الفصل الرابع فی اقتضاء النهی فساد المنهیّ عنه
هل النهی عن شیء یقتضی فساده أوْ لا؟ کذا عنونوا البحث.
وعنونه بعضهم هکذا : هل النهی عن الشیء یدلّ علیٰ فساد المنهیّ عنه أو لا؟
لکن عنوانه کذلک لا یخلو عن إشکال، فإنّ الاقتضاء فی العُرف واللغة عبارة عن تأثیر شیء فی شیء آخر لولا المانع، ولیس للنهی تأثیر فی المنهیّ عنه.
وکذلک الدلالة، فإنّ غایة ما یمکن فی تقریب الدلالة هو أن یقال: حیث إنّ متعلَّق النهی مبغوض للمولیٰ، فلا تجتمع المبغوضیّة مع المحبوبیّة فی شیء واحد، فتستلزم المبغوضیّة المستفادة من النهی فسادَ ذلک الشیء، لکن هذا الاستلزام عقلیّ خفیّ، وعلیٰ فرض تسلیم أنّ الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللفظیّة، فهذا القسم لیس منها؛ لأنّه لابدّ فی الدلالة الالتزامیّة ـ التی هی من الدلالات اللفظیة ـ أن یکون اللزوم بینهما بیّناً، وما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ اللزوم فیه غیر بیِّن، فالأولیٰ أن یعنون
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 247 البحث هکذا: هل یستلزم النهی عن الشیء فساده أو لا؟ ویراد بالاستلزام ما یعمّ العقلیّ، أو یقال: هل یکشف تعلُّق النهی بشیء عن فساده أو لا؟
وعلیٰ أیّ تقدیر لابدّ هنا من تقدیم اُمور :
الأمر الأوّل : قد عرفت الفرق بین هذه المسألة ومسألة الاجتماع، وأنّ الفرق بینهما إنّما هو فی مرتبة الذات بتمامها.
الأمر الثانی : هذه المسألة من المسائل الاُصولیّة بلا إشکال؛ لأنّ المناط فی المسألة الاُصولیّة إمکان وقوع نتیجتها فی طریق الاستنباط، وهی کذلک.
الأمر الثالث : هذه المسألة هل هی من المسائل العقلیّة المحضة، أو اللّفظیّة المحضة، أو مرکّبة منهما؟
فقال بعضهم : إنّها من المسائل الاُصولیّة العقلیّة المحضة، وحیث إنّهم لم یجعلوا مسائل الاُصول علیٰ ثلاثة أقسام، بل قسمان، فجعلوها وعنونوها فی المباحث اللفظیّة من الاُصول.
والظاهر أنّها لا عقلیّة محضة، ولا لفظیّة محضة، بل هی مرکّبة منهما، ولا ضرورة لجعلها إمّا عقلیّة وإمّا لفظیّة، فیُعنْونُ البحث بما ذکرناه، وحینئذٍ یمکن الاستدلال بالدلیل اللفظی والعقلی معاً.
الأمر الرابع : هل المراد من الصحّة هنا سقوط القضاء، ویُقابلها الفساد، أو أنّ الصحّة هنا بمعنیٰ موافقة الأمر، أو الشریعة، ویُقابلها الفساد، أو أنّ الصحّة بمعنیٰ التامّ، والفساد بمعنیٰ الناقص؟
قال فی «الکفایة» ما حاصله : إنّ الصحّة والفساد أمران إضافیّان مرادفان للتمامیّة والنقص لغةً وعرفاً، واختلاف الفقیه والمتکلّم إنّما هو فی المهمّ فی نظرهما، وإلاّ فهما متّفقان فی أنّ الصحیح هو التامّ، والفاسد هو الناقص، لکن الفقیه عبّر عن ذلک
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 248 بالمُسقط للقضاء، والمتکلّم بموافقة الشریعة، واختلافهما إنّما هو فیما هو المهمّ فی نظرهما، وإلاّ فهما عندهما بمعنیً واحد ـ أی التمامیّة والنقص ـ فالصلاة الواجدة لجمیع الأجزاء، الفاقدة للشرائط صحیحة بالنسبة إلیٰ الأجزاء؛ بمعنیٰ أنّها تامّة الأجزاء، وفاسدة بالنسبة إلی الشرائط؛ أی ناقصة بالإضافة إلیها، وکذلک اختلاف الُمجتهدین فی الأحکام الظاهریّة لها، فإنّها یمکن أن تکون صحیحة فی نظر مجتهد، وفاسدة فی نظر مجتهدٍ آخر، فالعبادة الموافقة للأمر الظاهری صحیحة عند المتکلّم والفقیه؛ بناءً علی أنّ الأمر ـ فی تفسیر الصحّة بموافقة الأمر ـ یعمّ الأمر الظاهریّ مع اقتضائه الإجزاء، وغیر صحیحة عند الفقیه بناءً علیٰ عدم الإجزاء، ومراعی بموافقة الأمر الواقعی عند المُتکلّم؛ بناءً علیٰ إرادة خصوص الأمر الواقعیّ فقط. انتهیٰ ملخّص کلامه قدس سره.
