الأمر الثانی فی الواضع وکیفیّة الوضع
لا شبهة فی أنّ البشر فی الأزمنة القدیمة جدّاً کان فی غایة سذاجة الحیاة وبساطة المعیشة، وبحسبها کان احتیاجه إلی الألفاظ محصوراً محدوداً، فوضعها علی حسب احتیاجه المحدود، ثمّ کلّما کثر احتیاجه کثرت الأوضاع واللغات، فکثرة الألفاظ والمعانی والاحتیاجات فی الحال الحاضر لا تدلّ علی أنّ الواضع هو اللّٰه ـ تعالی ـ أو بوحیه وإلهامه، بل الواضع هو البشر، لا شخص واحد، بل أشخاص کثیرة فی مرّ الدهور وتمادی الأزمنة، فما صدر عن بعض الأعاظم فی المقام ممّا لا ینبغی أن یُصغی إلیه.
کما أ نّه لا إشکال فی عدم العلاقة الذاتیّة بین الألفاظ والمعانی: [أمّا] قبل الجعل فهو واضح.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 55
وتوهّم لزوم العلاقة ـ دفعاً للترجیح بلا مرجّح فی الوضع، وجعل هذا برهاناً علی لزوم کونه تعالی واضعاً؛ لعدم إحاطة البشر بالخصوصیّات والروابط بینها ـ واضح الضعف؛ لعدم لزوم کون المرجّح هو الرابطة بین اللفظ والمعنی؛ لإمکان أن یکون انتخاب لفظ لترجیحٍ فیه لدی الواضع، من قبیل سهولة الأداء، وحُسْن الترکیب، إلی غیر ذلک، من غیر أن یکون بین الألفاظ والمعانی أدنی مناسبة.
و بالجملة: دعوی المناسبة بین جمیع الألفاظ و المعانی ممّا یدفعه الوجدان. ویمکن إقامة البرهان علی دفعها؛ بأن یقال: إذا وضع لمعنیً بسیط من جمیع الجهات ألفاظٌ مختلفة فی لغة أو لغات: فإمّا أن یکون لجمیعها الربط مع المعنی، أو لبعضها دون بعض، أو لا ربط لواحدٍ منها معه. لا سبیل إلی الأوّل؛ للزوم تحقّق الجهات المختلفة فی البسیط الحقیقیّ، وهو خُلف، وعلی الثانی والثالث تبطل دعوی الخصم.
هذا، وأمّا عدم تحقّق العلقة بینهما بعد الوضع ـ بمعنی أنّ الجاعل لم یوجد علقة خارجیّة بینهما ـ فهوـ أیضاً ـ واضح؛ لأنّ تعیین اللفظ للمعنی لا یعقل أن یکون موجباً لوجود العلقة الخارجیّة التکوینیّة، وأمّا فهم المعنی من اللفظ فلیس إلاّ للاُنس الحاصل من الاستعمال، أو من العلم بأنّ المتکلّم یعمل علی طبق الوضع، من غیر أن تکون عُلْقة زائدة علی ما ذکر.
وما قیل: ـ من أنّ لازم ذلک انعدام هذه العلقة بانعدام المعتبرین والعالمین،
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 56
کما أنّ القوانین الجعلیّة العلمیّة ـ التی قد یتعلّق بها العلم وقد یتعلّق بها الجهل ـ لو کانت من الاعتبارات، ولم یکن لها وعاء غیر الاعتبار، یلزم الالتزام بانعدامها بالغفلة عنها، وهذا ممّا یأباه العقل السلیم ـ لیس بشیءٍ؛ لعدم فساد تالیه، بل الأمر کذلک بلا إشکال فی القوانین الجعلیّة، کقانون الزواج والملک وغیرهما، فإنّه مع انعدام المعتبرین ومناشئ اعتبارها ومحالّ کتْبها لم یکن لها تحقّق، کما أنّ الألسنة القدیمة المتداولة بین البشر المنقرضین بوجودها العلمیّ والکتبی صارت منقرضة معدومة، ولیس لها عین ولا أثر فی الخارج والذهن، وما لا وجود له فی الخارج والعین فلیس بشیء. نعم، القوانین العلمیّة التی لها موازین واقعیّة کشف عنها العلم لم تنعدم بانعدام المکاشفین، فقانون الجاذبة له واقعٌ کشف أم لم یکشف، بخلاف الجعلیّات، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ الواضع لم یجعل علاقة واقعیّة بین اللفظ والمعنی، مع أنّ البرهان المتقدّم یبطل تحقّق هذه العلاقة قبل الجعل وبعده.
ثمّ إنّ الوضع ـ علی ما یظهر من تصاریفه ـ هو جعل اللفظ للمعنی وتعیینه للدلالة علیه، وهذا لا ینقسم إلی قسمین؛ لأنّ التعیّنیّ لا یکون وضعاً وجعلاً.
والاختصاص الواقع فی کلام المحقّق الخراسانی لیس وضعاً بل أثره.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 57
کما أنّ التعهّد ـ الذی وقع فی کلام المحقّق الرشتیّ، وتبعه شیخنا الاُستاذ قائلاً: إنّه لا یعقل جعل العلاقة بین الأمرین اللذین لا علاقة بینهما أصلاً، والذی یمکن تعقّله هو أن یلتزم الواضع أنه متی أراد وتعقّله وأراد إفهام الغیر تکلّم بلفظ کذا ـ أیضاً متأخّر عن الجعل والتعیین؛ لأنّ هذا التعهّد هو الالتزام بالعمل بالوضع لا نفسه، وما قال: من أ نّا لا نعقل جعل العلاقة، هو حقّ إذا کان الوضع جعل العلاقة الواقعیّة، وأمّا إذا کان عمل الواضع تعیین اللفظ للمعنی فهو بمکانٍ من الإمکان، بل الواقع کذلک وجداناً، بل ربما یکون الواضع غیر المستعمل، فیکون الوضع للغیر، ویکون الواضع غافلاً عن هذا الالتزام التعلیقیّ، فالاختصاص والربط والتعهّد کلّها غیر حقیقة الوضع.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 58