تتمّة إشکالات علی کلام بعض الأعلام
و هاهنا بعض التفصِّیات التی لاتخلو عن النظر:
منها: ما أفاده المحقِّق الخراسانی - رحمه اللّٰه -: من أنّ الاختیار وإن لم یکن بالاختیار، إلاّ أنّ بعض مبادئه غالباً یکون وجوده بالاختیار؛ للتمکّن من عدمه بالتأمّل فیما یترتّب علی ماعزم علیه من تَبِعة العقوبة واللوم والمذمّة.
وفیه: أ نّه بعد فرض کون الفعل الاختیاریّ ماتکون مبادئه بإرادة واختیار لایمکن فرض اختیاریّة المبادئ؛ فإنّها - أیضاً أفعال اختیاریّة لابدّ من تعلّق إرادة بإرادتها.
و بعبارة اُخری: إنّا ننقل الکلام إلی المبادئ الاختیاریّة، فهل اختیاریّتها بالإختیار فیلزم التسلسل، أو لا فعاد المحذور؟
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 66 و منها: ما أفاده شیخنا العلاّمة الحائریّ - رحمه اللّٰه تعالی -: بأنّ التسلسل إنّما یلزم لو قلنا بانحصار سبب الإرادة فی الإرادة، ولا نقول به، بل ندّعی أ نّها قد توجد بالجهة الموجودة فی المتعلّق - أعنی المراد - وقد توجد بالجهة الموجودة فی نفسها، فیکفی فی تحقّقها أحد الأمرین... إلی أن قال: والدلیل علی أنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة فی نفسها هوالوجدان؛ لأ نّا نری إمکان أن یقصد الإنسان البقاء فی المکان الخاصّ عشرة أیّام بملاحظة أنّ صحّة الصوم والصلاة التامّة تتوقّف علی القصد المذکور، مع العلم بأنّ هذا الأثر لایترتّب علی نفس البقاء واقعاً، ونظیر ذلک غیر عزیز انتهی.
و فیه أوّلاً: أ نّه بذلک لاتنحسم مادّة الإشکال، فإنّا لو سلّمنا أنّ الإرادة فی الجملة تحصل با لإرادة، لکن إرادة هذه الإرادة هل هی إرادیّة، وهکذا إرادة إرادة الإرادة، أم لا؟ فعلی الأوّل تتسلسل الإرادات إلی غیر نهایة، وعلی الثانی عاد المحذور من کون العبد مُلجأً مُضطرّاً.
و ثانیاً: أنّ ما اعتمد علیه من المثال الوجدانیّ ممّا لایُثبت مُدّعاه؛ فإنّ الشوق بالتبع لابدّ وأن یتعلّق ببقاء عشرة أیّام، وإلاّ فلا یعقل تحقّق قصد البقاء، ففی المثال - أیضاً - أ نّه یرید البقاء، لا أ نّه یرید إرادة البقاء، وذلک واضح جدّاً.
ومنها: ماقیل: إنّ المراد إرادیّ بالإرادة، والإرادة مرادة بنفس ذاتها، کالوجود إنّه موجود بنفس ذاته، والعلم معلوم بنفس ذاته.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 67 و فیه: أنّ هذا خلط غیر مفید، فإنّ معنی کون الإرادة مرادة بنفس ذاتها أ نّها مصداق المراد بنفس ذاتها؛ أی بلا جهة تقییدیّة، بناءً علی عدم أخذ الذات فی مفهوم المشتقّ، لا أ نّها مُحقّقة نفس ذاتها ولا یکون لهاجهة تعلیلیّة، وما یکون مَنشأ الإشکال فی المقام هو مسبوقیّة الإرادة بعلّة غیر إرادیّة للفاعل، فلا یُحسم بما ذکر مادّة الإشکال، بل هو کلام إقناعیّ.
فی معنی البعد والقرب والإیراد علی المصنف
قوله: إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما یکون من تَبِعة بُعده ... إلخ.
لایخفی أنّ القرب والبعد بالنسبة إلی اللّٰه - تعالی - قد ینتزعان من کمال الوجود ونقصه، فکلّما کان فی وجوده ونعوت وجوده کاملاً تامّاً یکون قریباً من مبدأ الکمال ومعدن التمام، کالعقول المجرّدة والنفوس الکلّیّة، وکلّما کان ناقصاً متشابکاً بالأعدام ومتعانقاً بالکثرات یکون بعیداً عن المقام المقدّس عن کلّ عدم ونقص وقوّة واستعداد، کالموجودات المادّیّة الهَیولانیّة.
فالهَیولی الاُولی الواقعة فی حاشیة الوجود - حیث کان کمالها عین النقص، وفعلیّتها عین القوّة - أبعد الموجودات عن اللّٰه تعالی، والصادر الأوّل أقرب الموجودات إلیه تعالی، والمتوسّطات متوسّطات.