أقول : أمّا الصحّة والفساد فی التکوینیّات عند العرف واللغة فلیستا مرادفین للتمامیّة والنقص، بل هما أمران وجودیّان، فإنّ البطّیخ الذی عرضه شیء صار فاسداً بسببه، یقال : إنّه فاسد، لا ناقص، بخلاف ما إذا لم یعرضه ذلک، وکان علیٰ طبیعته الأصلیّة، فإنّه یُطلق علیه الصحیح، ولا یطلق علیه التامّ عند العرف واللغة، والأعمیٰ الفاقد للبصر أو الشخص الفاقد لعضو من الأعضاء ، فإنّه یطلق علیهما الناقص، ولا یطلق علیهما الفاسد، والدار الفاقدة لما یُعتبر فی تمامها، فإنّه یُطلق علیها أنّها ناقصة، ولا یطلق علیها أنّها فاسدة.
وبالجملة : بین الصحّة والتمامیّة عموم من وجه عند العرف واللغة، وکذلک بین الفاسد والناقص.
وأمّا فی العبادات والمعاملات فإن کانت الصحّة والفساد فیهما مثل غیرهما من التکوینیّات فکذلک، وإطلاقهما بمعنیٰ التمامیّة والنقص فی العبادات والمعاملات إمّا هو اصطلاح خاصّ للمتشرّعة، وإمّا لأنّه اُطلقا علیهما بنحو المجاز والمسامحة، حتیٰ صارتا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 249 حقیقتین فیهما، فهما أمران إضافیّان بینهما تقابل العدم والملکة، کالتمامیّة والنقص، فإنّ الصلاة الواجدة لجمیع الأجزاء صحیحة؛ بمعنیٰ التمامیّة بالإضافة إلیها، وإن فقدت الشرائط فهی فاسدة بالنسبة إلیها؛ بمعنیٰ أنّها ناقصة بالإضافة إلیها.
وأمّا ما ذکره قدس سره من أنّه یمکن أن تکون عبادةٌ صحیحةً فی نظر مجتهد، وفاسدةً فی نظر آخر، ففیه : أنّه لیس ذلک معنیٰ الإضافة، بل الصحیح هو أحد النظرین، والآخر لیس بصحیح واقعاً وإن کان معذوراً فی ذلک.
وبالجملة : کلّ واحد من المجتهدینِ المختلفینِ فی النظر فی الأحکام الظاهریّة یُخطّئ الآخر، وأنّ الصحیح فی الواقع هو أحدهما.
وأمّا مسألة إجزاء الأمر الظاهری وعدم إجزائه فغیر مربوطة بالمقام؛ بناءً علیٰ ما ذکروه فی باب الإجزاء: من أنّ الأمر الظاهری أو الاضطراری هل یقتضی الإجزاء عن الأمر الواقعی فیسقط، أو لا؟ ففرضوا لذلک أمرین، وأنّ أحدهما هل یُسقط الآخر أو لا؟ وذلک لأنّ المأمور به بالأمر الظاهری أو الاضطراری إن کان واجداً للملاک والمصلحة واقعاً، فهو صحیح مطلقاً، وإلاّ ففاسد کذلک، لکن لایُعاقب علیه للعذر فی ذلک، ولا ارتباط لذلک بالصحّة والفساد، کما لا یخفیٰ.
