تتمّة الکلام : فی تقدم البراءة عن أصل وجوب الطبیعة علی الاستصحاب
حول ما إذا لم یکن لدلیل الجزء أو الشرط إطلاق، ولا لدلیل الطبیعة، بعد العلم خارجاً بأصل الوجوب أو الصحّة الوضعیّة؛ لوجود القدرة علی القدر المتیقّن من الماهیّة، فإنّه عندئذٍ یصحّ توهّم استصحاب صحّة العقد ونفوذه، ووجوب الصلاة، وندب الأذان، وغیر ذلک من قبیل سببیّة التذکیة، أو موضوعیّة الإیقاع والعقد، استصحاباً فعلیّاً، أو تعلیقیّاً، کما سنشیر إلیه.
ولکنّ الذی یخطر بالبال: أنّ هذا الاستصحاب هنا، بعینه الاستصحاب الجاری للاشتغال فی الأقلّ والأکثر، أو الجاری بالنسبة إلیٰ حال النسیان من قبل المجتهد، أو شخص المکلّف بعد التذکّر، فلو لم یکن لدلیل الجزء إطلاق، وهکذا لدلیل الطبیعة، تجری البراءة الحاکمة عندهم علی الاستصحاب؛ لأنّ الشکّ فی بقاء الأمر المتیقّن بعد البلوغ أو دخول الوقت، ناشئ عن الشکّ فی إطلاق الجزئیّة؛ وأنّ المتعذّر والمعجوز عنه حال العجز جزء أم لا، فإذا رفعت الجزئیة حال العجز فلا حاجة إلی الاستصحاب.
وبعبارة اُخریٰ: دلیل الجزء إمّا له الإطلاق، فهو المرجع علی الإطلاق. ودلیل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 164 الطبیعة إن کان له الإطلاق دون الجزء، فلا حاجة إلی الاستصحاب.
وإن لم یکن له الإطلاق، فالبراءة عن أصل وجوب الطبیعة جاریة.
وعلیٰ هذا، لا معنیٰ لفرض الحاجة إلیٰ دخول زمان حصل الیقین؛ لأنّه لایعقل مع إهمال دلیل الجزء بوجوب الطبیعة الکاملة، ومع إطلاقه لا معنیٰ للاستصحاب والشکّ، فلا یبقیٰ مورد یحصل الیقین بوجوب الطبیعة؛ علیٰ وجه نحتاج إلی الاستصحاب مطلقاً، بل إمّا تجری البراءة عن أصل وجوب الطبیعة، أو عن الجزئیّة حال العجز، من غیر حاجة إلیٰ فرض دخول زمان التکلیف، کما فی الأقلّ والأکثر.
وهذه الصورة الأخیرة هی صورة العلم بوجوب الأقلّ، وهی الطبیعة المتقیّدة بالجزء حال القدرة، ویشکّ فی الجزئیّة حال العجز، وحدیث البراءة والاستصحاب عندئذٍ هو ما مرّ فی الأقلّ والأکثر، وقد عرفت منّا: أنّ المستصحب إمّا هو الکلّی فی القسم الثانی، أو من القسم الثالث، أو الفرد المردّد، أو الشخصیّ، علی اختلاف تقاریر فی الأخیر.
والاحتمال الثانی والثالث غیر صحیح، والاحتمال الأوّل عندنا غیر بعید، والاحتمال الأخیر ـ علی التقریب الذی مضیٰ ـ بلا إشکال فی محطّ النزاع قطعاً.
وأیضاً: مضیٰ وجه تقدّم البراءة علیه، ووجه جریانه من غیر کونه محکومها. بل وعلیٰ تقدیر کونهما عَرْضیّین، ویکون الشکّ الاستصحابیّ مسبّباً عن الشکّ الذی هو موضوع البراءة، یکون عندی تقدّم الاستصحاب قویّاً.