و هذا القرب والبعد الوجودیّ لا یکونان مناط الثواب والعقاب بالضرورة، ولعلّه - قدّس سرّه - یعترف بذلک.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 68 و قد یُنتزعان من مقام استکمال العبد بالطاعات والقُرُبات، أو نفس الطاعات والقُرُبات، والتحقّق بمقابلاتها من العصیان والتجرّی، فیقال للعبد المطیع المنقاد: إنّه مقرَّب [من] حضرته قریب من مولاه، وللعاصی المتجرّی: إنّه رجیم بعید عن ساحة قدسه. وهذا مراده من القرب والبعد ظاهراً.
فحاصل مرامه: أنّ سبب اختلاف الناس فی استحقاق الجنّة والنار ونیل الشفاعة وعدمه، هو القرب منه تعالی بالانقیاد والطاعة، والبعد عنه بالتجرّی والمعصیة.
و فیه: أنّ القرب والبعد أمران اعتباریّان منتزعان من طاعة العبد وعصیانه، مع أنّ استحقاق العقوبة والمثوبة من تبعات نفس الطاعة والانقیاد والتجرّی والعصیان، والعقل إنّما یحکم باستحقاق العبد المطیع والعاصی للثواب والعقاب بلا توجّه إلی القرب والبعد.
و بعبارة اُخری: الطاعة والمعصیة وکذا الانقیاد والتجرّی تمام الموضوع لحکم العقل فی باب الثواب والعقاب، بلا دخالة للقرب والبعد فی هذا الحکم أصلاً.
و بعبارة ثالثة: إنّ عناوین القرب والبعد واستحقاق العقوبة والمثوبة منتزعات فی رتبة واحدة عن الطاعة والعصیان وشقیقیهما، ولا یمکن أن یکون بعضها موضوعاً لبعض.
ثمّ اعلم: أ نّه - قدّس سرّه - قد اضطرب کلامه فیهذا المقام؛ حیث حکم
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 69 فی أوّل المبحث بأنّ المتجرّی مستحقّ للعقوبة علی تجرّیه وهتک حرمة مولاه وبعد «إن قلتَ.. قلتُ» ظهر منه أنّ التجرّی سبب للبعد وهو موجب للعقوبة؛ حیث قال: إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما یکون من تَبِعة بعده عن سیّده بتجرّیه علیه وظهر منه بلا فصل أنّ التجرّی موجب للبعد وحسن العقوبة کلیهما فی عرض واحد؛ حیث قال: فکما أ نّه یوجب البعد عنه، کذلک لاغرو فی أن یوجب حسن العقوبة وبعد أسطر صرّح: بأنّ تفاوت أفراد الإنسان فی القرب والبعد سبب لاختلافها فی الاستحقاق وفی آخر المبحث ظهر منه أنّ منشأ استحقاق العقوبة هو الهتک [لحرمة] المولی.
و ممّا ذکرنا من مناط الاختیاریّة ومناط حسن العقوبة ظهر مافی کلامه أیضاً من أنّ التجرّی وان لم یکن باختیاره إلاّ أ نّه یوجب العقوبة بسوء سریرته وخبث باطنه؛ فإنّه قد ظهر أنّ الفعل الذی هو مناط حسن العقوبة عند العقلاء والعقل هو الفعل الاختیاریّ؛ أی الفعل الذی هو أثر الاختیار ومنشؤه الاختیار، لا الفعل الذی یکون اختیاره بالاختیار.
و أ مّا سوء السریرة وخبث الباطن ونقصان الوجود والاستعداد، فلیست ممّا توجب العقوبة عقلاً کما عرفت.
نعم لایبعد أن تکون بعض المراتب من الظلمة والوحشة من تبعات
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 70 سوء السریرة وخبث الباطن، وسیأتی فیمستأنف القول أنّ سوء السریرة وخبث الباطن، وکذا سائر الملکات الخبیثة وغیرها، لیست ذاتیّة غیر ممکنة التخلّف عن الذات، بل کلّها قابل للزوال، وللعبد المجاهد إمکان إزالتها، فانتظر.
و أ مّا ماذکره فی الهامش فی هذا المقام بقوله: کیف لا؛ أی کیف لایکون العقاب بأمر غیر اختیاریّ وکانت المعصیة الموجبة لاستحقاق العقوبة غیر اختیاریّة؟ فإنّها هی المخالفة العمدیّة، وهی لاتکون بالاختیار؛ ضرورة أنّ العمد إلیها لیس باختیاریّ، و إنّما تکون نفس المخالفة اختیاریّة، وهی غیر موجبة للاستحقاق، وإنّما الموجبة له هی العمدیّة منها، کما لایخفی علی اُولی النُّهی.
ففیه: أنّ الموجب لاستحقاق العقوبة هی المخالفة العمدیّة؛ بمعنی أن تکون المخالفة صادرة عن عمد، لابمعنی أن تکون مقیّدة بالعمد؛ حتّی یلزم أن یکون صدور المخالفة العمدیّة عن عمد واختیار، وهو واضح.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 71
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 72
فی تحقیق الذاتیّ الذی لایعلّل
وله: فإذا انتهی الأمر إلیه یرتفع الإشکال، وینقطع السؤال بـ «لِمَ» ... إلخ.
