فی وجوب کون الاستصباح تحت السماء وعدمه
الثالث: حکی غیر واحد، الشهرة علی وجوب کون الاستصباح تحت السماء. وعن السرائر نفی الخلاف عن عدم جوازه تحت الظلال. وعن المبسوط أ نّه روی أصحابنا أ نّه یستصبح به تحت السماء دون السقف.
وسیأتی الکلام فی حال الشهرة، لکن لو سلّم وجود شهرة جابرة للروایة أو فرضت صحّتها، کان مقتضی الجمع العقلائی بینها وبین الروایات المتضافرة التی فی مقام البیان، حملها علی الاستحباب.
بیانه یحتاج إلی مقدّمة، وهی أنّ طهارة دخان المتنجّس التی أفتی بها الفقهاء لیست لدلیل تعبّدی بل لقصور دلیل نجاسة الدهن المتنجّس مثلاً عن شموله للدخان والبخار، وعدم دلیل علی نجاستهما، وعدم جریان استصحاب النجاسة، فمقتضی الأصل الطهارة.
فلو فرض فی مورد علم بعدم الاستحالة وبقاء أجزاء الدهن اللطیفة وتصاعدها مع الدخان، یحکم بکونه نجساً لفرض عدم تحقّق الاستحالة الرافعة للموضوع.
نعم، لو کانت الأجزاء صغیرة جدّاً، بحیث یحتاج فی درکها إلی المکبّرات، لاتکون موضوعة للنجاسة، وأمّا لو اجتمعت وصارت مقداراً محسوساً ولوقلیلاً
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 150
وصغیراً، تکون نجسة لعدم الاستحالة وعدم احتمال صیرورة الصغر موجباً للطهارة.
هذا إذا علم عدم الاستحالة. ولو شکّ فی ذلک کان الدخان محکوماً بالطهارة، لقصور الأدلّة الاجتهادیة عن إثبات نجاستها، وعدم جریان الاستصحاب، لاختلاف القضیّة المتیقّنة مع المشکوک فیها، أو الشکّ فی وحدتهما. لکن مع ذلک کان الاحتیاط حسناً، سیّما إذا کانت الأدخنة کثیفة والدهن غلیظاً وکثیفاً تصیر معرضیة الأجزاء الدهنیّة للتصاعد قویّة وربّما صار مظنوناً ومعه یحسن الاحتیاط عنها لما یشترط فیه الطهارة.
ثمّ إنّ التدخین تحت الظلال والسقف إذا کان مدّة معتداً بها کالساعة والساعتین، یوجب ذلک تراکم الأدخنة وورودها فی منافذ البدن کالاُذن والأنف والحلق، وتراکمها فیها ربّما یکون مظنّة اجتماع الأجزاء اللطیفة الدهنیة الغیر المستحیلة ولا أقلّ من احتماله، سیّما إذا کانت البیوت ضیّقة وسقوفها منخفضة، کما کانت کذلک نوعاً فی تلک الأعصار، وسیّما مثل الأدهان التی مورد السؤال.
فإذا ورد نهی عن الاستصباح بهما تحت السقف، والأمر بالاستصباح تحت السماء لاینقدح فی ذهن العقلاء منهما التعبّد المحض الغیر المرتبط بالنجاسة بل المفهوم منهما بمناسبة الحکم والموضوع أنّ النجاسة صارت موجبة للحکم بذلک، فیفهم أهل العرف نجاسته إن کان حکم الشارع بالتحرّز إلزامیاً.
ولهذا یظهر من شیخ الطائفة ـ رحمه الله ـ فی عبارته الآتیة أنّ قوماً من أصحابنا قالوا بنجاسة دخان المتنجّس للروایة المرسلة المتقدّمة.
وهو حق لو علمنا بلزوم الاجتناب. فیفهم من دلیله تخطئة الشارع العرف
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 151
فی وقوع الاستحالة، أو حکم بلزوم الاحتیاط فی الشبهة لمعرضیّة عدم الاستحالة.
لکن مع ورود روایات کثیرة مطلقة فی مقام البیان لم یکن فیها أثر من هذا القید فی مقابل روایة واحدة ناهیة عن الإسراج تحت السقف، یکون الجمع العقلائی بینها حملها علی الاحتیاط الاستحبابی المطلوب فی مثل المقام، سیّما مع کونها مخالفة للاُصول.
والحمل علی التعبّد المحض الغیرالمربوط بالنجس الاحتمالی أو المظنون، غیر مساعد لفهم العرف والعقلاء ومناسبات الحکم و الموضوع.
کما أنّ الحمل علی لزوم الاحتیاط ورفع الید عن الاُصول والقواعد والإطلاقات الکثیرة الواردة فی الباب، بعید جداً، ومخالف لارتکاز العقلاء فی مقام جمع الأدلّة.
