الأمر الثالث فی أقسام الوضع
ینقسم الوضع إلی عمومه وعموم الموضوع له، وخصوصهما، أو عموم الأوّل، أو الثانی.
وما یقال: من عدم امتناع کون العامّ مرآةً للخاصّ ووجهاً له دون الخاصّ للعامّ، غیر صحیح؛ لأنّ العامّ ـ أیضاً ـ لا یمکن أن یکون مرآةً للخاصّ بما أ نّه خاصّ؛ لأنّ الخصوصیّات وإن اتّحدت مع العامّ وجوداً، لکن یخالفها عنواناً وماهیّة، ولا یمکن أن یحکی عنوان إلاّ عمّا بحذائه، فالإنسان لا یحکی إلاّ عن حیثیّة الإنسانیّة، لا خصوصیّات الأفراد، فلا یکفی للوضع للأفراد تصوّر نفس عنوان العامّ الذی ینحلّ الخاصّ والفرد إلیه وإلی غیره، بل لابد من لحاظ الخاصّ، ولا یعقل الوضع إلاّ مع تصوّر الطرفین ولو بالإجمال، فلو تقوّم الوضع بمرآتیّة العنوان للموضوع له کان
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 59
عموم الوضع وخصوص الموضوع له کالعکس محالاً، وإلاّ ـ کما هو الحقّ ـ یکون کلاهما ممکنین.
والتحقیق: أنّ تصوّر العامّ قد یکون موجباً لانتقال الذهن إلی مصادیقه بوجه إجمالی، فیتصوّر العامّ ویوضع اللفظ بإزاء ما هو مصداقه، ویکون هذا العنوان الإجمالیّ المشیر آلة للوضع للأفراد، ولا یحتاج فی الوضع إلی تصوُّرها بخصوصیّاتها تفصیلاً، بل لا یمکن ذلک؛ لعدم إمکان الإحاطة بها تفصیلاً؛ لعدم تناهی أفراد الطبیعیّ، وبهذا المعنی یکون خصوص الوضع وعموم الموضوع له ممکناً.
نقل وتنقیح:
ربّما یقال: إنّ لعموم الوضع والموضوع له معنیً آخر غیر ما هو المشهور، بتوهّم أنّ للطبیعیّ حِصصاً فی الخارج متکثّرة الوجود، ولها جامعاً موجوداً فی الخارج بالوجود السعی ملاصقاً للخصوصیّات، واحداً بالوحدة الذاتیّة؛ بدلیل انتزاع المفهوم الواحد منها، وتأثیر العلّتین فی معلول واحد، وللصور الذهنیّة للأفراد ـ أیضاً ـ جامعاً کذلک، وإلاّ لم یکن تامّ الانطباق علی الخارج، ولازم ذلک عدم مجیء المعنی المشترک فی الذهن إلاّ فی ضمن الخصوصیّات، فحینئذٍ یمکن ملاحظةُ صورة هذه الجهة
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 60
المتّحدة الساریة فی الخصوصیات المطابقة لما فی الخارج بتوسیط معنی إجمالیّ، ووضع اللفظ لها لا للخصوصیّات، فی قبال وضعه للجامع المجرّد عنها، وهذا ـ أیضاً ـ من الوضع العامّ والموضوع له کذلک، لکن لازمه انتقال النفس فی مقام الاستعمال إلی صور الأفراد، وهذا لا ینافی کون الطبیعیّ مع الأفراد کالآباء مع الأولاد. انتهی ملخّصاً.