قد تکرر علی ألسنة القوم أنّ الذاتیّ لایُعلَّل، والعرضیّ یُعلَّل، وقد أخذ المصنف - قُدّس سرّه - هذا الکلام منهم واستعمله فی غیر مورده کراراً فی الکفایة والفوائد ولابدّ لنا من تحقیق الحال حتّی یتّضح الخلط ویرتفع الإشکال، وقبل الخوض فی المقصود لابدّ من تمهید مقدّمات:
الاُولی: أنّ الذاتیّ الذی یقال إنّه لایُعلّل هو الذاتیّ المتداوَل فی باب البرهان فی مقابل العَرَضیّ فی بابه، وهو مالا یمکن انفکاکه عن الذات، أعمّ من
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 73 أن یکون داخلاً فیها - وهو الذاتیّ فی باب الایساغوجی أو خارجاً ملازماً لها.
و وجه عدم المعلَّلیة: أنّ سبب الافتقار إلی العلّة هو الإمکان علی ما هو المقرر فی محلّه والوجوب والامتناع کلاهما مناط الاستغناء عن العلّة، فواجب الوجود لایعلّل فی وجوده، وممتنع الوجود لایعلّل فی عدمه، وواجب الإنسانیّة والحیوانیّة والناطقیّة لایعلّل فیها، وواجب الزوجیّة والفردیّة لایعلّل فیهما؛ لأنّ مناطَ الافتقار إلی الجعل - وهو العقد الإمکانیّ - مفقودٌ فیها، وقس علی ذلک الامتناع.
الثانیة: أنّ الوجود وکلّیة عوارضه ونعوته - وبالجملة کلّ ما کان من سنخ الوجود - لاتکون ذاتیّة لشیء من المهیّات الإمکانیّة، وإنّما هو ذاتیّ بوجه لواجب الوجود الذی هو بذاته وجود ووجوب، وأ مّا غیر ذاته - تعالی - فالممکنات قاطبة ذاتها وذاتیّاتها من سنخ المهیّات ولوازمها.
فما کان من سنخ الوجود معلّلٌ غیر الواجب بالذات - جلّ کبریاؤه - وینتهی فی سلسلة العلل إلی أوّل الأوائل وعلّة العلل، فلو کان فی سلسلة الوجودات شیء مستغنٍ عن العلّة لخرج عن حدود بقعة الإمکان إلی ساحة القدس الوجوبیّ تعالی عن ذلک علوّاً کبیراً.
فالمراد بالذاتیّ الذی لایعلّل فی الممکنات هو المهیّات وأجزاؤها ولوازمها، وأ مّا الوجود فلم یکن فی بقعة الإمکان شیء منه غیر معلّل.
نعم إنّ الوجود مجعول بالجعل البسیط، وأ مّا بعد جعله بسیطاً فلایحتاج
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 74 فی کونه وجوداً وموجوداً إلی جعل، ففی الحقیقة کونه موجوداً ووجوداً لیس شیئاً محقّقاً بهذا المعنی المصدریّ، بل هو من المخترعات العقلیّة، و إذا اُرید بکونه موجوداً أو وجوداً نفس الحقیقة النوریّة الخارجیّة، فهو یرجع إلی نفس هُویّته المجعولة بسیطاً.
فاللازم فی باب الوجود لو اُطلق لایکون بمثابة اللازم فی باب المهیّات من کونه غیر مجعول، بل لازم الوجود - أی الذی هو من سنخ الوجود مطلقاً - مجعول ومعلّل. ألا تری أنّ أساطین الفلسفة قد جمعوا بین المعلولیّة واللزوم، وقالوا: إنّ المعلول لازم ذات العلّة.
الثالثة: أنّ من المقرّر فی مقارّه: أنّ المهیّات بلوازمها لیس مَنشأ لأثر من الآثار، ولا علّیة ومعلولیّة بینها حقیقة أصلاً، فإن قیل: إنّ المهیّة الکذائیّة علّة لکذا، فهو من باب المسامحة، کما قیل: إنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول، فإذا رجعوا إلی تحقیق الحال أقاموا البرهان المُتقَن علی أنّ المهیّات اعتباریّات لیست بشیء، والعدم حاله معلوم.
فالتأثیر والتأثّر أناخا راحلتیهما لدی الوجود، وإلیه المصیر، ومنه المبدأ والمعاد، وهذا یؤکّد عدم معلولیّة الذات والذاتیّات فی الممکنات، فإنّها من سنخ المهیّات المحرومة عن المجعولیّة والفیض الوجودی، فالمفیض والمُفاض هو الوجود لا غیر.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 75 الرابعة: أنّ کلّ کمال وجمال وخیر یرجع إلی الوجود، وإنّما المهیّات اُمور اعتباریّة لاحقیقة لها بل «کَسَرابٍ بِقِیعةٍ یَحسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً».
فالعلم بوجوده کما ل، والقدرة وجودها شریف لامهیّتها، و[کذا ] سائر الکمالات والخیرات فإنّها بوجوداتها کمالات وخیرات، لابمهیّاتها؛ فإنّها اعتباریّة، ولا شرف ولا خیر فی أمر اختراعیّ اعتباریّ.