ثمّ إنّ الصحّة والفساد هل هما أمران مجعولان فی العبادات والمعاملات ، أو لا فیهما، أو أنّهما مجعولان فی المعاملات من حیث إنّ ترتُّب الأثر علیٰ معاملة إنّما هو بجعل الشارع، دون العبادات، أو أنّهما مجعولان فی العبادات المأمور بها بالأمر الظاهری، دون العبادات المأمور بها بالأوامر الواقعیّة؟
أقوال : اختار ثالثها ورابعها فی «الکفایة»، ووافقه فی الثالث المیرزا النائینی قدس سره.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 250 والتحقیق : هو القول الثانی، وذلک فإنّا وإن أثبتنا فی محلّه: أنّ الأحکام الوضعیّة ممّا یمکن أن تنالها ید الجعل استقلالاً، لکن الصحّة هنا : عبارة عن موافقة المأتیّ به للمأمور به، والفساد عدمها، وهی من الاُمور التکوینیّة، وأمّا جعل الآثار فلایستلزم جعل الصحّة.
واستدل المیرزا النائینی لمجعولیّتهما فی الأحکام الظاهریة : بأنّ الشارع جعل الصلاة مع الطهارة المستصحَبة موافقةً لها مع الطهارة الواقعیّة بقوله : (لاتنقض الیقین بالشک)، ولیس المراد بالمجعولیّة إلاّ ذلک.
وفیه : أنّ الشارع إمّا أنّه رفع الید عن شرطیّة الطهارة الواقعیّة للصلاة فی الفرض فی صورة الشکّ بقوله : (لاتنقض الیقین بالشک) ، فالصلاة مع الطهارة المُستصحَبة ـ حینئذٍ ـ صحیحة موافقة للواقع، وهذه الموافقة لیست مجعولة، أو أنّه لم یرفع یده عن شرطیّتها، بل حکم بالصلاة باستصحاب الطهارة؛ تسهیلاً للعباد وإرفاقاً لهم، فهی لیست بصحیحة، بل فاسدة، غایة الأمر أنّه لا یُعاقب العبد علیها؛ لمکان العذر.
وبالجملة : موافقة المأتیّ به للمأموربه وعدمها لیستا مجعولتین والصحّة والفساد عبارتان عن ذلک.
الأمر الخامس : هل یختص محط البحث وعنوانه بالنهی التحریمی، أو أنّه یعمّ التنزیهی؟
قد یقال : إنّ النهی التنزیهی خارج عن محلّ النزاع؛ لأنّه متضمِّن للرخصة فی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 251 الفعل، فیقع صحیحاً.
ووجهه : أنّ النهی فی مثل : «لاتصلِّ فی الحمّام» متعلّق بالکون فی الحمّام حال الصلاة وإیجاد الصلاة فیه، لا بنفس الصلاة لیشمله النزاع.
وفیه : أنّه لا اختصاص لهذا البحث بالنواهی الشرعیّة، بل هو کلی شامل للنواهی العرفیّة ـ أیضاً ـ وتعلُّق نهی تنزیهیّ خاصّ فی الشریعة بخصوصیّة ـ لابنفس العبادة ـ لا یوجب خروج النواهی التنزیهیّة کلّها عن ذلک، فإنّ خروج ذلک فی مورد إنّما هو لخروجه عن موضوع البحث، لا لأنّ البحث مخصوص بغیر النواهی التنزیهیّة.
مع أنّا لا نسلّم تعلُّق النهی فی «لا تصلِّ فی الحمّام» بالخصوصیّة، مضافاً إلیٰ أنّه ربّما یتعلّق النهی التنزیهی بعنوان العبادة، کالنهی عن صوم یوم عاشوراء ونحوه.
کما أنّه لا اختصاص للنزاع بالنهی النفسی الأصلیّ، بل یشمل التبعیّ والغیریّ أیضاً، فإنّه لا وجه لتوهّم خروجهما عن محطّ البحث، إلاّ ما قیل:
من إنّ النهی الغیریّ فی مثل «لا تصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» إرشاد إلی الفساد، ومع فساده لا یتوهّم الصحّة کی ینازع فی ذلک.