فذلکة البحث
وفیها أمور :
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 165 الأمر الأوّل : إنّ من الممکن تقیید إطلاق دلیل الجزء والشرط حال العجز بحدیث: «رفع ... ما لا یطیقون» کسائر الحالات التی یقع التقیید علیها بالنسبة إلیه.
وغیر خفیّ: أنّ العجز عن الجزء عجز عن الکلّ عقلاً، إلاّ أنّه لا یوجب سقوط الکلّ عرفاً، کما أنّ نسیان الجزء عجز حال النسیان عن الکلّ، ولا یوجب سقوط الأمر عن الکلّ؛ حسب الجمع بین دلیل المرکّب ودلیل الرفع الحاکم علیٰ دلیل الجزء والشرط، الذی هو أیضاً حاکم علیٰ دلیل الطبیعة، ومقدّم علیه لولاه، فلا حاجة إلی الاستصحاب والأدلّة الثانویّة، کی یقال حوله ما قد قیل، أو یمکن أن یقال، فاغتنم.
الأمر الثانی : إنّ الجهة المبحوث عنها هنا؛ هی صورة العجز عن الجزء والشرط، والاضطرار والإکراه علیٰ تقدیر کما مرّ، فیکون المفروض إطلاق دلیل الجزء، وعلیٰ هذا لا تصل النوبة إلی الاستصحاب؛ ضرورة أنّ معنی الإطلاق المذکور رکنیّة الجزء والشرط، ومعناها بطلان المرکّب بفقدهما، وسقوط أمر الطبیعة بمقتضی الدلیل الاجتهادیّ، فلا شکّ فی البقاء.
الأمر الثالث : لو فرض إهمال دلیل الجزء والطبیعة، فالبراءة عن أصل وجوب الطبیعة أوّلاً جاریة. ولو فرضنا العلم بوجوبها الإجمالیّ، فالاستصحاب المذکور هو الاستصحاب السابق الجاری عندنا فی الأقلّ والأکثر، ولا حاجة عندئذٍ إلی التکرار.
ونتیجة جریان هذا الاستصحاب بل لازمه أیضاً: هی دعوی العلم بوجوب الباقی أیضاً فتأمّل، وکون القضاء تابعاً للأداء من غیر حاجة إلی الأمر الجدید؛ لأنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 166 مع العجز عن الجزء الخارجیّ إذا أمکن الاستصحاب، فالقول بجریانه حال العجز عن الجزء التحلیلیّ یکون أولیٰ بالضرورة.
مع أنّ تصویر الاستصحاب بالنسبة إلیٰ خروج الوقت ومضیّه واضح، بخلاف الجزء الخارجیّ کما مرّ، وهو العجز عن السورة والرکوع وغیرهما، وهکذا الجزء التحلیلیّ المعجوز عنه فی الوقت.
الأمر الرابع : لا فرق بین صورتی العجز السابق والطارئ فی مفروض الکلام؛ وذلک لأنّ مع إطلاق دلیل الجزء یکون البطلان معلوماً، ومع إهماله تکون البراءة مقطوعة.
نعم، مع فرض العلم الخارجیّ بوجوب الطبیعة فی الجملة ـ کما فی باب الصلاة مثلاً ـ یوجب العجز الطارئ العلم السابق بوجوب الأکثر المعجوز جزؤه، إلاّ أنّ ذلک العلم الخارجیّ الثابت من الضرورة فی الإسلام، باقٍ أیضاً بالنسبة إلیٰ حال العجز.
وتوهّم إطلاق دلیل الجزء فی برهة من الوقت دون برهة، من التسویلات الباطلة کما لا یخفیٰ.
الأمر الخامس : لا فرق عندنا بین موارد التکالیف والأحکام الوضعیّة إذا کان الاستصحاب المذکور جاریاً.
وذلک لما سیمرّ علیک تحقیقه: من أنّ حقیقة الاستصحاب لیست إلاّ التعبّد بالیقین السابق بما له من الآثار، من غیر النظر إلی التعبّد الاستقلالیّ بنفس تلک الآثار والمتیقّنات السابقة.