وفیه ما لا یخفی علی أهله؛ فإنّ الجامع الخارجیّ بنعت الوحدة یساوق الوجود الواحد بالوحدة العددیّة؛ ضرورة مساوقة الوحدة للوجود، وفساده أوضح من أن یخفی، وهو ـ رحمه اللّٰه ـ وإن فَرّ من ذلک قائلاً: إنّ الحصص متکثّرة الوجود لئلاّ یلزم الوحدة العددیّة، لکن کرّ علیه بالالتزام بالجامع الموجود بالوجود السعی الذی توهّم کونه منشأ انتزاع المفهوم الواحد، وکونه مؤثّراً عند اجتماع العلّتین علی معلول واحد، وإن سمّاه واحداً ذاتیّاً وسنخیّاً، وهذا رأی الرجل الهمدانیّ، ولعلّ منشأ توهّمه ـ أیضاً ـ ما توهّم من قیام البرهان علیه.
وأمّا قضیّة عدم انتزاع مفهوم واحد إلاّ من منشأ واحد فهو کذلک، لکن لیس معناه أ نّه یکون فی الخارج أمرٌ واحد جامع موجود بنعت الوحدة ینتزع منه المفهوم، بل المراد منه أنّ الماهیّة اللابشرط الموجودة فی الخارج بنعت الکثرة المحضة، للعقل أن یُجرِّد [أفرادها] عن اللواحق والمشخّصات، فعند ذلک ینال من کلّ فرد ما ینال من الآخر.
فالإنسان اللابشرط إنسانٌ متکثّر الوجود، واللابشرط یتکثّر مع الکثرة،
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 61
لا بمعنی صیرورته حصصاً منقسماً متجزّئاً، کما یوهمه لفظ الحصص، بل بمعنی کون کلّ فردٍ تمام حقیقة الإنسان، فإنّها لا تأبی الکثرة فی وعاء الخارج، والعقل بعد التخلیة والتجرید یراها بنعت الوحدة، لکن وعاء تحقّقها بالوحدة هو الذهن، فللماهیّة نشأة خارجیّة هی نشأة الکثرة المحضة، ونشأة عقلیّة بعد التجرید هی نشأة الوحدة الذاتیّة أو النوعیّة أو السنخیّة، وهذا مراد من قال: إنّ الطبیعیّ مع الأفراد کالآباء مع الأولاد، وما زعمه ـ رحمه اللّٰه ـ هو عین القول بکونه کالأب مع الأولاد، ولازمه الوحدة العددیّة.
وأما حدیث کون الجامع مؤثّراً فی العلل المستقلّة إذا اجتمعت علی معلول واحد، متمثلاً بعدّة قضایا عرفیّة؛ کالبنادق المؤثّرات فی قتل حیوان، وکالشمس والنار المجتمعتین علی تسخین ماء واحد، وکاجتماع عدّة أشخاص لرفع الحجر العظیم، فهو من غرائب الکلام، لا یصدر إلاّ ممّن لا یعلم کیفیّة تعلّق المعلول بالعلّة فی الفاعل الإلهیّ؛ إذ لا یمکن اجتماع العلّتین البسیطتین علی معلول واحد قطّ حتی یلتزم بتأثیر الجامع، مع أنّ الواحد بالنوع والذات والسنخ کذلک لا یمکن أن یکون مؤثّراً ومتأثراً إلاّ بالعرض، والمؤثّر والمتأثّر دائماً هو الهویّة الوجودیّة الواحدة بالوحدة الحقیقیّة، وموارد النقض کلّها من قبیل تأثیر الکثیر فی الکثیر عقلاً، وإنّما خلط الأمر العرفیّ بالعقلیّ، والأوْلی إیکال أمثال هذه المسائل إلی علمه وأهله، حتّی لا یقع الباحث فی مفاسد عظیمة
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 62
من حیث لا یعلم، کدعوی کون السنخیّة بین العلّة والمعلول من قبیل الجامع الخارجیّ بینهما.
فتحصّل ممّا ذکرنا ـ وأوکلنا تحقیقه إلی محلّه ـ: أنّ الجامع الخارجیّ بین الأفراد الخارجیّة غیر معقول، وکذا لا جامع بین الأفراد الذهنیّة بنعت الوحدة بما هی موجودة فی الذهن، ولکن للعقل أن یُجرِّدها عن الخصوصیّات وینال الجامع منها.