فما ربّما یقال: إنّ مقتضی تعلّق الحکم علی العنوان وإطلاقه عدم جواز الاستصباح به ولو لحظة بل ولو کان السقف مرتفعاً إلی الثریّا، ناش من عدم التأمّل فی الروایة وارتکاز العقلاء، فإنّ العناوین مختلفة؛ فربّما لاتکون لها نفسیّة حتّی یأتی فیها ما ذکر، نظیر قوله فی روایات الباب: وأعلمهم إذا بعته، فإنّ الإعلام بحسب حکم العرف لیس إلاّ للتحفّظ عن الابتلاء، فمع العلم بعدمه لایجب کما مر. ولیس لأحد أن یقول: إنّ مقتضی الإطلاق وجوبه ولو مع لغویّة
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 152
الإعلام، ضرورة عدم الإطلاق لمثله، والمقام من قبیله، فإنّ أهل العرف لایفهمون من النهی عن الاستصباح تحت السقف، إلاّ للتنزّه عن النجس المحتمل أو المظنون، فلا إطلاق له یشمل ما ذکر.
والإنصاف أنّ الجمع بینها وبین المطلقات المتقدّمة بما ذکرناه وأشار إلیه شیخنا الأعظم، من أجمل الجموع وأوهن التصرّفات.
ثمّ إنّا لانقول بأنّ النهی لمراعاة عدم تنجّس السقف حتّی یقال: إنّ تنجّسه لامانع منه.
بل نقول: إنّ ذلک لمراعاة حال المکلّف المبتلی بالدخان تحت السقف، لالکون تنجّس بدنه ممنوعاً شرعاً ونفساً، بل لما یشترط فیه الطهارة، فالأجزاء الدخانیة المجتمعة فی الفم یحتمل فیها النجاسة ویحسن معه الاحتراز لمراعاة عدم الابتلاء بأکل النجس المحتمل، وکذا ما اجتمع منه فی منفذ الاُذن والأنف، بل وما اجتمع منه فی السقف ربّما یوجب التنجیس فیحسن التنزّه منه للصلاة وغیرها.
حال الشهرة والإجماع فی المسألة
هذامع أ نّها روایة مرسلة غیر مجبورة، لعدم ثبوت الشهرة فی المسألة عند قدماء أصحابنا، فضلاً عن ثبوت الشهرة بالعمل بها.
بل لو ثبتت الشهرة واحتمل استنادهم إلیها، تصیر معلّلة لایجوز الاتکال علیها، لاحتمال أن یکون نظرهم إلی جمع الروایات بتقیید المطلقات بها، سیّما وهو جمع عقلائی معروف لولا التنبّه بما قدّمناه.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 153
کما أ نّه لو ثبتت ولم یحتمل استنادهم إلیها، کانت حجة بلا إشکال فی مثل تلک المسألة التی وردت فیها روایات مطلقة فی مقام البیان، وترک الأصحاب العمل بإطلاقها، فلایجوز مع ذلک العمل بالإطلاق، وترک الشهرة فی المسألة المخالفة للقواعد.
إلاّ أن یقال باحتمال أن یکون مستندهم فی الحکم: قاعدة عدم جواز الانتفاع بالنجاسات، ولم یعملوا بتلک الروایات، للخدشة فی إطلاقها، وهو کما تری.
وکیف کان فثبوت الشهرة محلّ إشکال بل منع لو لم نقل بثبوت الشهرة أو الإجماع علی الجواز، کما ربّما یظهر من الشیخ فی الخلاف، قال (فی الأطعمة، المسألة 19): «إذا ماتت الفأرة فی سمن أو زیت أو شیرج أو بزر نجس کله، وجاز الاستصباح به، ولایجوز أکله ولا الانتفاع به لغیر الاستصباح، وبه قال الشافعی». ثمّ نقل أقوال القوم ثمّ قال: «دلیلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» ثمّ قال: «وروی أبو سعید الخدری أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم سئل عن الفأرة تقع فی السمن والزیت، فقال: استصبحوا به ولاتأکلوه. وهو إجماع الصحابة، وروی ذلک عن علی ـ علیه السلام ـ وابن عمر».
ثمّ قال (المسألة 20): «إذا جاز الاستصباح به فإنّ دخانه یکون طاهراً ولایکون نجساً» ثم تمسّک بالأصل وعدم الدلیل علی النجاسة.
أقول: إطلاق المسألة الاُولی یقتضی جواز الاستصباح تحت السقف، سیّما مع التمسّک بأخبار الطائفة، فإنّ الأخبار المشار إلیها هی ما تقدّمت من المطلقات التی فی مقام البیان الدالّة علی الجواز مطلقاً، وسیّما مع تمسّکه فی مقابل
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 154
من قال بعدم جواز الانتفاع بروایة أبی سعید المطلقة.
