الأمر التاسع فی تعارض الأحوال
قد ذکر فی باب تعارض الأحوال مرجّحات ظنیّة لا دلیل علی اعتبارها، و المتّبع لدی العقلاء هو الظهور، فإن حصل للّفظ فهو، وإلاّ فلا یتّبع.
نعم، یقع الکلام فی أنّ ما لدی العقلاء هو أصالة الظهور، أو أصالة عدم القرینة، أو أصالة الحقیقة. و الفرق بینها: أ نّه لو بنینا علی الاُولی لاتّبعنا الظهور ولو کان فی الکلام ما یحتمل القرینیّة، لکن لا یکون بحیث یصادم ظهور ذی القرینة بخلاف ما لو صادم، ولو بنینا علی أصالة الحقیقة تعبداً لحمل علی الحقیقة معه أیضاً، ولو بنینا علی أصالة عدم القرینة لم یکن حجّة؛ لعدم جریانها لدفع احتمال قرینیّة الموجود، والتفصیل فی محلّه.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 131
تمّ إنّه قد ذکر فی دوران الأمر بین النقل وغیره أنّ المعوّل [علیه] أصالة عدمه، وهی أصل عقلائی حجّة مع مثبتاته.
والتحقیق: أنّ المتیقّن من بناء العقلاء هو عدم الاعتناء بالشکّ فی أصل النقل. وهل المعوّل علیه عندهم هو الاستصحاب العقلائی، أو عدم رفع الید عن الظهور الثابت بمجرّد الاحتمال؟
وجهان: أوجههما الثانی؛ لعدم التفات العقلاء إلی جرّ العدم، مع أنّ الاستصحاب العقلائی مطلقاً ممّا لا أصل له. نعم قد یکون الشیء بحیث تطمئنّ النفس ببقائه، ویکون الاحتمال المخالف لضعفه غیر معتدّ به، وهو غیر الاستصحاب، ولو اُرید به ذلک فلا مشاحّة فیه.
هذا، وأمّا مع العلم بالنقل والشکّ فی تقدّمه علی الاستعمال وتأخّره عنه، فالظاهر عدم بناء العقلاء علی التعویل علی أصالة عدم النقل ولو مع العلم بتاریخ الاستعمال، ولا أقلّ من عدم إحرازه.
وما أفاد شیخنا العلاّمة: من أنِّ الوضع السابق عندهم حجّة، فلا یرفعون الید عنها إلاّ بعد العلم بالوضع الثانی، ففیه: أنّ الوضع بما هو لیس بحجّة بل الظهور حجّة، ومع العلم بالوضع الثانی والشکّ فی التقدّم والتأخّر لا ینعقد للکلام ظهور، والأصل المذکور لا یوجب انعقاده.
مضافاً إلی أنّ لازم ما ذکر عدم رفع الید عن الوضع الأوّل إلاّ مع العلم بتأخّر الاستعمال عن الوضع الثانی، لا مع العلم بالوضع، وإلاّ فهو حاصل،
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 132
فحینئذٍ لا معنی للفرق بین أقسام مجهول التاریخ؛ لعدم العلم بنقض الوضع الثانی للوضع الأوّل حال الاستعمال.