ثمّ مع تسلیم تحقّق الجامع الکذائی ـ لو فرض وضع اللفظ له ـ لا یعقل إحضار الخصوصیّات اللاحقة له خارجاً فی الذهن؛ لأنّ الجامع لم یکن ذاته إلاّ نفس الماهیّة، والخصوصیّات خارجة عنها، واتّحادها معها أو لصوقها بها ـ بزعمه ـ ولزومها لها خارجاً لا یوجب إحضارها فی الذهن بلفظ موضوعٍ لغیرها ما لم یکن بینهما لزوم ذهنیّ، وهو غیر معلول للاتّحاد أو الالتصاق، ومجرّد کونها جامعاً بینها لو أوجب ذلک لزم إحضار الخصوصیّات باللفظ الموضوع لنفس الماهیّة؛ لأ نّها ـ أیضاً ـ موجودة بوجودها ومتّحدة معها ولو بنعت الکثرة. وبالجملة: الاتحاد الخارجی غیر الانفهام من اللفظ.
وهْم ودفع:
ولعلّک تقول: إنّ عموم الوضع مطلقاً محال؛ لأنّ الملحوظ جزئیّ حقیقیّ لوجوده فی الذهن، وقطع النظر عن اللحاظ أو کونه
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 63
مغفولاً عنه لا یوجب انقلابه کلیاً، بل الکلّی القابل للصدق علی الکثیرین لا یمکن أن یتحقّق مجرّداً عن الخصوصیّات وبنعت الکلیّة فی وعاء من الأوعیة؛ إذ لا تقرّر للطبیعی إلاّ بالوجود، ومعه جزئی، فأین لحاظ الکلّی؟! فعموم الوضع خصوصه بحسب الواقع، وإن یتوهّم اللاحظ کونه عامّاً.
فیجاب: بأنّ المراد من الملحوظ حال الوضع هو الملحوظ بالعرض لا بالذات؛ ضرورة أنّ اللفظ لم یوضع له فی عموم الوضع و الموضوع له، ولا فی خصوصهما، ولا لمصادیقه فی خصوص الموضوع له؛ لعدم المصداق له، والملحوظیّة بالعرض تکفی للوضع وصیرورته عامّاً أو خاصّاً، وإلاّیلزم امتناع الوضع للخارجیّات مطلقاً؛ لعدم تصوّرها بالذات، فالصورةُ الملحوظة بالذات فی خصوص الوضع، والماهیّةُ الملحوظة کذلک فی عمومه، وسیلةٌ للحاظ الخاصّ والعامّ؛ کوساطة الصورة الذهنیّة للمعدوم المطلق للإخبار بعدم الإخبار عنه، ومن شریک الباری للإخبار بامتناعه.
تنبیه: فی المراد بالعموم فی المقام:
ربّما یسبق إلی بعض الأذهان مقابلة الوضع العام والموضوع له کذلک لخصوصهما، فیتوهّم أنّ الموضوع له فی الثانی هو الخاصّ بما أ نّه خاصّ؛ أی المتشخّص الخارجیّ بما هو کذلک، فلابدّ وأن یکون فی الأوّل العامّ بما أ نّه
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 64
عامّ، کما التزم به بعض المدققین.
لکنّه فاسد، بل المراد بالعموم هو نفس الطبائع والماهیّات، کما یشهد له [التمثیل] بأسماء الأجناس، ولاریب فی أ نّها نفس الطبائع لا بما هی عامّة؛ ضرورة أ نّها کذلک آبیة عن الحمل، فلو وضع اللفظ لها لزم التجرید والتجوّز
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 65
دائماً، وهو کما تری.
وممّا ذکرنا یتّضح تصوّر قسم آخر للوضع، وهو عموم الموضوع له بما هو عامّ، لکن ثبوته محلّ منع.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 66