وأیضاً النهی التبعیّ الغیریّ ـ الذی یقتضیه الأمر بالشیء ـ مبنیّ علیٰ مسألة الضدّ، واحتمال فساد الصلاة بالنهی الغیریّ إنّما هو لأجل عدم الأمر بها حینئذٍ، لکن لانُسلّم عدم وجود الأمر بالعبادة التی تعلّق بها الأمر الغیریّ، بل یمکن فرض وجود الأمر بها بنحو الترتُّب، وعلیٰ فرض عدم الأمر فالعبادة المنهیّ عنها بالنهی الغیریّ صحیحة؛ بسبب وجود ملاک العبادة فی الصلاة، ولا یحتاج فی صحّة العبادة الیٰ تعلُّق الأمر بها، وحینئذٍ فالصلاة مع تعلُّق النهی الغیریّ التبعیّ بها صحیحة، فلا وجه للنزاع فی اقتضاء الأمر الغیری للفساد وعدمه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 252 وفیه : أنّ ذلک مبنیّ علیٰ صحّة الترتُّب، أو القول بعدم احتیاج صحّة العبادة إلی الأمر، فمن لا یصحّ عنده الترتُّب وذهب إلیٰ توقّف العبادة علیٰ الأمر بها، وعدم کفایة مجرّد وجود الملاک، فلابدّ أن یقول ببطلان الصلاة مع تعلُّق النهی الغیریّ أو التبعیّ بها.
فالتحقیق : أنّ محطّ البحث یعمّ النهی التحریمی والغیری والتبعی والأصلی والنفسی، کما اختاره فی «الکفایة».
الأمر السادس : المُراد بالشیء ـ فی قولنا : النهی عن الشیء هل یقتضی الفساد؟ ـ هو العبادة أو المعاملة .
والمراد بالعبادة ما یصلح للعبادیّة بالذات، أو ما لو اُمر به کان عبادة تحتاج فی تحقُّقها إلیٰ قصد التقرّب.
والمراد بالمعاملة هی العناوین العرفیّة التی یعتبرها العقلاء، ویُرتِّبون علیها الآثار، کالبیع والإجارة ونحوهما.
وبعبارة اُخریٰ : کلّ عنوان اعتباریّ یقع تارةً صحیحاً یترتّب علیه الآثار، واُخریٰ فاسداً لا یترتّب علیه الأثر، وأمّا ما لا یقع فی الخارج إلاّ صحیحاً کالقتل، أو ما لا یقع فیه إلاّ فاسداً، فهو خارج عن محطّ البحث، فإنّ القتل لیس علیٰ قسمین صحیح وفاسد، بل هو صحیح دائماً، لکن قد لا یترتّب علیه الأثر، کقتل الأب ابنه، لعدم ترتُّب القصاص علیه.
الأمر السابع : لا أصل فی المسألة الاُصولیّة یُعوَّل علیه عند الشکّ فی الاقتضاء وعدمه؛ لأنّ النزاع إمّا فی دلالة لفظ النهی، وإمّا فی ثبوت الملازمة بین المبغوضیّة والفساد:
وعلی الأوّل : فلیس لعدم الفساد حالة سابقة لیُستصحب حالَ النهیوبعده، فإنّ عدم الفساد قبل النهی إنّما هو لأجل عدم صدوره، فلا یصحّ استصحابه بعد صدوره.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 253 وعلیٰ الثانی : فإن قلنا بأنّ الملازمات أزلیّات ـ کما ذکره بعضـ فلیس لعدمها حالة سابقة لتستصحب، وإلاّ فعدم وجود الملازمة قبل النهی إنّما هو لأجل عدم وجود الملازم، فلا یمکن استصحابه بعد وجوده ـ أی النهی ـ وصدوره.
ولو سلّمنا صحّة الاستصحاب من هذه الجهة وعدم الإشکال فیه؛ لوجود الحالة السابقة لعدم الدلالة علیٰ الفساد أو عدم الملازمة، لکن یُشترط فی جریان الاستصحاب ـ وسائر الاُصول فی الموضوعات الخارجیّة ـ وجودُ کُبریٰ کلّیّة ثابتة؛ کی یثبت بإجراء الاُصول موضوع تلک القاعدة الکلّیّة، کما فی استصحاب العدالة ـ مثلاً ـ فإنّه یثبت به موضوع کُبریٰ جواز الاقتداء بالعادل، ولیس فیما نحن فیه کُبریٰ کذلک؛ حتّیٰ یثبت بالاستصحاب موضوعها.
