البحث الخامس فی الأسباب والمحصّلات
والذی ینبغی أن یعلم أولاً: أنّ محطّ النزاع هنا هو ما إذا کان الأمر معلوماً بالتفصیل، والمأمور به واضحاً بالمفهوم سعة وضیقاً، ولا یکون فی محطّ الأمر والإیجاب إجمال وإبهام، وإنّما الإجمال فی الجهة الأجنبیّة عن محطّ الأمر والإیجاب.
وثانیاً: أنّ الأسباب والمحصّلات تنقسم إلی العقلیّة، والعادیّة، والعقلائیّة، والشرعیّة:
فمن الأوّل: سببیّة الإرادة للحرکة، فإنّ الثانیة موجودة خارجاً بالاُولیٰ.
ومن الثانی: سببیّة الشیء الفلانیّ للإشباع الواجب فی الکفّارة، أو فی باب إطعام الوالدین. والمثال الأوضح سببیّة الإلقاء للاحتراق.
ومن الثالث: استهلاک الزوجة لمقدار الکسوة والسکنیٰ والمأکول، وسببیّة العقد الفعلیّ واللفظیّ لتلک الملکیّة، أو تملّک أرباب الزکاة والخمس لمقدار حقّهما، وسببیّة الإفراز أو الردّ إلی الولیّ أو إلیهم بلا صیغة مثلاً.
ومن الرابع: سببیّة الغسلات والمسحات للطهور الواجب فرضاً، أو سببیّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 59 الصور الواجبة والواجبات الظاهریّة لما هو الواجب الواقعیّ؛ وهی المصالح علیٰ مذهب العدلیّة.
فإنّ فی الأوّل والثانی لا یتدخّل الشرع، ولا یصلح تدخّله، وفی الثالث والرابع یتدخّل الشرع، ویصلح ذلک؛ ضرورة أنّ فی مثل القتل والإشباع، یکون العقل والعرف مقتدراً علیٰ درکهما ودرک تحقّقهما، بخلاف مثل الملکیّة والطهارة، فإنّه ربّما لا یتعقّل العقلاء حصول الملکیّة بالمعاطاة أو بمثلها من موارد الشکّ والإجمال فی السببیّة والمحصّلیة، وهکذا فی حصول الطهارة والغرض والمصلحة بوجه أوضح.
فالإجمال والإبهام فی المسائل السابقة، کان حول الأدلّة اللفظیّة بالقیاس إلیٰ حدود المأمور به جعلاً وتشریعاً، وهنا بالقیاس إلیٰ تحقّق المأمور به تأثیراً وسببیّة وتحصیلاً.
بقی هنا أمران کی یتّضح محطّ الخلاف ومصبّ النزاع:
الأمر الأوّل : فی تمحّض البحث بالشکّ فی السقوط
إنّ البحث حسبما عرفت، حول ما إذا کان المأمور به معلوماً بحدوده، سواء کان أمراً بسیطاً، أو مرکّباً ذا مراتب ودرجات، فلو کان الشکّ فی حدوده ـ من الأقلّ والأکثر والبساطة والدرجات ـ یکون خارجاً عن مسألة الأسباب والمسبّبات، فإطالة العلاّمة الأراکیّ رحمه الله کلّها أجنبیّة عن هذه المسألة، وإطالة البحث حول مواضح ضعف مقالات القوم هنا وفی غیر المقام من اللغو المنهیّ عنه.
وعلیٰ هذا، یکون الشکّ فی السقوط هنا دائماً، إلاّ أنّه تارة: یکون مرجع حلّ الشکّ والجهالة العقل والعرف، واُخری: العقلاء بإمضاء الشرع ورضاه وتسبیب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 60 الشرع وکشفه.
الأمر الثانی : فی أجنبیة بحث المعاملات هنا
إنّ الجهة المبحوث عنها حول وجود الأسباب والمسبّبات والمحصِّل والمحصَّلات علیٰ تقدیر صحّة السببیّة والمسبّبیة، وأمّا الورود فی أنّ باب المعاملات هل هی من باب الأسباب والمسبّبات، أو الموضوع والأحکام؟ فهو من المناقشة فی مثال المسألة، وخارج عن دأب المحقّقین.
وبالجملة تحصّل: أنّ فیما نحن فیه لیس إجمال فی التکلیف، کما کان فی دوران الأمر بین المتباینین، وفی الأقلّ والأکثر علیٰ بعض التقاریر.
وأیضاً: لیس إجمال فی المکلّف به، کما کان فی المتباینین، وفی الأقلّ والأکثر، وأنّه هل المأمور به هو الأقلّ أو الأکثر أو أنّ الصلاة التی هی المأمور بها تنحلّ إلی تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء؟
بل هنا کلّ من الأمر والمأمور به واضح ومبیّن، إلاّ أنّ المأمور به لمّا کان من الاُمور التی یتسبّب إلیه باُمور عقلیّة وغیر عقلیّة، یلزم الشکّ فی حصوله وسقوطه.
فالفرق بین الجهة المبحوث عنها هنا وهناک: أنّ البحث هناک فی تعلّق الأمر بالمعیّن أو بالمعنی الکلّی المنطبق علیه ـ ولاسیّما فی الأقلّ والأکثر ـ یکون الشکّ فی حدود الجعل والتشریع، وفیما نحن فیه یرجع الشکّ دائماً فی السقوط. ولو رجع الشکّ فی الثبوت، یکون هو الخارج عن حدود النزاع ومحطّ التشاحّ، فلا تغفل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 61