعدمه، فلایجوز الخلط بین تقیید المطلق بالمفهوم کما خلطوا، فإنّ «الدرر» والاُستاذ البروجردیّ ظنّا أنّ هذه المسألة ترجع إلی التقیید، ومثّلوا لذلک بدلیل طهوریّة الماء، ودلیل الکرّ، فإنّه بحث آخر فی المطلق والمقیّد، وربّما تنحلّ مسألة المطلق والمقیّد ببحث العامّ والخاصّ؛ لاتحاد المناط، فلاتخلط.
فالکلام هنا حول تخصیص العامّ بالخاصّ الذی هو المفهوم المخالف، ویکون بینه وبین العامّ اختلاف السلب والإیجاب.
فعلیه لا معنیٰ لتکثیر الصور بکونهما تارة: فی کلام واحد، واُخریٰ: فی کلامین؛ لأنّ فی فرض وحدة الکلام لایبقیٰ لاستفادة المفهوم أثر؛ إمّا لأجل أنّ دلالة العامّ وضعیّة، فتکون مانعة عن حدوث المفهوم المخالف، أو لأجل أنّها إطلاقیّة، فیکون کلّ واحد منهما مجملاً؛ سواء فیه الصدر والذیل.
وما قیل من تقدّم أصالة الإطلاق فی الصدر علی الذیل، غیر محرز وجهه عند العرف والعقلاء، ولا بقضیّة الصناعة.
أو لأجل أنّ دلالة المفهوم التزامیّة کالوضعیّة، فهو أیضاً یستلزم عدم انعقاد ظهور لهما، کما لایخفیٰ.
فقضیّة العنوان هو البحث عن تخصیصه بالمفهوم، بعد الفراغ من أصالة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 371 العموم فی ذاتها والمفهوم فی ذاته، فالتمثیل بآیة النبأ وعموم التعلیل، مخدوش من جهات ثلاث:
من أنّها من باب المطلق ، لا العامّ .
ومن أنّها فی الکلام الواحد.
ومن أنّ آیة النبأ لا مفهوم لها بعد تنصیص المتکلّم علیٰ علّة الحکم، کما تحرّر فی محلّه.
هذا مع أنّ الکلام فی تخصیص العامّ بالخاصّ المفهومیّ، فیکون مفروض البحث أنّ النسبة بینهما العموم المطلق، فتأمّل. وأنّ النظر کان إلی أنّ الجمع بین العامّ والخاصّ المنطوقیّ، واضح لا مفرّ منه فی الجملة، وعلیه بناء الفقهاء، وأهل الحلّ والعقد، بل وعلیه بناء الأخباریّین الطاعنین علی الاُصولیّین، وهو بناء العرف والعقلاء فی قوانینهم العرفیّة بالضرورة.
وأمّا الجمع بینه وبین الخاصّ المفهومیّ، فربّما یمکن المناقشة فیه: بأنّهما یتعارضان، أو یقدّم العامّ:
أمّا وجه تقدیم العامّ؛ فلأنّه مستند إلی المنطوق، فیقدّم علی المفهوم الأخصّ؛ للأظهریّة. أو لأنّ أصالة الإطلاق دلیل المفهوم، وهی أصل تعلیقیّ لایعارض الأصل التنجیزیّ اللفظیّ فی جانب العامّ، من غیر فرق بین کون المفهوم فی کلام منفصل متقدّم، أو متأخّر.
وأمّا وجه المعارضة؛ فلما تقرّر فی محلّه عند المحقّقین: من أنّ مع انفصال
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 372 الکلام تتمّ حجّیة الإطلاق، لا من جهة أنّ مقدّمات الإطلاق تنوب مناب أدوات العموم کما قیل، بل لأجل أنّ حجّیة العموم موقوفة علیٰ جریان أصالة الجدّ، وهی أصل عقلائیّ، فکما أنّه لایکون مرهوناً بالکلام والقید المنفصل، بل یتمسّک به وینعقد الظهور، ویخرج بمقدار یقتضیه القید عن مضمون العامّ، کذلک فی ناحیة المطلقات حسبما تحرّر فی محلّه: من أنّ إطلاق کلام النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم یتمسّک به قبل مضیّ زمان صدور القید، وإذا صدر القید فیقیّد بمقداره، فلا وجه لتقدیم العامّ علیه.
وأمّا حدیث الأظهریّة فهو باطل؛ لما عرفت من الحاجة إلی الأصل العقلائیّ فی حجّیة العامّ، فتصیر النتیجة تابعة للأخسّ.
هذا مع أنّ الحقّ احتیاج العمومات أیضاً إلی مقدّمات الحکمة، فالقول بتقدیم العامّ فی نهایة السخافة، ولاسیّما فی صورة تقدّم المفهوم الأخصّ تأریخاً علی العامّ، فإنّ المعارضة هنا أقویٰ جدّاً.
أقول : والذی هو التحقیق ما اُشیر إلیه لبیان المعارضة دفعاً عن توهّم تقدیم العامّ علی المفهوم، وأمّا أصل التعارض فهو نظر بدویّ، فإنّ المفهوم المخالف إذا ثبت فی محیط التقنین، فالتخصیص به متعیّن؛ لعین ما مرّ فی المنطوق.
ومن هنا یظهر حال المطلق مع المفهوم المخالف الأخصّ، وهکذا الموافق، ویتبیّن أنّ البحث عن سائر الصور یدفع هنا وهناک، وقد عرفت فی الجانب الأوّل حکم بعض الصور الاُخریٰ للمسألة، ولا بأس بالإشارة إلیها هنا أیضاً:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 373