وبعبارة اُخریٰ : لابدّ فی الاستصحابات الموضوعیّة من ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علیها وهو مفقود فیما نحن فیه. هذا کلّه بالنسبة إلی الأصل فی المسألة الاُصولیّة.
وأمّا بالنسبة إلی الأصل الفرعی فی المسألة الفرعیّة : أمّا فی المعاملات: فأصالة الفساد فیها متّبعة؛ لأنّ ترتُّب الآثار إنّما هو بجعل الشارع أو بإمضائه، فمتیٰ شُکّ فی صحّة معاملة فالأصل عدم ترتُّب الآثار علیها.
وأمّا فی العبادات : لو شکّ فی دلالة النهی علیٰ الفساد، أو فی ثبوت الملازمة بین الفساد والمبغوضیّة فإن اُحرز فی العبادات المنهیّ عنها وجود الملاک والمصلحة ـ کما فی صورة العجز عنها، فإنّ الملاک فیها موجود، غایة الأمر أنّ المکلّف عاجز عن الإتیان بها ومعذور ـ فمقتضیٰ الأصل هو الصحّة، وإن لم یحرز فیها وجود الملاک والمصلحة ـ کما هو الظاهر فیما نحن فیه؛ لأنّه لا طریق لإثبات ذلک إلاّ تعلّق الأمر بها فی الشریعة، والمفروض أنّها منهیّ عنها، وحینئذٍ فلا یمکن تعلُّق الأمر بها؛ لیکشف به وجود الملاک ـ فمقتضیٰ الأصل الفساد.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 254 وأمّا تقریر الأصل العملی فی العبادة : بأنّه إن تعلّق النهی بنفس العبادة فمقتضیٰ الأصل هو الاشتغال؛ لأنّ الشکّ إنّما هو فی خروج العهدة عن الاشتغال الیقینی بها، ومقتضاه تحصیل البراءة الیقینیّة، ولا تحصل بالإتیان بالعبادة المنهیّ عنها.
وإن تعلّق النهی بالجزء أو الشرط فمرجعه إلیٰ مسألة الأقل والأکثر؛ لأنّ الشک ـ حینئذٍ ـ فی مانعیّة الجزء أو الشرط.
ففیه : أنّ محطّ البحث هو أنّ النهی لو تعلّق بعبادة، هل یستلزم فسادها، أو لا؟ فلابدّ من إحراز تعلّقه بالعبادة ذاتها، فالجزء والشرط إن کانا عبادة کالرکوع والوضوء، فهما ـ أیضاً ـ داخلان فی محطّ البحث وعنوانه، فیقال: إنّ النهی المتعلّق بالرکوع ـ الذی هو عبادة ـ هل یستلزم فساده، أو لا؟ وکذلک الشرط العبادی.
وأمّا استلزام فسادِ الجزء أو الشرط فسادَ الکلّ والمشروط، فهو مسألة اُخریٰ لاربط لها بما نحن فیه، لعلّنا نتعرّض لها فی خاتمة البحث إن شاء الله .
ومن هنا یظهر فساد ما ذکره فی «الکفایة» : من جعل النهی المتعلّق بالعبادة علیٰ أقسام، وأنّه إمّا یتعلّق بنفس العبادة ، أو جزئها، أو شرطها، أو وصفها الخارج اللازم لها أو المقارن؛ لأنّ متعلّق النهی فی جمیع ذلک هو العبادة نفسها لو کانت هذه ـ أی الأجزاء والشرائط ـ عبادة، لا أنّها جزء أو شرط لها، بل هی بما أنّها عبادة متعلَّقةٌ للنهی ومحلُّ البحث، وإن لم تکن هذه ـ أی الأجزاء والشرائط ـ عبادة بنفسها فهی خارجة عن محطّ البحث.
وتحقیق ما هو الحقّ فی المقام یحتاج إلیٰ بسطِ الکلام فی مقامین :
الأوّل : ما إذا لم یُحرز عنوانُ النهی أنّه إرشادیّ أو مولویّ، تحریمیّ أو تنزیهیّ، نفسیّ أو غیره.