وتؤکّد الإطلاق بل کون نظره إلی الاستصباح تحت السقف، المسألة الاُخری التی ذکرها بعد الاُولی، فإنّ جواز الاستصباح به مع طهارة الدخان لاربط بینهما إلاّ من جهة أ نّه إذا لم یجز بحکم الشارع الاستصباح تحت السقف، یدلّ ذلک علی نجاسته لما قدّمنا ذکره من فهم أهل العرف والعقلاء فیدلّ ذلک علی أنّ عمدة نظر الشیخ إلی الاستصباح تحت السقف فی المسألة الاُولی وقد ادعی الإجماع علی جوازه.
وعن المبسوط: «الأدهان إذا ماتت فیها فأرة، نجس (نجسة ـ ظ) ویجوز عندنا وعند جماعة الاستصباح به فی السراج، ولایؤکل، ولاینتفع به فی غیر الاستصباح، وفیه خلاف. وروی أصحابنا أ نّه یستصبح به تحت السماء دون السقف. وهذا یدلّ علی أنّ دخانه نجس، غیر أنّ عندی أنّ هذا مکروه، وأمّا دخانه و دخان کلّ نجس عندنا لیس بنجس. وأمّا ما قطع بنجاسته، قال قوم: دخانه نجس، وهو الذی قدّمناه من روایة أصحابنا. وقال آخرون وهو الأقوی: إنّه لیس بنجس». انتهی.
وهذه العبارة أیضاً شاهدة بأنّ مراده فی الخلاف من الاستصباح، أعمّ ممّا تحت السماء.
والخلاف الذی أشار إلیه یحتمل أن یکون من العامّة، وروایة الأصحاب تلک الروایة غیر فتواهم بها. ویحتمل أن یکون خلاف بین أصحابنا لکنّه غیر معتدّ به عنده، فأفتی بخلافه مع وجود روایة الأصحاب. وکیف کان یظهر من الخلاف أنّ الجواز مطلقاً إجماعیّة.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 155
ولو قیل بظهور عبارة المبسوط فی أنّ المسألة خلافیّة عند أصحابنا، فلا أقلّ من عدم الشهرة الجابرة أو المعتبرة فی عصر شیخ الطائفة وقبله.
ولهذا قال العلاّمة فی محکی المختلف فی جواب ابن إدریس المدّعی بأنّ ما ذهب أحد من أصحابنا أنّ الاستصباح به تحت الظلال مکروه، بل محظور بلا خلاف منهم: «إنّ هذا الردّ علی شیخنا جهل وسخف، فإنّ الشیخ أعرف بأقوال علمائنا والمسائل الإجماعیّة والخلافیّة». انتهی.
وهو کذلک، فالشیخ ادّعی الإجماع علی الجواز أو أخبر بخلافیة المسألة، فلایمکن تصدیق الحلّی فیما ذکره.
وقد یتوهّم من عبارة الخلاف فی البیوع بأنّ الشیخ ادّعی الإجماع علی لزوم کون الاستصباح تحت الظلال.
وهو خطأ، لأ نّه ادّعی ذلک علی جواز البیع لمن یستصبح تحت السماء، لاعلی عدم جوازه تحت الظلال.
قال: «یجوز بیع زیت (الزیت ظ) النجس لمن یستصبح به تحت السماء. وقال أبو حنیفة: یجوز بیعه مطلقاً. وقال مالک و الشافعی: لایجوز بیعه بحال. دلیلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأیضاً قوله تعالی: «وأحلّ الله البیع و حرّم الربا»، و قوله: «إلاّ أن تکون تجارة عن تراض». وهذا بیع وتجارة، وأیضاً دلالة الأصل. والمنع یحتاج إلی دلیل». ثمّ تمسّک علیهم بما روی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أ نّه أذن فی الاستصباح بالزیت النجس، وهو دلیل علی جواز بیعه للاستصباح، وأنّ لغیره لایجوز إذا قلنا بدلیل الخطاب، انتهی.
وهو کما تری ادّعی الإجماع وورود الأخبار علی جوازه للاستصباح تحت
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 156
السماء مقابل مالک والشافعی، ولهذا تمسّک بالآیة والأصل والروایة من طریقهم، وإنّما تمسّک بدلیل الخطاب إذا قلنا به وعلی نحو التعلیق.
فلو کانت المسألة بشقّیها أی الجواز للاستصباح تحت السماء وعدمه له تحت الظل إجماعیّة، لتمسّک به فیهما ولایدّعیه فی خصوص الاُولی، ولایبعد دعوی ظهور عبارته فی جوازه مطلقاً.
فتحصلّ من جمیع ما تقدّم أنّ المسألة لیست مشهورة ولا إجماعیّة لو لم نقل بقیام الشهرة علی الجواز. فمقتضی إطلاق الأدلّة والقواعد الجواز.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 157