وبعدُ: فقبل الورود فی المقصود لابدّ من تقدیم اُمور:
الأمر الأوّل فی موضوع کلّ علم وتعریف علم الاُصول
إنّ کلّ علم عبارة عن عدّة قضایا مرتبطة تجمعها خصوصیّة بها یترتّب علیها غرض واحد وفائدة واحدة بالوحدة السنخیّة. ووحدة العلم ـ کوجوده ـ اعتباریّة لا حقیقیّة؛ ضرورة امتناع حصول الوحدة الحقیقیّة المساوقة للوجود الحقیقیّ للقضایا المتعدّدة؛ لأنّ المرکّب من الشیئین أو الأشیاء لا یکون موجوداً [آخر] غیر الأجزاء، اللّهمّ إلاّ المرکّب الحقیقی الحاصل من الکسر والانکسار المتحصّلة منهما صورةٌ غیر صورة الأجزاء.
ولا إشکال فی أنّ العلوم کلّها ـ عقلیّة کانت أو غیرها ـ إنّما نشأت من
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 35
النقص إلی الکمال، فکلّ علمٍ لم یکن فی أوّل أمره إلاّ قضایا معدودة لعلّها لم تبلغ عدد الأصابع، فأضاف إلیها الخلف بعد السلف، وکم ترک الأوّلُ للآخر، والفَرَطُ للتابع.
فهذا المنطق، فقد نقل الشیخ أبو علیّ عن معلّم الفلاسفة: أ نّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا فی الأقیسة إلاّ ضوابط غیر مفصّلة... إلخ، وهذا حال سائر العلوم، فلا أظنّ بعلم اُسّس من بدْو نشئه علی ما هو الآن بین أیدینا، فانظر علوم الریاضیّات والطبّ والتشریح حاضرَها وماضیَها، وعلمی الفقه
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 36
والاُصول من زمن الصدوقین والشیخین إلی زماننا.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 37
ثمّ اعلم أنّ القضایا المرکّبةَ منها العلومُ مختلفة: فمن العلوم ما یکون جمیع قضایاه أو غالبها قضایا حقیقیّة أو بحکمها، کالعقلیّات والفقه واُصوله، ومنها ما تکون جزئیّة حقیقیّة، کالتاریخ والجغرافیا وغالب مسائل الهیئة وعلم العرفان.
ونسبة موضوع المسائل إلی ما قیل: إنّه موضوع العلم، قد تکون کنسبة الطبیعیّ إلی أفراده، وقد تکون کنسبة الکلّ إلی أجزائه، بل قد یکون موضوع
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 38
جمیع المسائل هو موضوع العلم، فمن الأوّل الأمثلة الاُوَل، ومن الثانی الثانیة غالباً ما عدا العرفان، ومن الثالث العرفان؛ فإنّ موضوعه هو اللّٰه ـ تعالی ـ وهو عین موضوع مسائله.
فاتّضح ممّا ذکر اُمور:
منها: أنّ ما اشتهرـ من أنّ موضوع کلّ علم ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ـ ممّا لا أصل له، سواء فسّرناها بما فسّرها القدماء، أو بأ نّها ما لا تکون لها واسطة فی العروض؛ ضرورة أنّ عوارض موضوعات المسائل ـ التی تکون نسبتها إلی موضوع العلم کنسبة الأجزاء إلی الکلّ، لا الجزئیّات إلی الکلّی ـ لا تکون من عوارضه الذاتیّة بالتفسیرین إلاّ بتکلّف.
ومنها: ما قیل: ـ من أنّ مسائل العلوم هی القضایا الحقیقیّة ـ غیر مطّرد.
ومنها: ما قیل: ـ من أنّ موضوعات المسائل هی موضوع العلم خارجاً، ویتّحد معها عیناً کاتّحاد الطبیعیّ وأفراده ـ غیر تامّ.
ومنها: ما اشتهرـ من أنْ لابدّ لکلّ علم من موضوع واحد جامع
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 39
بین موضوعات المسائل ـ ممّا لا أصل له، فإنّک قد عرفت أنّ کلّ علم إنّما کان بدْو تدوینه عدّة قضایا، فأضاف إلیه الخلف حتّی صار کاملاً، ولم یکن من أوّل الأمر فی نظر المؤسّس البحث عن عوارض الجامع بین موضوعات المسائل.