الثانی : ما إذا اُحرز ذلک.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 255 أمّا المقام الأوّل : فلا إشکال فی أنّ المستفاد منه عرفاً هو الإرشاد إلیٰ الفساد فی العبادات والمعاملات، وأنّ مفاده عدم ترتُّب الآثار المترقَّبة منها.
والاحتمالات فی المعاملات ثلاثة :
أحدها : أن یتعلّق النهی فیها بالأسباب، کلفظ «بعت» و «اشتریت» الذی هو فعل مباشریّ.
الثانی : أن یتعلّق بالعنوان الذی یعتبره العقلاء؛ أی النقل والانتقال المسببیّن عن الأسباب المذکورة عند العقلاء .
الثالث : أن یتعلّق بترتیب الآثار علیها؛ أی التصرّف فیه من الأکل والشرب ونحوهما.
فلا إشکال فی أنّ المستفاد من النهی عنها عرفاً هو الثالث من الاحتمالات، فإذا قیل: «لا تبع ربویّاً» معناه أنّه لا تترتّب علیهالآثار المترقَّبة من البیع، ولیس نهیاً عن إیجاد سببه بما هو فعل مباشریّ، وهو التلفُّظ بلفظ «بعت» مثلاً، ولیس نهیاً ـ أیضاً ـ عن اعتبار الملکیّة والنقل والانتقال ولو مع عدم ترتُّب الأثر علیها، وکذلک فی العبادات، فإنّه عرفاً إرشاد إلیٰ فسادها، وأنّه لا یترتّب علیها الآثار المطلوبة منها من فراغ الذمّة عن التکلیف وخروجه عن العُهدة، فکما أنّ المستفاد من «صلِّ مع الطهارة» أنّ الطهارة شرط لها، وأنّه لا یترتّب علیها الآثار المترقَّبة منها، کذلک یستفاد من قوله: (لاتُصلِّ فی وَبرِ ما لا یُؤکل لحمُه) مانعیّة ذلک إلیٰ غیر ذلک، والحاکم بذلک هو العرف، والشاهد علیه الوجدان، وإلاّ فلا دلیل آخر علیٰ إثبات ذلک.
وأمّا المقام الثانی : فالبحث فیه: إمّا فی العبادات، وإمّا فی المعاملات:
أمّا الأوّل : فإن اُحرز أنّ النهی المتعلّق بالعبادة تحریمیّ تکلیفیّ، فلاریب فی أنّه یستلزم الفساد؛ حیث إنّه یدلّ علیٰ مبغوضیّتها للمولیٰ، وأنّها ذات مفسدة بهذا العنوان
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 256 الواحد، ومعه لا یمکن أن تقع محبوبةً، وذاتَ مصلحة یتقرّب بها إلیٰ الله تعالی شأنه، وذلک هو معنی الفساد، ولیس ذلک من باب اجتماع الأمر والنهی ـ بأن یکون النهی متعلِّقاً بالخصوصیّة فی مثل «لا تُصلِّ فی المکان المغصوب»، والأمر متعلِّقاً بعنوان الصلاة ـ المتصادقین علیٰ مصداق واحد، کما أتعب المحقّق الحائریّ نفسه الزکیّة بذلک، فإنّه ـ حینئذٍ ـ خارج عن عنوان البحث الذی فُرض فیه تعلُّق النهی بنفس العبادة، لا بما هو خارج عنها.
وأمّا إذا اُحرز أنّ النهی تنزیهیّ فلا فرق بینه وبین التحریمیّ من جهة حکم العقل؛ حیث إنّه یدلّ النهی التنزیهیّ علیٰ مرجوحیّة متعلَّقه ومطلوبیّة ترکه، ولا یصلح المرجوح لأن یُتقرَّب به إلی الله سبحانه، لکنّه فی العرف لیس کذلک، فإنّهم ـ من جهة أنّه تنزیهیّ متضمِّن للرُّخصة فی الفعل ـ یُؤوِّلونه إلیٰ ما یمکن معه فرض الصحّة، مثل الإرشاد إلیٰ أنّ هذا الفرد أقلّ ثواباً من غیره، أو غیر ذلک، فلا إشکال فی ذلک أیضاً.