فالوجود مع کونه بسیطاً غایة البساطة مرکز کلّ الکمال والخیر، ولیس فی مقابله إلاّ المهیّات الاعتباریّة والعدم، وهما معلوما الحال لیس فیهما خیر وکمال، ولا جلال وجمال.
و هذا أصل مُسلَّم مُبرهَن علیه فی محلّه، وإنّما نذکر هاهنا نتائج البراهین حذراً عن التطویل.
الخامسة: أنّ المقرّر فی محلّه والمبرهن علیه فی العلوم العالیة - کما عرفت - أنّ کلّ الکمالات ترجع إلی الوجود. فاعلم الآن أنّ السعادة - سواء کانت سعادة عقلیّة حقیقیّة، أوحسّیة ظنّیة - من سنخ الوجود والکمال الوجودیّ، بل الوجود - أینما کان - هو خیر وسعادة، والشعور بالوجود وبکمال الوجود خیر وسعادة، و کلّما تتفاضل الوجودات تتفاضل الخیرات والسعادات.
بل التحقیق: أنّ الخیر والسعادة مساوقان للوجود، ولا خیریّة للمهیّات
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 76 الاعتباریة والذاتیّات الاختراعیّة، فأتمّ الوجودات وأکملها یکون خیراً مطلقاً مبدأ کلّ الخیرات، وسعیداً مُطلقاً مصدر کلّ السعادات، وکلّما بعد الموجود عن مبدأ الوجود وصار متعانقاً بالأعدام والتعیّنات بَعُد عن الخیر والسعادة.
هذا حال السعادة.
وأ مّا الشقاوة مطلقاً فعلی قسمین:
أحدهما: ماهو مقابل الوجود وکماله، فهو یرجع إلی العدم والنقصان.
وثانیهما: الشقاوة الکسبیّة التی تحصل من الجهالات المُرکّبة والعقائد الفاسدة والأوهام الخرافیّة فی الاعتقادیّات، والملَکات الرذیلة والأخلاق الذمیمة کالکِبْر والحسد والنفاق والحقد والعداوة والبخل والجبن فی الأخلاقیّات، وارتکاب القبائح والمحرّمات الشرعیّة کالظلم والقتل والسرقة وشرب الخمر وأکل الباطل فی التشریعیّات.
و هذا القسم من الشقاوة له صورة فی النفس وملکوت الباطن، وبحسبها حظّ من الوجود مخالف لجوهر ذات النفس والفطرة الأصلیّة لها، وستظهر لأهلها فی الدار الآخرة - عند ظهور ملَکوت النفس، والخروج عن خدرالطبیعة - موحشة مظلمة مؤلمة معذِّبة إیّاها، ویبقی أهلها فی غُصّة دائمة وعذاب خالد، مقیَّدین بسلاسل علی حسب صور أعمالهم وأخلاقهم وملکاتهم وظلمات عقائدهم وجهالاتهم، حسبما هوالمقرّر عند علماء الآخرة وکشفت عن ساقها الکُتب السماویّة، ولا سیّما الکتاب الجامع الإلهیّ والقرآن
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 77 التامّ لصاحب النبوّة الختمیّة والمتکفّل لتفصیلها الأخبار الصادرة عن أهل بیت الوحی والطهارة علیهم أفضل الصلاة والتحیّة.
إذا عرفت ماتقدّم من المقدّمات فاعلم: أنّ السعادة مطلقاً والشقاوة بمعناها الثانی لایکونان من الذاتیّات الغیر المعلَّلة؛ فإنها - کما عرفت - هی المهیّات ولوازمها، والوجود - أیّ وجود کان - فهو لیس بذاتیّ لشیء من الأشیاء الممکنة، وقد عرفت أنّ السعادة مطلقاً والشقاوة بهذا المعنی من سنخ الوجود، وهو مجعول معلَّل لیس ذاتیّاً لشیء من الموجودات الممکنة.
نعم لمّا کانت الوجودات مختلفة المراتب ذات المدارج بذاتها، تکون کلّ مرتبة تالیة معلولَ مرتبةٍ عالیة متلوّة لایمکن التخلّف عنها، فالوجود الدانی معلول الوجود العالی السابق له بذاته وهویّته، ولا یمکن تخلّفه عن المعلولیّة؛ فإنّها ذاتیّة له، وهذا الذاتیّ غیرالذاتیّ الذی لایعلّل، بل الذاتیّ الذی هو عین المعلولیّة کما عرفت.
