تأیید : لتقدیم «لا ضرر» علی الأدلة الأوّلیّة
لا ینبغی الخلط بین المسائل التشریعیّة والتکوینیّة، کی یقال بعدم المنع؛ بجواز تشریع قانون حرمة المضارّة والضرار، مع إضرار الناس تکویناً بالزلازل وأمثالها؛ ضرورة أنّ جواز إضراره تعالیٰ ونفعه ممکن، مع أنّه یأمر بالنفع، وینهیٰ تشریعاً عن الضرار تشریعاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 286 وذلک لأنّ القیاس المذکور والاستحسان المزبور، محرّم وغیر تامّ عندنا دلیلاً فی المسائل الفقهیّة، بخلاف ما نحن فیه، فإنّه بعد تشریع قاعدة تحریم الضرار، یصحّ استنباط عدم وجود الأحکام الإلهیّة التشریعیّة الضراریّة، والعرف یقبّح ذلک، ویفهم من مبغوضیّة الإضرار بالناس بالنسبة إلی الناس؛ أنّه لا معنیٰ لضرب القانون المنتهی إلی الضرار، حتّیٰ یقع المکلّفون من جانب الوضوء والغسل والوفاء بالعقد فی الضرار المالیّ والبدنیّ، وفی سوء الحال والضرّاء والشدّة والبأساء. وما أشبه هذه المسألة بما فی الکتب العقلیّة فی مسألة الخیر والشرّ، کما اُشیر إلیه.
ولا ینبغی أن یقال: بأنّه کما یصحّ ضرب القانون المزبور مع خلق الضرار تکویناً، أو یصحّ عدم إیصال النفع بطریق غیر عادیّ، کأن تمطر السماء کنوز الحاجات بالنسبة إلی الفقراء، مع الأمر بإیصال الصدقات إلیهم، کذلک لا بأس بضرب القانون المزبور؛ وتحریم إضرار الناس بعضهم لبعض، مع ضربه تعالیٰ قانوناً یستتبع وینتهی إلی الضرار. فإنّ کلّ ذلک من الخلط بین التکوین والتشریع، وقد تحرّر أنّ فی محیط التشریع لا یفهم العرف حسن ذلک، بل یستنبط من مبغوضیّة الضرار المذکور عدم وجود الحکم المنتهی إلی الضرار.
وهذا هو نتیجة حکومة قاعدة «لا ضرر» علی الأدلّة الأوّلیة؛ لأنّ الحکومة لا معنیٰ لها إلاّ استفادة محدودیّة الإطلاقات والعمومات من ابتداء الأمر؛ لامتناع النسخ الحقیقیّ، وبما أنّها قانون تشریعیّ بالنسبة إلیٰ إضرار الناس بعضهم لبعض، یکون قانوناً جابراً للضرر بعد إیقاعه؛ حسب التحریر الماضی، فلا تغفل.
وبالجملة: لا معنیٰ لتحکیم «لا ضرر ولا ضرار» علی الأدلّة الأوّلیة بالمعنی المصطلح علیه، کتحکیم «لا سهو فی النافلة» علیٰ أدلّة الشکوک، بل هنا نتیجة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 287 الحکومة بفهم محدودیة الأدلّة الأوّلیة فی موارد استتباعها الضرار.
إن قلت: الوضوء مثلاً مضرّ لا بما هو أنّه وضوء، وإیجابه بما هو هو لیس بمضرّ، فعندئذٍ تقع النسبة بین إیجاب الوضوء، وإیجاب الوفاء بالبیع وإیجاب الحجّ؛ فی موارد تحمّل الضرر غیر المتعارف.
وبالجملة: مع ضرب القانون الذی یکون بینه وبین تحریم الإضرار عمومٌ من وجه، لا یکون عندئذٍ وجه لتقدیم الثانی علی الأوّل؛ وجعله قرینة علیٰ محدودیّة القوانین الأوّلیة فی موارد استلزامها الضرار، ولاسیّما وأنّ الحکم بما هو هو لیس موقعاً للضرر.
قلت: الحَکَم هو العرف فی موارد العموم من وجه، وإلاّ فالنسبة بین «لا سهو لکثیر السهو» وبین أدلّة الشکوک عموم من وجه، وهکذا بین حدیث الرفع والأدلّة، ولکن یتبیّن بعد لفت النظر: أنّ مثل «لا ضرار» ـ بعد فهم العرف قبح ضرب القانون المستتبع له ـ تقدّمه علیه بالضرورة، ویکفی لصحّة إسناد الضرار إلی الشرع والقانون والحکم: أنّ إطلاقه یقتضی الامتثال، سواءً کان إطلاق حکم تعبّدی، أو توصّلی، أو غیریّ علی الفرض، ونتیجة الامتثال وقوع المکلّف فیه، فما هو الأحقّ بالنسبة هو الشرع قطعاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 288