وإذا اُحرز أنّ النهی غیریّ أو تبعیّ أو هما معاً، کما إذا قلنا بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه، فأَمرَ المولیٰ بإزالة النجاسة عن المسجد، ومع ذلک أخذ العبد بالصلاة المنهیّ عنها بالنهی الغیریّ التبعیّ، الذی اقتضاه الأمر بالإزالة، أو قلنا بأنّ ترک الضدّ واجب من باب المقدّمة، فلا یدلّ النهی الغیریّ علیٰ حرمة المنهیّ عنه، فإنّ المطلوب هو ذو المقدّمة، وهو محبوب، وأمّا المقدّمة فهی لیست محبوبة ولا مبغوضة، فالمنهیّ عنه بالنهی الغیریّ لیس مبغوضاً؛ حتیٰ یستلزم الفساد ولو فی العبادات.
وأمّا حرمة التجرّی فالتجرّی علیٰ المولیٰ بترک إزالة النجاسة المأمور بها، لایوجب مبغوضیّة الصلاة التی یتوقّف امتثال الأمر بالإزالة علیٰ ترکها، فإنّه اجترأ علی المولیٰ بترک الإزالة، ولا ارتباط له بالصلاة، وإلاّ یلزم القول ببطلان صلاة من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 257 أفطر صومه اجتراءً علی المولیٰ، مع وضوح فساده. هذا کلّه فی العبادات.
وأمّا الثانی ـ أی فی المُعاملات ـ فإن اُحرز أنّ النهی المتعلِّق بها تحریمیّ، فهذا ـ أیضاً ـ یُتصوّر علیٰ وجهین :
أحدهما : أن تُحرز الحیثیّة التی تعلّق بها النهی.
الثانی : ما لم یُحرز ذلک.
والوجه الأوّل ـ أیضاً ـ إمّا أن یُحرز فیه أنّ النهی تعلّق بما هو فعل بالمباشرة من المعاملة، وهو قول : «بعت» و «اشتریت» ـ مثلاً ـ وهذا مجرّد فرض وتصوُّر، ولم نظفر له علیٰ مثال.
وأمّا تمثیل الشیخ قدس سره له بالنهی عن البیع وقت النداء؛ فمراده ـ أیضاً ـ فرض ذلک، وإلاّ فلیس النهی فیه متعلِّقاً بمجرّد قول : «بعت» و «اشتریت».
وعلیٰ أیّ تقدیر لایدلّ النهی فی هذا القسم علیٰ الفساد؛ لعدم المُنافاة بین مبغوضیّة التلفُّظ ب «بعت» و «اشتریت» وسببیّة ذلک للنقل والانتقال.
وإمّا أن یُحرز أنّ النهی متعلِّق بالعنوان الاعتباریّ المسبَّب عن التلفُّظ ب «بعت» الذی هو فعل مباشریّ، کالنقل والانتقال، وذلک کالنهی عن تملُّک الکافر للمسلم أو القرآن المجید مثلاً.
فقال الشیخ رحمه الله : إنّ ذلک یحتمل وجهین :
أحدهما : أن تکون سببیّة هذا اللفظ للنقل والانتقال شرعیّة مجعولة للشارع.
الثانی : أن تکون عقلیّة تکوینیّة، لکن حیث إنّه لا یُدرکها العقل کشف عنها الشارع.
فعلیٰ الثانی : فالنهی لا یدلّ فیه علیٰ الفساد؛ لعدم التنافی بین مبغوضیّة ذلک السبب التکوینیّ وبین تأثیره فی وجود المسبَّب.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 258 وأمّا علیٰ الأوّل : فمبغوضیّة السببیّة المجعولة مع تأثیرها فی إیجاد النقل والانتقال فی غایة البعد، فالنهی ـ حینئذٍ ـ یدلّ علی الفساد. انتهیٰ.