فهذا علم الفقه، فهل یکون فی مسائله ما یبحث عن عوارض فعل المکلّف بما هو فعله الجامع بین الأفعال؟! وهل کان نظر مدوّنیه فی أوّل تدوینه إلی ذلک، أم کان هذا التکلّف کالمناسبات بعد الوقوع علی وجه لا یصدق فی جمیع مسائل العلوم أو غالبها؟!
وهل تظنّ أنّ مدوِّن علم الجغرافیا فی بَدْو تأسیسه کان ناظراً إلی أحوال الأرض وهیئاتها؟! أو أنّ فی کلّ صُقْع وُجد شخص أو أشخاص فی مرّ الدهور، ودوَّن جغرافیا صُقعه، أو مع البلاد المجاورة، ثمّ ضمّ آخر جغرافیا صقعه إلیه، فصار جغرافیا مملکة، وهکذا إلی أن صار جغرافیا جمیع الأرض، فلم یکن البحث فیه من أوّل الأمر عن أحوال الأرض ـ تأمّل ـ وهکذا الأمر فی کثیر من العلوم.
فالالتزام بأ نّه لابدّ لکلّ علم من موضوع یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة، ثمّ التزام تکلّفات باردة لتصحیحه، ثمّ التزام استطراد کثیر من المباحث التی تکون بالضرورة من مسائل الفنون، ممّا لا أری له وجهاً.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 40
فأیّ داعٍ للالتزام بکون موضوع علم الفقه هو فعل المکلّف، وأنّ موضوع کلّ علم ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة، مع أنّ الأحکام لیست ـ من العوارض؟!
ومع التسلیم وتعمیم الأعراض للاعتباریّات لیست کلّها من الأعراض الذاتیّة لموضوعات المسائل، فإنّ وجوب الصلاة لا یمکن أن یکون من الأعراض الذاتیّة لها بوجودها الخارجیّ؛ لکون الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، ولا بوجودها الذهنیّ، وهو واضح، ولا للماهیّة من حیث هی؛ ضرورة عدم کونها مطلوبة، فمعنی وجوبها أنّ الامر نظر إلی الماهیّة وبعث المکلّف نحو إیجادها، وبهذا الاعتبار یقال: إنّها واجبة، لا بمعنی اتصافها بالوجوب فی وعاء من الأوعیة، ووعاء الاعتبار لیس خارجاً عن الخارج والذهن.
هذا، مع لزوم الاستطراد فی کثیر من مهمّات مسائل الفقه، کأبواب الضمان، وأبواب المطهّرات والنجاسات، وأبواب الإرث، وغیر ذلک.
أو أیّ داعٍ لجعل موضوع الفلسفة هو الوجود، ثمّ التکلّف بإرجاع المسائل فیها إلی البحث عن أعراضه الذاتیّة له بما تکلّف به بعض أعاظم فنّ الفلسفة، ثمّ الالتزام باستطراد کثیر من المباحث، کمباحث الماهیّة
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 41
والأعدام، بل مباحث المعاد وأحوال الجنّة والنار وغیرها، أو التکلّف الشدید البارد بإدخالها فیها.
هذا، مع أنّ کثیراً من العلوم مشتمل علی قضایا سلبیّة بالسلب التحصیلیّ، والتحقیق فی السوالب المحصَّلة أنّ مفادها هو قطع النسبة وسلب الربط، لا إثبات النسبة السلبیّة، کما أوضحناه بما لا مزید علیه فی مباحث الاستصحاب.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ دعوی کون موضوع کلّ علمٍ أمراً واحداً منطبقاً علی موضوعات المسائل ومتّحداً معها، غیرُ سدیدة.