فی الإشکال علی المحقّق الخراسانی
و بما ذکرنا سقط ما أفاده المحقِّق الخراسانیّ - رحمه اللّٰه - فی الکفایة والفوائد: من أنّ التجرّی کالعصیان وإن لم یکن باختیاره، إلاّ أ نّه بسوء
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 78 سریرته وخُبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمکاناً، وإذا انتهی الأمر إلیه یرتفع الإشکال وینقطع السؤال بـ «لمَ»؛ فإنّ الذاتیّات ضروریّة الثبوت للذات، وبذلک أیضاً ینقطع السؤال عن أ نّه لمَ اختارالکافر والعاصی الکفر والعصیان، والمطیع والمؤمن الإطاعة والإیمان؛ فإنّه یساوق السؤال عن أنّ الحمار لمَ یکون ناهقاً، والإنسان لم یکون ناطقاً؟
وما أفاد - أیضاً - من أنّ العقاب إنّما یتبع الکفر والعصیان التابعین للاختیار الناشئ عن مُقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتیّة اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ (السعید سعید فی بطن اُمّه، والشقیّ شقیّ فی بطن اُمّه) و(الناس معادن کمعادن الذهب والفضّة) کما فی الخبر، والذاتیّ لایعلّل، فانقطع سؤال: أ نّه لمَ جُعل السعید سعیداً والشقیّ شقیّاً؟ فإنّ السعید سعید بنفسه والشقیّ شقیّ کذلک، وقد أوجدهما اللّٰه تعالی انتهی.
فإنّه یرد علیه: - مضافاً إلی ماعرفت من وقوع الخلط والاشتباه منه قدّس سرّه فی جعل الشقاوة والسعادة من الذاتیّات الغیرالمعلّلة - أنّ الذاتیّ الغیرالمعلّل أی المهیّات ولوازمها لم تکن منشأ للآثار مطلقاً، فاختیارالکفر والعصیان الذی هو أمر وجودیّ، وکذا الإرادة التی هی من الموجودات، لم یکونا ناشئین من الذات والذاتیّات التی هی المهیّات؛ لما عرفت من أنّ
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 79 المهیّات مطلقاً منعزلة عن التأثیر والتأثّر، والتأثیر بالوجود وفی الوجود، وهو لیس بذاتیّ لشیء من الممکنات.
و بذلک عُلم ما فی قوله: من أنّ تفاوتَ أفراد الناس فی القرب منه تعالی والبعد عنه تعالی، سببٌ لاختلافها فی استحقاق الجنّة والنار ونیل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها فی ذلک بالآخرة یکون ذاتیاً والذاتیّ لایعلّل فإنّ تفاوت أفراد الناس والامتیازات الفردیّة إنّما تکون بحسب الهُویّة الوجودیّة والعوارض الشخصیّة التی هی الأمارات للهُویّة البسیطة الوجودیّة، لابحسب المهیّة ولوازمها، والتفاوت الوجودیّ لیس بذاتیّ للأشیاء، فالاختلاف الفردیّ إنّما هو بجعل الجاعل، لا بالذات.
لا أقول: إنّ الجاعل جعل بسیطاً وجودَ زید وعمرو، ثمّ جعلهما مختلفین بالجعل التالیفیّ، بل أقول: إنّ هُویّة زید المختلفة مع هُویّة عمرو مجعولةٌ بالجعل البسیط، وهذا هوالمراد بالذاتیّ فی باب الوجود الذی لایُنافی الجعل.
و إن شثت قلت: إنّ اختلاف الهُویّات الوجودیّة بنفس ذاتها المعلولة، فافهم، فإنّه دقیق جدّاً.
فی سبب اختلاف أفراد الإنسان
فإن قلت: إذا کانت الذات والذاتیّات ولوازمها فی أفراد الإنسان غیر مختلفة، فمن أین تلک الاختلافات الکثیرة المشاهدة؟ فهل هی بإرادة الجاعل
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 80 جُزافاً؟ تعالی عن ذلک علوّاً کبیراً، [إضافة إلی] ورود إشکال الجبر أیضاً.
قلت: هاهنا کلام طویل فی وقوع أصل الکثرة فی الوجود، وله مقدّمات کثیرة ربّما لاینبغی الغور فیها إلاّ فی المقام المعدّ لها، ولکنّ الذی یناسب مقامنا فی وقوع الاختلاف فی الأفراد الإنسانیة أن یقال:
إنّ الموادّ التی یتغذّی بها بنو ادم، وبها یعیشون، وتستمرّ حیاتهم فی هذا العالم العنصریّ الطبیعیّ مختلفة بحسب النوع لطافة وکثافة وصفاء وکدورة، فربّما یکون التفّاح والرمّان والرطب ألطفَ وأصفی وأقربَ إلی الاعتدال والکمال الوجودیّ من الجزر والباقلاّء وأشباههما، وهذا الاختلاف الکثیر بین أنواع الموادّ الغذائیّة ربّما یکون ضروریّاً. و لا إشکال فی أنّ النطفة الإنسانیّة التی یتکوّن منها الولد، وتکون لها المبدئیّة المادیّة له، من تلک الموادّ الغذائیة؛ فإنّ النطفة من فضول بعض الهضوم، فالقوّة المولدة المودعة فی الإنسان تفرز من عصارة الغذاء هذه المادّة المنویّة لحفظ بقاء النوع، فربّما تفرز المادّة من مادّة غذائیّة لطیفة نورانیّة صافیة أکلها الوالد، وربّما یکون الإفراز من المادّة الکثیفة الظلمانیّة الکدرة، وقد یکون من متوسّطة بینهما، وقد یمتزج بعضها بالبعض.