أقول : هنا وجه ثالث : وهو أن لا تکون السببیّة عقلیّة تکوینیّة ولا تشریعیّة، بل عرفیّة عقلائیّة، فإنّ العقلاء یعتبرون وجود الملکیّة بالتلفُّظ ب «بعت» و «اشتریت»، وهو سبب عندهم لها، ویتعلّق النهی فی هذا القسم بهذا العنوان الاعتباریّ، وهذا الوجه هو المتعیِّن، فإن کان النهی عنه ردعاً لهذه الطریقة العقلائیّة وبنائهم، فمقتضاه الفساد، کما فی النواهی الإرشادیّة، وإن قلنا بأنّه لیس ردعاً لها، بل هو مجرّد زجر عن سلوکها، فیدلّ علیٰ مبغوضیّتها مع تأثیر السبب أثره علیٰ فرض وقوعه فی إیجاد المسبّب، فلا یقتضی الفساد حینئذٍ.
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلک، وقلنا : إنّ السببیّة مجعولة شرعیّة، لکن لیس المجعول هو سببیّة هذا اللفظ للانتقال الخاصّ، بل المجعول السببیّة لکلّیّ اللفظ للانتقال بالمعنی الکلّیّ، ولا یستلزم مبغوضیّة فرد خاصّ من السببیّة فسادَ کلّیّتها، بل لا منافاة بین مبغوضیّتها وبین صحّتها کلیّاً وتأثیرها، فإنّ المجعول هو الکلّیّ، والمبغوض هو الفرد.
لا یقال : الحکم بالصحّة هنا لغوٌ؛ حیث إنّه لا معنیٰ لها مع مبغوضیّتها ووجوبِ إجبار الکافر علی البیع من مسلم أو المصحف الذی اشتراه من مسلم وفرضِ صحّته.
فإنّه یقال : لا مانع من ذلک؛ لوقوع نظائره فی الشریعة، فإنّ شراء الولد والدیه صحیح، مع أنّهما ینعتقان علیه، ولو فُرض النهی عن تسبُّب شیء لشیء، وکان هو المبغوض بدون مبغوضیّة ذات السبب ولا المسبَّب، فالنهی فیه یدلّ علی الصحّة؛ لأنّه تعتبر القدرة فی متعلَّق النهی، کما فی الأمر، ومع الفساد لیس هو بمقدور، ومثّلوا لذلک بالظِّهار، فإنّ طلاق المرأة مطلقاً لیس مبغوضاً، وکذلک مجرّد التلفُّظ ب «أنتِ علیَّ کظهر اُمّی»، فإنّه بما أنّه فعل مباشریّ لیس مبغوضاً، بل المبغوض هو التسبُّب للطلاق
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 259 باللفظ المذکور.
ولا یرد علیه ما ذکره بعضهم : من أنّ المبغوضیّة تُنافی الصحّة؛ لأنّ الحکم بالصحّة إنّما هو لشمول الإطلاقات والعمومات لذلک.
وأمّا إذا تعلّق النهی التحریمیّ بترتیب الآثار، کالنهی عن البیع الربویّ بلحاظ أثره، کالتصرُّف فی الثمن والمثمن ونحوه، فهو مستلزم للفساد؛ إذ لا معنیٰ للحکم بصحّة النقل والانتقال مع حرمة التصرُّف فیما انتقل إلیه، کما فی الموارد التی یکون النهی إرشاداً إلیٰ الفساد.
أمّا الوجه الثانی : ـ وهو ما لم یحرز فیه تعلُّق النهی بحیثیّة خاصّة مع کونه تحریمیّاً ـ فقال الشیخ قدس سره : إنّه یُحمل علیٰ تعلُّقه بالسبب بما هو فعل مباشریّ حفظاً للعنوان، وإلاّ یلزم أن یکون النهی غیریّاً، فإنّ الظاهر أنّ النهی متعلِّق بما هو فعل مباشریّ، فلو فُرض أنّ المبغوض مع ذلک هو العنوان الاعتباریّ المسبَّب عنه أو الآثار المطلوبة منه، لکان النهی غیریّاً توصُّلاً إلی الزجر عن غیره، لکن الظاهر أنّه لیس کذلک، بل النهی فیه مثل النهی الإرشادیّ، متعلّق بما هو المتعارف عند العقلاء؛ من اعتبار الملکیّة والنقل والانتقال وترتُّب الآثار علیها، فیدلّ علیٰ الفساد، کما لایخفیٰ.
وبالجملة : المبغوض والمنهیّ عنه هو ما بنیٰ العقلاء علیه من اعتبار الملکیّة وترتُّب الآثار علیه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 260