وما ربّما یتوهّم ـ من لزوم ذلک عقلاً استناداً إلی قاعدة عدم صدور الواحد إلاّ من الواحد ـ ممّا لا ینبغی أن یصدر ممّن له حظّ من العقلیّات؛ فإنّ موضوع القاعدة هو البسیط الحقیقیّ صادراً ومصدراً، لا مثل العلوم التی هی قضایا متکثِّرة، کلّ منها مشتملة علی فائدةٍ تکون مع اُخری واحدةً
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 42
بالسنخ، فإنّ قاعدة «کلّ فاعل مرفوع» یستفاد منها فائدة غیر ما یستفاد من قاعدة «کلّ مفعول منصوب» وسائر القواعد، لکن لتلک الفوائد الکثیرة ربط وسنخیّة من وجه، ولها وحدة انتزاعیّة اعتباریّة.
مع أنّ حدیثَ تأثیر الجامع بین المؤثّرات إذا اجتمعت أثراً واحداً حدیثُ خرافة؛ لعدم تحقّق الجامع فی الخارج بنعت الوحدة إلاّ علی رأی الرجل الهمدانیّ.
تنبیه: ما به امتیاز العلوم:
کما أنّ منشأ الوحدة فی العلوم هو سنخیّة قضایاها المتشتّتة، و منشأ امتیازها هو اختلاف ذاتها وسنخ قضایاها، ولا یمکن أن یکون ما به
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 43
اختلافها وامتیازها هو الأغراض أو الفوائد المترتّبة علیها؛ لتأخّرها رتبة عن القضایا، فمع عدم امتیازها لا یمکن أن یترتّب علیها فوائد مختلفة.
نعم، قد تتداخل العلوم فی بعض القضایا؛ بمعنی أنْ تکون لقضیّة واحدة فائدة أدبیّة ـ مثلاً ـ یبحث الأدیب عنها لفائدتها الأدبیّة، والاُصولیّ لفهم کلام الشارع، کبعض مباحث الألفاظ، فالاُصولیّ والأدیب یکون غرضهما فهم کون اللام للاستغراق، و «ما» و «إلاّ» للحصر، لکن یکون ذلک هو الغرض الأقصی للأدیب بما أ نّه أدیب، أو یکون أقصی مقصده أمراً أدبیّاً، وللاُصولیّ غرض آخر، هو فهم کلام الشارع لتعیین تکلیف العباد.
وتداخل العلوم فی بعض المسائل لا یوجب أن تکون امتیازها بالأغراض بما أ نّها واحدة بالوحدة الاعتباریّة، فإنّ المرکّب من مسائل شتّی إذا اختلف مع مرکّب آخر بحسب مسائله، واتّحد معه فی بعضها، یکون مختلفاً معه بما أ نّه واحد اعتباریّ ذاتاً، خصوصاً اذا کان التداخل قلیلاً، کما أنّ الأمر کذلک فی العلوم.
فتحصّل ممّا ذکر: أنّ اختلاف العلوم إنّما یکون بذاتها، لا بالأغراض والفوائد، فإنّه غیر معقول.
ثمّ إنّه بما ذکرنا ـ من عدم لزوم کون المبحوث عنه فی مسائل العلم من الأعراض الذاتیّة لموضوع العلم، بل ولا لموضوع المسائل ـ یتّضح: أنّ بعض المباحث اللفظیّة، کالبحث عن دلالة الأمر والنهی وکلمات الحصر وکثیرٍ من مباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد، وبعض المباحث العقلیّة
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 44
التی یکون البحث فیها أعمّ ممّا ورد فی کلام الشارع، تکون من مسائل العلم بما أ نّها مسائل مرتبطة بسائر مسائلها، ومشترکة معها فی الخصوصیّة التی لأجلها صارت واحدة بالاعتبار، إذا لم یکن محذور آخر فی عدّها منه، کما سنشیر إلیه.
بحث وتحقیق: فی تعریف الاُصول:
قد عُرّف الاُصول بتعاریف لم یسلم واحد منها من الإشکال طرداً أو عکساً، بخروج ما دخل فیه تارة، ودخول ما خرج منه اُخری.
فقد اشتهر تعریفه: بأ نّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحکام الشرعیّة الفرعیّة، فاستشکل علیه بلزوم استطراد الظنّ علی الحکومة، ومسائل الاُصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة، ویظهر من الشیخ الأعظم ما یوجب انسلاک کثیر من القواعد الفقهیّة فیه.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 45
وقد عدل المحقّق الخراسانی ـ رحمه اللّٰه ـ عنه إلی تعریفه بأ نّه صناعة
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 46
یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام، أو التی یُنتهی إلیها فی مقام العمل؛ لإدخال الظنّ علی الحکومة والاُصول العملیّة، ولعلّ التعبیر بالصناعة للإشارة إلی أنّ الاُصول علم آلیّ بالنسبة إلی الفقه، کالمنطق بالنسبة إلی العلوم العقلیّة.