و معلوم أنّ هنا اختلافات وامتزاجات کثیرة لایُحصیها إلاّ اللّٰه تعالی، ولعلّ المراد من النطفة الأمشاج فی قوله تعالی: «إنّا خلقنا الإنْسانَ منْ نُطفةٍ أمْشاجٍ» هو هذه الامتزاجات والاختلاطات التی تکون فی نوع الأفراد،
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 81 وقلّما تکون النطفة غیر ممتزجة ولامختلطة من موادّ مختلفة.
و من الواضح المقرّر فی موضعه: أ نّه کلّما اختلفت المادّة اللائقة المستعدّة لقبول الفیض من مبدئه اختلفت العطیّة والإفاضة حسب اختلافاتها، فإنّه - تعالی - واجب الوجود بالذات ومن جمیع الجهات، فهو واجب الإفاضة والإیجاد، لکن المادّة الصلبة الکثیفة لاتقبل الفیض والعطیّة إلاّ بمقدار سعة وجودها واستعدادها. ألا تری أنّ الجلیدیّة تقبل من نور غیب النفس ما لایقبله الجلد الضخم والعظم، فالنفس المفاضة علی المادّة اللطیفة النورانیة ألطف وأصفی وألیق لقبول الکمال من النفس المفاضة علی المادّة المقابلة لها.
وهذا - أی اختلاف النطف أحد موجبات اختلاف النفوس والأرواح، وهاهنا موجبات کثیرة اُخری لاختلاف الموادّ فی قبول الفیض، ولاختلاف الأرواح [فیدرجات] الکمال، بل إلی الوصول إلی الغایة والخروج من الأبدان:
منها: اختلاف الأصلاب فی الشموخ والنورانیّة والکمال ومقابلاتها والتوسّط بینهما، وهذا أیضاً باب واسع، وموجب لاختلافات کثیرة ربّما لاتحصی.
و منها: اختلاف الأرحام کذلک، وهذا أیضاً من الموجبات الواضحة.
و بالجملة: الوراثة الروحیّة شیء مشاهد معلوم بالضرورة.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 82 ومنها: غیر ذلک؛ من کون غذاء الأب والاُمّ حلالاً أو حراماً أو مُشتَبِهاً، وکذا کون ارتزاقهما من الحلال أو الحرام أو المشتَبِه فی حال کون الأمانة فی باطنهما، وکون معدتهما فی حال الوقاع خالیة او ممتلئة او متوسّطة، وکون الوقاع حلالاً أو حراماً أو مشتَبِهاً، وکون آداب الجُماع مرعیّة مطلقاً، أو غیر مرعیّة مطلقاً، أو مرعیّاً بعضها دون بعض، فإنّ لکلّ ماذکر دخالة تامّة فی قبول المادّة الفیض الوجودیّ من المبدأ الجواد.
فلو فرضنا أنّ المادّة فی کمال النورانیّة، والصلب شامخ طاهر کامل، والرحم طاهر مطهَّر، والآداب الإلهیّة محفوظة مرعیّة، یکون الولد طاهراً مطهَّراً لطیفاً نورانیّاً.
و لو اتّفق کون سلسلة الآباء والاُ مّهات کلّها کذلک لصار نوراً علی نور، وطهارة علی طهارة، کما تقرأ فی زیارة مولانا وسیّدنا الحسین علیه الصلاة والسلام: (أشهد أ نّک کنت نوراً فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسک الجاهلیّة بأنجاسها، ولم تلبسک من مُدْلهمّات ثیابها).
فإنّ هذه الفقرات الشریفة تدلّ علی ماذکرنا من دخالة المادّة النوریّة التی فی الأصلاب، وشموخ الأصلاب، وطهارة الأرحام، وتنزیه الآباء والاُ مّهات من قذارات الجاهلیّة من الکفر وذمائم الأخلاق وقبائح الأعمال، فی طهارة الولد ونورانیّته.
هذه کلّها اُمور دخیلة فی أرواح الأطفال قبل ولادتها، وبعد الولادة
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 83 تکون اُمور کثیرة دخیلة فی اختلافها:
منها: الارتضاع والمرضعة وزوجها، فإنّ فی طهارة المرضعة و دیانتها ونجابتها وأخلاقها وأعمالها، وکذا فی زوجها، وکیفیّة الارتضاع والرضاع، دخالةً عظیمة فی الولد.
و منها: التربیة فی أیّام الصغر وفی حِجْر المربّی.
و منها: التربیة والتعلّم فی زمان البلوغ.
و منها: المصاحب والمعاشر.
ومنها: المحیط والبلد الواقع فیه.
و منها: مطالعة العلوم المختلفة والممارسة للکتب والآراء، فإنّ لها دخالة تامّة عظیمة فی اختلاف الأرواح.
و منها غیرذلک .
و بالجملة: کلّ ماذکر فی الآیات والأخبار من الآداب الشرعیّة صراحة أو إشارة، وجوباً أو حرمة أو استحباباً أو کراهة، لها دخالة فی سعادة الإنسان وشقائه من قبل الولادة إلی الموت.
