الفرع الأوّل : فی التزاحم بین إضرار الغیر وتحمّل الحرج
إذا کان تصرّفه موجباً ومنتهیاً إلیٰ ضرر مسلم وجارٍ، وترکه موجباً ومنتهیاً إلی الضیق والمشقّة ووقوعه فی الحرج والشدّة، کما فی حفر البئر فی داره مثلاً، فمقتضیٰ قاعدة السلطنة جواز ذلک، ومقتضیٰ قاعدة «لا ضرر» ممنوعیّته؛ لعدم السلطة المنتهیة إلیٰ ضرر الغیر، وقضیّة قاعدة نفی الحرج جواز التصرّف؛ لإمکان نفی إطلاق قاعدة «لا ضرر» بقاعدة «لا حرج».
والنسبة بین قاعدة السلطنة والقاعدتین وإن کانت عموماً من وجه، إلاّ أنّهما مقدّمتان علیها حکومة، کحکومة حدیث الرفع علی الأدلّة الأوّلیة، وتفصیله فی التعادل والترجیح، ویظهر أنّ الأدلّة العلاجیّة لا تشمل العامّین من وجه مطلقاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 298 کما أنّ تقدیم «لا ضرر» علی الأدلّة الأوّلیة بالشهرة الفتوائیّة، أو بلزوم لغویّة «لا ضرر» فی صورة تقدیم سائر الأدلّة علیه، أو بأنّ نسبة «لا ضرر» إلیٰ مجموع الأدلّة عموم وخصوص مطلقان، أو بأنّ الأدلّـة الأوّلیة بالنسبة إلیٰ قاعدتی «لاحرج» و«لا ضرر» من الأحکام الاقتضائیّة، أو بأنّ قاعدة «لا حرج» مشتملة علیٰ کلمة «فِی الدِّینِ» فلابدّ وأن تتقدّم علیها؛ لکونها کالنصّ فیه، وقاعدة «لا ضرر» مخصوصة بتقدّمها علیٰ قاعدة السلطنة؛ للتعلیل بها علیها، فکلّها ـ ولاسیّما ما عدا الأخیر ـ ساقط جدّاً، وضعیف بوضوح.
بل المیزان کیفیّة دلالة الأدلّة، فإنّ أدلّة الخمس والزکاة والوضوء والصلاة والکفّارة والحج، لها نظارة علیٰ خاصّة تنتهی إلیٰ إفادة الملازمة بین الوجوب وتلک الموادّ، أو الحرمة ومتعلّقاتها، أو باعثة نحوها، أو جاعلة لتلک الموادّ خاصیّة الجزئیّة والسلطنة والشرطیّة ولزوم الوفاء وضعاً، ودلیل «لا ضرر» و«لا حرج» له نظارة إلی النسبة بین تلک الموادّ ولوازمها وأحکامها التکلیفیّة والوضعیّة، فلا حاجة إلی الشهرة، أو ملاحظة النسبة، أو اللغویّة، أو غیر ذلک. ولعلّ مقصود «الکفایة» ذلک أیضاً.
إذا تبیّنت حکومة قاعدة «لا حرج» و«لا ضرر» علیٰ قاعدة السلطنة، فتصل النوبة إلیٰ نفس القاعدتین، فهل قاعدة «لا حرج» مقدّمة علیٰ قاعدة «لا ضرر» فی المسألة المذکورة، فتصیر النتیجة بقاء السلطنة؛ نظراً إلیٰ کونها من الکتاب، أو إلیٰ تصریحه بکلمة «فِی الدِّینِ» الذی منه قاعدة «لا ضرر» وذلک لأنّ الکتاب مرجّح فی کثیر من المسائل، أو مرجع، ولأنّ الصراحة مقدّمة علی الإطلاق، کما فی تعارض العامّ والإطلاق؟
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 299 وبالجملة: فی صورة حفر البئر إذا کان ضرریّاً تکون قاعدة «لا ضرر» منتهیة إلیٰ نفی السلطنة، وحیث إنّ نفی السلطنة الآتی من القاعدة حرجیّ لیس من الدین، یلزم جواز حفر البئر، وحیث إنّهما قاعدتان تکون النسبة بینهما العموم من وجه؛ لأنّ «لا ضرر» المنتهی إلی الحرج لیس من الدین، و«لا حرج» الضرریّ مرفوع؛ أی أنّ «وَمَا جَعَل عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» الضرریّ غیر مجعول ومرفوع، فیلزم التزاحم بینهما، ولایکفی الوجهان المذکوران لتقدّم «لا حرج» علیٰ «لاضرر».
وأمّا توهّم: أنّ «لا ضرر» لا یکون له الحکومة مع الأحکام العدمیّة؛ نظراً إلیٰ أنّ جعل عدم الضمان فی مورد لیس حکماً، فهو فاسد. مع أنّ «لا حرج» أیضاً لا یکون له الحکومة علی العدمیّات، فتصیر النتیجة مقالة المشهور؛ وهی جواز تصرّفه وحفره.
والذی هو التحقیق علی الفرض حسبما مرّ: اختصاص حکومة الجملة الاُولیٰ بالنفی، واختصاصها بالحکومة علیٰ خصوص قاعدة السلطنة، وعلیٰ هذا فی خصوص تلک القصّة لیس للمالک سلطنة علیٰ کلّ تقدیر.
وأمّا حسب القاعدة، فإنّ «لا ضرر» المنتهی إلی الحرج محکوم «لا حرج» لقوله تعالیٰ: «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» وأمّا «لا حرج» فلا حاکم علیه؛ لما اُشیر إلیه آنفاً، وعندئذٍ یجوز حفر البئر المذکورة کما هو المشهور، بل عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 300 «المبسوط»: «أنّه لا خلاف فیه» هذا هو علی المختار فی قاعدة «لا ضرر».
وأمّا علی القول بحکومتها علیٰ مطلق الأحکام الأوّلیة؛ حسب تفاوت استلزامها الضرر؛ لأنّ الأحکام المبنیّة علی الضرر ضررها المنفیّ غیر الأحکام غیر المبنیّة علی الضرر، فلا مرجّح بعد الوجهین المشار إلیهما لأحدهما علی الآخر؛ إلاّ الأخبار الخاصّة الواردة فی حفر القنوات وتحدید الحدود حسب اختلاف الأراضی صعوبة ورخاوة، فإنّه یمکن دعویٰ: أنّ منع المالک عن حفر القناة حرج، ومع ذلک اعتبر تقدّم الضرر علی الحرج.
وتوهّم: أنّه من موارد دوران الأمر بین الضرر واللامنفعة التی لیست بحرج، فی غیر محلّه؛ لأنّه ربّما تکون اللامنفعة بحدّ تعدّ من الحرج، ومقتضیٰ إطلاق تلک الأخبار والفتاویٰ تقدّمه علیه أیضاً. واختصاصه بالبرّ دون البلدة بعید جدّاً، وإن صرّح بذلک جمع من الأصحاب، والمسألة تطلب من کتاب إحیاء الموات، وتحتاج إلیٰ فحص خاصّ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 301