وکأنّ هذا التعریف أسوأ التعاریف المتداولة بینهم؛ لأنّ کلّ علم إمّا نفس المسائل، فتکون البراهین علی إثباتها من المبادئ التصدیقیّة، أو مجموع المسائل والمبادئ، کما قیل: إنّ أجزاء العلوم ثلاثة، واُرید به أجزاء العلوم المدوّنة، وأمّا کون العلم هو المبادئ فقط فلم یذهب إلیه أحد، ولا یمکن التزامه، وقد سبق منه ـ رحمه اللّٰه ـ أنّ مسائل العلم هی قضایا متشتّتة جمعها اشتراکها فی الدخل فی الغرض، مع أنّ تعریفه ذلک لا ینطبق إلاّ علی المبادئ؛ فإنّها هی التی تُعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق الاستنباط.
مع أنّ القواعد الکلیّة الفقهیّة ـ کقاعدة ما یضمن أصلاً وعکساً، وقاعدة الضرر، والحرج، والغرر، وغیرها من القواعد التی یستنبط منها أحکام کلّیّة ـ داخلة فی هذا التعریف. اللّهم إلاّ أن یراد بالصناعة هو العلم الآلیّ المحض کما احتملنا.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 47
وهذا الإشکال وارد علی تعریف شیخنا العلاّمة ـ أعلی اللّٰه مقامه ـ مع ورود بعض مناقشات اُخر علیه.
کما أ نّه وارد علی تعریف بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّٰه ـ من أ نّه عبارة عن العلم بالکُبریات التی لو انضمّت إلیها صُغریاتها یستنتج منها حکم فرعیّ کلّیّ؛ فإنّه صادق علی القواعد المتقدّمة، مع ورود الإشکال المتقدّم
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 48
ـ علی التعریف المعروف ـ علیه، وقد تصدّی لدفع الإشکال فی أوائل الاستصحاب بما لا یخلو من غرابة، فراجع.
کما أنّ بعض المحقّقین تصدّی لدفع الإشکال علی الطرد والعکس: بأنّ المدار فی المسألة الاُصولیّة علی وقوعها فی طریق استنباط الحکم الشرعیّ بنحوٍ یکون ناظراً إلی إثبات الحکم بنفسه، أو بکیفیّة تعلّقه بموضوعه، قائلاً: إنّ المسائل الأدبیّة لا تقع إلاّ فی طریق استنباط موضوع الحکم بلا نظر إلی کیفیّة تعلّق حکمه، بخلاف مباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد.
وأنت خبیر بأنّ کثیراً من مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقیّد، والمفاهیم، والأمر والنهی، مباحث لغویّة یحرز بها أوضاع الکلمات؛
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 49
کمبحث المشتقّ الذی اعترف بخروجه، وکسائر المباحث اللغویّة، فأیّ فرقٍ بین البحث عن أنّ اللام للاستغراق، و«ما» و«إلاّ» للحصر، و أداة الشرط دالّة علی المفهوم، والضمیر المتعقِّب للجمل یرجع إلی الأخیرة منها، والأمر والنهی ظاهران فی الوجوب والحرمة، إلی غیر ذلک، وبین البحث عن أنّ الصعید مطلق وجه الأرض، وهیئة الفعل دالّة علی الصدور الاختیاریّ ـ مثلاً ـ وغیر ذلک من المباحث اللغویّة؟! فجمیع ذلک ممّا یستنتج منه کیفیّة تعلّق الحکم بالموضوع. مع ورود إشکال دخول القواعد الفقهیّة فیه علیه أیضاً.
ونحن قد تصدّینا فی مباحث الظنّ لبیان الفرق بین القواعد الاُصولیّة والفقهیّة بما لا یخلو من إشکال.