هذا شمّة من کیفیّة وقوع الاختلاف فی الأفراد الإنسانیّة، ولایکون شیء منها ذاتیّاً غیر معلَّل.
و أ مّا سبب اختلاف الموادّ الغذائیّة بل مطلق الأنواع، وکیفیّة وقوع الکثرة فی العالم، فهو أمر خارج عمّا نحن بصدده، ولادخالة له بالجبر والاختیار، بل هو من المسائل الإلهیّة المطروحة فی العلم الأعلی مع اختلاف
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 84 مشارب الفلاسفة والعرفاء فیه، فمن کان من أهله فلیراجع مظانّه، ونحن لسنا بصدد بیان الجبر والاختیار وتحقیق الحال فی تلک المسألة، فإنّ لها مقاماً آخر، ولها مبادٍ ومقدّمات مذکورة فی الکتب العقلیّة.
فی أنّ السعادة قابلة للتغییر وکذا الشقاوة
ثمّ اعلم: أنّ تلک الاختلافات التی قد أوضحنا سبیلها ونبّهنا علی أساسها، لم تکن من الاُمور التی لاتختلف ولاتتخلّف مثل الذاتیّات الغیر القابلة للتخلّف، بل الإنسانُ - أیّ إنسان کان - مادام کونُهُ فی عالم الطبیعة وتَعانُقه مع الهَیولی القابلة للأطوار والاختلافات، قابل لأنْ یتطوّر وأن یتبدّل ویتغیّر، إمّا إلی السعادة والکمالات اللائقة به، أو إلی الشقاوة والاُمور المنافیة لجوهر فطرته، کلّ ذلک بواسطة الکسب والعمل.
فالشقی؛ الفاسد عقیدة والسیء أخلاقاً والقبیح أعمالاً قابلٌ لأن یصیر سعیداً مؤمناً کاملاً بواسطة کسبه وعمله وارتیاضه ومشاقّه، وتتبدّل جمیع عقائده وأخلاقه وأعماله إلی مقابلاتها، وکذلک السعید قابل لأن یصیر شقیّاً بالکسب.
و ذلک لأنّ الهَیولی الاُولی قابلة، والمفاضُ علیها - بعد تطوّراتها فی مراتب الطبیعة من النُطفة إلی أن تصیر قابلة لإفاضة النفس علیها - هو النَفْسُ الهیولانیّة اللائقة للکمالات وأضدادها، وإذا اکتسبت الکمالات النفسانیّة لم تبطل الهیولی، ولم تصِر تلک الکمالات ذاتها وذاتیّاتها، فهی - بعدُ لمّا کانت
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 85 فی أسْر الهیولی ومتعانقة معها - ممکنة التغیّر، کما هو المشاهد فی مرّ الدهور وکرّ اللیالی من صیرورة الکافر السیء الخُلُق القبیح العمل مؤمناً صالحاً حسن الخلق، وبالعکس.
فالإنسان فی تغییر الأخلاق والعقائد فاعل مختار، یمکنه بالاختیار تحصیل العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والملکات الحسنة. نعم قد یحتاج إلی ریاضة نفسانیّة وتحمّل مشاقّ علمیّة أو عملیّة.
والدلیل علی إمکانه: دعوة الأنبیاء والشارعین - علیهم الصلاة والسلام - وإراءتهم طرق العلاج، فإنّهم أطبّاء النفوس والأرواح. فما هو المعروف من أنّ الخلق الکذائیّ من الذاتیّات والفطریّات غیر ممکن التغیّر والتخلّف لیس بشیء، فإنّ شیئاً من العقائد والأخلاق والملَکات لیس بذاتیّ، بل هی من عوارض الوجود داخلة تحت الجعل. ألا تری أ نّها تحصل فی الإنسان بالتدریج، وتستکمل فیه بالتکرار متدرّجة، وتکمل وتنقص، ولیس شیء من الذات والذاتیّات کذلک.
فما وقع فی الکفایة: - من أنّ بعث الرسل وإنزال الکتُب والوعظ والإنذار إنّما تفید من حسُنت سریرته وطابت طینته، وتکون حجّة علی من ساءت سریرته وخبثت طینته ولا تفید فی حقّهم - ممّا لاینبغی أن یُصغی إلیه، بل هو مناقض للقول بأنّ اختیار الکافرِ والعاصی الکفرَ والعصیانَ، والمطیعِ والمؤمنِ الإطاعةَ والإیمانَ من الذاتیّات التی لاتختلف ولاتتخلّف؛ فإنّ
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 86 الانتفاع بالشرائع والمواعظ لایجتمع مع ذاتیّة الاختیار والسعادة والشقاوة، فهل یمکن أن یصیر الإنسان حماراً أو إنساناً أو الحمار إنساناً أو حماراً بالوعظ والإنذار؟!
وإنّی لأَظنّک لو کنت علی بصیرة ممّا أوضحنا سبیله وأحکمنا بنیانه، لهُدیت إلی الصراط المستقیم، فاستقم وکن من الشاکرین.