وممّا ذکرنا یظهر النظر فی کلام بعض أجلّة العصر ـ رحمه اللّٰه ـ حیث تشبّث بأصالة عدم النقل فی ظرف الاستعمال مع العلم بتاریخه لإحراز استعمال اللفظ فی المعنی الأوّل لحجّیة مثبتاتها، وحکم بلزوم التوقّف فیما علم تاریخ النقل وجهل تاریخ الاستعمال، فإنّه لیس للعقلاء بناء عملی علی عدم الاستعمال، وکذا فی مجهولی التاریخ؛ لعدم جریان الأصلین؛ لأنّ المانع فی جمیع صور مجهولی التاریخ هو عدم إمکان إحراز موضوع الأثر بالأصل؛ لأنّ أصل العدم مطلقاً مفاده جرّ العدم فی أجزاء الزمان، لا إثباته بالإضافة إلی أمر آخر، وعلیه لا یمکن إثبات عدم الوضع فی حال الاستعمال بالأصل وإن کان عقلائیّاً؛ لأنّ نفس القید ـ أی الاستعمال ـ مشکوک فیه، فلا یمکن إحراز موضوع الأثر بالأصل وإن أمکن إحراز التقیّد والمقارنة به، وإنّما بنینا علی صحّة الأصل مع کون الاستعمال معلوم التاریخ إذ بالأصل والوجدان یتحقّق موضوع الأثر، نعم لو کان مفاد الأصل جرّ العدم بالإضافة إلی أمرٍ آخر لأمکن إحراز الموضوع فی المقام، لکنّه خلاف التحقیق. انتهی ملخّصاً.
وفیه وجوه من النظر:
منها: أنّ أصل عدم النقل إن کان الاستصحاب العقلائی ـ کما یظهر
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 133
منه ـ فأرکانه موجودة فی جمیع الصور، فمع الشکّ فی تأخّر الاستعمال مع العلم بتاریخ الوضع یستصحب عدم الاستعمال إلی حال الوضع، وبما أ نّه أصل عقلائی أمارة علی الواقع یثبت به تأخّر الاستعمال عن الوضع، ویحرز کون الاستعمال فی المنقول إلیه مع العلم بهجر الوضع الأوّل فی حال الوضع الثانی؛ للّزوم العقلی بعد الدوران بینهما، وکذا الحال فی مجهولی التاریخ.
ودعوی عدم بناء عملی علی عدم الاستعمال، کدعوی عدم إمکان إحراز موضوع الأثر، کما تری بعد تمامیّة أرکان الاستصحاب وکونه أمارة أو مثلها فی إثبات اللوازم.
وما قد یتوهّم ـ من أنّ النقل لندرته یجری فیه الأصل دون الاستعمال ـ واضح البطلان؛ لأنّ النادر أصل النقل لو سلّم، والکلام فی تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّقه.
ومنها: أنّ إجراء أصالة العدم فی عمود الزمان إن لم یثبت نفس الاستعمال لا یثبت استعمال اللفظ فی المعنی الأوّل أیضاً؛ فإنّه أمر حادث بمنزلة نفس القید، وما یکون محرَزاً بالوجدان أصلُ الاستعمال، لا الاستعمال فی المعنی الأوّل، فإن یثبت به ذاک یثبت ذلک أیضاً، کما هو الحقّ علی فرض جریانها؛ لأ نّه من اللوازم العقلیّة.
هذا، مع أنّ أصل الاستعمال وجدانیّ فی کلتا الصورتین، والمستعمل فیه مشکوک فیه فی کلتیهما، فاستصحاب عدم الوضع إلی زمان الاستعمال جارٍ فی کلتیهما.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 134
ولو قیل: إنّ استصحاب العدم هو جرّ العدم فقط لا إلی کذا، فهو مع بطلانه لازمه عدم الإنتاج فی الصورة الاُولی أیضاً؛ لأنّ جرّ العدم مطلقاً إذا لم یکن إلی زمان الاستعمال الوجدانی لا ینتج شیئاً، وإذا جرّ إلی الزمان المعلوم یمکن جرّه إلی الزمان المعیّن واقعاً المجهول عندنا.
ومنها: أنّ ما ذکره ـ من إحراز الأصلِ والوجدانِ موضوعَ الأثر فی الصورة الاُولی ـ غریب؛ لأنّ عدم النقل ونفس الاستعمال لیسا فی شریعةٍ موضوعاً لأثر، وما هو الموضوع هو ما یثبت بالاستعمال ـ أی المعنی المراد ـ ولو سُلّم ذلک فلا تفترق الصورتان ـ أیضاً ـ لما أشرنا إلیه، فتدبّر.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 135