ولا أظنّ إمکان حدّ جامعٍ لجمیع المسائل التی یبحث عنها فی الاُصول بوضعه الفعلیّ، وطاردٍ لغیرها من المباحث الأدبیّة التی تکون نظیر کثیر من مباحث الألفاظ، والفقهیّة التی تکون نظیر الاُصولیّة فی وقوعها کبری قیاس الاستنتاج.
فی تحقیق المقام:
والذی یمکن أن یقال: إنّ کلّیّة المباحث التی یبحث فیها عن الأوضاع
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 50
اللغویّة، وتشخیص مفاهیم الجمل والألفاظ، ومدالیل المفردات والمرکّبات، وتشخیص الظهورات، خارجةٌ من المسائل الاُصولیّة، وداخلة فی علم الأدب،وإنما یبحث عنها الاُصولیّ لکونها کثیرة الدوران فی الفقه والسیلان فی مباحثه، ولهذا لا یقنع الاُصولیّ بالبحث عنها فی بابٍ من الفقه، بل المناسب له ـ بما أنّ منظوره الاجتهاد فی الأحکام ـ أن ینقّح تلک المباحث العامّة البلوی ولو لم تکن اُصولیّة.
وقد أدرج المتأخّرون بعض المسائل التی لا ابتلاء بها رأساً أو قلیلة الفائدة جدّاً فی فنّهم لأدنی مناسبة، إمّا تشییداً لأذهان المشتغلین، أو لثمرة علمیّة، أو لدخالة بعیدة فی الاستنباط.
وبعد ما عرفت ذلک لابأس بتعریفه: بأ نّه هو القواعد الآلیّة التی یمکن أن تقع کبری استنتاج الأحکام الکلیة الإلهیّة أو الوظیفة العملیّة.
فالمراد بالآلیّة ما لا ینظر فیها، بل ینظر بها فقط، ولا یکون لها شأن إلاّ ذلک، فتخرج بها القواعد الفقهیّة، فانّها منظور فیها؛ لأنّ قاعدة «ما یضمن» وعکسهاـ بناءً علی ثبوتهاـ ممّا ینظر فیها، وتکون حکماً کلّیّاً إلاهیّاً، مع أ نّها من جزئیّات قاعدة الید، ولا یثبت بها حکم کُلّیّ، نعم لو کانت الملازمة الشرعیّة بین المقدّم والتالی کان للنقض وجه، لکن لیس کذلک عکساً ولا أصلاً.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 51
وکذا قاعدة الضرر والحرج والغرر، فإنّها مقیّدات للأحکام ولو بنحو الحکومة، فلا تکون آلیّة بل استقلالیّة، وإن یعرف بها حال الأحکام.
نعم یخرج بهذا القید بعض الاُصول العملیّة، کأصل البراءة الشرعیّة المستفاد من حدیث الرفع وغیره، ولا غَرْوَ فیه لأ نّه حکم شرعیّ ظاهریّ کأصل الحلّ والطهارة.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 52
وقولنا: «یمکن أن تقع...» إلخ لأجل أنّ الاُصولیّة لا تتقوّم بالوقوع الفعلیّ، فالبحث عن القیاس وحجیّة الشهرة والإجماع المنقول اُصولی.
وبقولنا: «تقع کبری...» خرجت مباحث العلوم الاُخر.
ولم نقل: الأحکام العملیّة؛ لعدم عملیّة جمیع الأحکام، کمطهّریّة الماء والشمس، ونجاسة الأعیان النجسة.
وإضافة الوظیفة لإدخال مثل أصل البراءة. وأمّا الظنّ علی الحکومة ففیه کلام آخر، حاصله:
أ نّه إن کان العقل حکم بحجیته یدخل بالقید، وإن کان إیجاب العمل علی طبقه عقلاً لأجل کونه أحد أطراف العلم فیکون أمارة علی الواقع، ولیس للظنّ من هذه الحیثیّة دخالة، وإن لا یجوز رفع إلید عنه.
ولم نکتف بأ نّه ما یمکن أن تقع کبری استنتاج الوظیفة؛ لعدم کون ما
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 53
یستنتج منها وظیفة دائماً کالأمثلة المتقدّمة، وإن تنتهی إلی الوظیفة. ولعلّ ذلک أسلم من سائر التعاریف، والأمر سهل.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 54