فعلیٰ هذا، لو کان قادراً علیٰ تمام أجزاء السبب، یکون علی یقینٍ من سببیّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 167 البیع والنکاح وغیرهما، أو یکون علی یقین من موضوعیّة الإجارة والتذکیة، وغیر ذلک علی اختلاف التعابیر، فإن کان العجز عن الجزء والشرط مخلاًّ بالاسم عرفاً، فلا استصحاب هنا، ولا فی باب التکالیف.
وإن لم یکن مضرّاً بالاسم عرفاً، فالتعبّد ببقاء الیقین بالسببیّة الإمضائیّة کافٍ لترتّب الآثار، فضلاً عمّا إذا قلنا بالموضوعیّة، کما ذهب إلیه بعض، ویمیل إلیه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه .
وحدیث کونه من الأصل المثبت ممنوع کبرویّاً، وإن لم یکن إنکاره صغرویّاً ممکناً، فلیتدبّر.
وبالجملة: مجری الاستصحاب یکون علیٰ نعت أنّ سببیّة بیع هذه الدار مثلاً کانت معلومة، فإذا عجز عن التلفّظ بحرف من حروف الصیغة، ولم یکن ذلک موجباً للشکّ فی صدق البیع، أو العلم بانتفائه، یجری الاستصحاب، وهکذا فی استصحاب سببیّة التذکیة لحلّیة هذه الشاة مثلاً، ولا یعتبر کونه قادراً فی برهة؛ لعدم اعتبار الأثر فی ظرف الیقین بالنسبة إلیه شخصیّاً، بل المجتهد یجری الاستصحاب علیٰ نعت کلّی، فاغتنم.
الأمر السادس : یظهر من بعضهم کما هو صریح شیخ مشایخنا وجدّ أولادی فی «الدرر» رحمه الله: «أنّ الجهة المبحوث عنها هنا: هی أنّ مقتضی القاعدة عند العجز عن الجزء والشرط، مع عدم إطلاق دلیل المرکّب ودلیلهما، هل هو سقوط التکلیف، أم لا؟».
وهذا واضح الاشتباه والمنع؛ ضرورة أنّ فی مفروضه تلزم البراءة عن أصل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 168 المرکّب، کما اُشیر إلیه.
نعم، یمکن فرض العلم الخارجیّ بوجوب الطبیعة الإجمالیّة، وهذا لا یوجب وصول النوبة إلی الأصل المذکور أیضاً.
وبالجملة تبیّن: أنّه لا مجال للاستصحاب هنا زائداً علیٰ ما مرّ فی الأقلّ والأکثر الجاریة فیه البراءة؛ حسبما ذهب إلیه المشهور، وغیر جارٍ عندنا حسبما تحرّر منّا.
وتوهّم: أنّه یلزم من المناقشة فی جریان الاستصحاب هنا، المناقشة فی جریانه هناک.
مندفع: بأنّه فی تلک المسألة یکون المفروض وجوب الأقلّ، وهو الثابت بالقدر المتیقّن، ویشکّ سقوط أمره بإتیان الأقلّ، وفیما نحن فیه یکون المفروض جزئیّة الجزء، مع العجز عن إتیانه بما هو جزء، فلا شکّ فی البقاء.
ومع الشکّ فی جزئیّته حال العجز، تکون المسألة من صغریات الأقلّ والأکثر أیضاً الجاری فیه الاستصحاب الشخصیّ، ولاسیّما علی القول بالوجوب الضمنیّ الباطل عندنا کما مرّ، فلا تغفل.
الأمر السابع : ویحتمل جریان الاستصحاب الکلّی من القسم الثالث؛ بلحاظ أنّ العجز عن الجزء بعد العلم بالکلّ لا ینافی احتمال حدوث الوجوب المتعلّق بالأقلّ المعلوم وجوبه ضمنیّاً أو غیریّاً.
وفیه: ـ مع أنّه غیر جارٍ ـ أنّه لا أساس للوجوبین المذکورین ثبوتاً وإثباتاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 169