فی معنی قوله: (السعید سعید ...) و(الناس معادن)
فإن قلت: فعلی ماذکرت من البیان، فما معنی قوله: (السعید سعید فی بطن اُمّه والشقیّ شقیّ فی بطن اُمه)، وقوله: (الناس معادن کمعادن الذهب والفضّة)؟
قلت: أ مّا قوله: (الناس معادن) بناءً علی کونه روایة صادرة عن المعصوم ـ علیه السلام - فهو من مُؤیّدات ماذکرنا، من أنّ اختلاف أفراد الناس من جهة اختلاف الموادّ الغذائیّة المُوجبة لاختلاف الموادّ المنویّة القابلة لإفاضة الصور والأرواح علیها، فکما أنّ اختلاف الذهب والفضّة وجوداً یکون باختلاف الموادّ السابقة والأجزاء المؤلّفة والترکیبات والامتزاجات المختلفة وکیفیّة النضج والطبخ - کما هو المقرّر فی العلوم الطبیعیة - کذلک أفراد الإنسان تختلف باختلاف الموادّ السابقة کما عرفت.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 87 و بالجملة: الإنسان من جملة المعادن فی هذا العالم الطبیعی، واختلافه کاختلافها.
و أ مّا قوله: (السعید سعید ...) فقریب من مضمونه موجود فی بعض الأخبار، فهو - أیضاً - علی فرض صدوره لاینافی ماذکرناه، بل یمکن أن یکون من المؤیدات؛ فإنّ اختلاف إفاضة الصور باختلاف الموادّ وسائر الاختلافات التی قد عرفتها، فالصورة الإنسانیّة التی تُفاض علی المادّة الجنینیّة فی بطن اُمّه تختلف باختلافها، بل جعل مبدأ السعادة والشقاوة هو بطن الاُمّ شاهد علی ماذکرنا، ولو کانتا ذاتیّتین فلامعنی لذلک. تأمّل.
و یمکن أن لایکون هذا القول ناظراً إلی تلک المعانی، بل یکون جاریاً علی التعبیرات العرفیّة، بأنّ الإنسان السعید یوجد أسباب سروره وسعادته من أوّل الأمر، والشقیّ یوجد أسباب شقائه ونکبته من أوّل أمره.
و یحتمل بعیداً أن یکون المُراد من بطن الاُمّ هو عالم الطبیعة، فإنّه دار تحصیل السعادة والشقاوة.
هذا مایناسب إیراده فی المقام، ولکن یجب أن یُعلم أنّ لتلک المسائل وأداء حقّها مقاماً آخر، ولها مقدّمات دقیقة مُبرهنة فی محلّها، ربّما لایجوز الدخول فیها لغیر أهل فنّ المعقول؛ فإنّ فیها مزالّ الأقدام ومظأنّ الهلکة، ولذا تری ذلک المحقّق الاُصولیّ - قُدّس سرّه - کیف ذهل عن حقیقة الأمر، وخرج عن سبیل التحقیق.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 88 فی أنّ للمعصیة منشأین للعقوبة
قوله: ثمّ لایذهب علیک ... إلخ.
لایخفی أنّ الالتزامَ بکون منشأ استحقاق العقاب فی المعصیة والتجرّی أمراً واحداً هو الهتک الواحد - کما أفاده رحمه اللّٰه - خلافُ الضرورة؛ للزوم أن لایکون للمنهی عنه مفسدة اُخرویّة أصلاً، بل لازمه أن یکون فی الطاعة والانقیاد منشأ واحد للاستحقاق، وأن لایکون للمأمور به مصلحة أصلاً، وهو خلاف ارتکاز المتشرّعة، وخلاف الآیات الکریمة والأخبار الشریفة فی باب الثواب والعقاب.
کما أنّ الالتزامَ بأنّ التجرّی والهتک لحرمة المولی لایوجب شیئاً أصلاً أیضاً خلافُ الضرورة والوجدان الحاکم فی باب الطاعة والعصیان.
بل الحقّ ما أوضحنا سبیله من کون التجرّی سبباً مستقلاً، وله عقوبات لازمة لذاته، وتبعات فی عالم الملکوت وباطن النفس، وصور مؤلمة موحشة مظلمة، کما أنّ للانقیاد صورة ملکوتیّة بهیّة حسنة مُلذّة.
و فی المعصیة والطاعة منشآن:
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 89 أحدهما: ما ذُکر، فإنّهما شریکان للتجرّی والانقیاد.
و ثانیهما: استحقاق الثواب والعقاب علی نفس العمل، إمّا بنحو الجَعْل، أو بنحو اللزوم وتجسّم صور الأعمال.
و لایذهب علیک: أنّ القول بالعقوبة الجعلیّة لاینافی الاستحقاق؛ فإنّ الجعل لم یکن جُزافاً وبلا منشأ عند العدلیّة، والعقل إنّما یحکم بالاستحقاق بلا تعیین مرتبة خاصّة، فلابدّ من تعیین المرتبة من الجعل علی القول به.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 90