رجع إلی بیان استحالة الترتّب :
وأمّا بیان استحالة الترتُّب من جهة الآمر بأن یقال: کما أنّه یستحیل أمر الشارع بالضدّین لقبحه، فلا یمکن إرادته بالأمر بهما، کذلک یستحیل صدور أمرین منه: تعلّق أحدهما بشیء فی وقت معیّن، والآخر بشیء آخر مضادّ له فی ذلک الوقت؛ بحیث لا یتمکّن العبد من امتثالهما، فإنّه لا ینقدح إرادة المولیٰ الملتفِت به.
قال فی «الکفایة» ما حاصله: إنّه تصدّیٰ جماعة من الأفاضل لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتُّب علیٰ العصیان، وعدم إطاعة الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخّر،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 128 أو البناء علیٰ العصیان بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن؛ بدعویٰ أنّه لا مانع عقلاً عن تعلُّق الأمر بالضدّین کذلک؛ أی بأن یکون الأمرُ بالأهمّ مطلقاً، والأمرُ بالمهمّ معلّقاً علیٰ عصیان أمر الأهمّ أو البناء علیه، بل هو واقع فی العرف کثیراً.
قال : قلت: إنّه وإن لم یکن ملاک الاستحالة فیه موجوداً فی مرتبة الأمر بالأهمّ، لکنّه موجود فی مرتبة الأمر بالمهمّ؛ بداهة فعلیّة الأمر بالأهمّ فی هذه المرتبة ـ أیضاً ـ وعدم سقوط أمر الأهمّ بعدُ بمجرّد المعصیة.
قال : لا یقال: إنّه بسوء اختیار المکلّف، ولا برهان علی امتناعه.
لأنّا نقول : إنّ سوء اختیار المکلّف لا یَقلب الممتنع ممکناً، ولا فرق فی الاستحالة بین ما إذا کان الضدّان فی عرض واحد، وبین ما نحن فیه.
إن قلت : فرقٌ بین الاجتماع فی عرض واحد وبین الاجتماع کذلک، فإنّ الطلب فی کلّ واحدٍ منهما یطرد الآخر فی الأوّل، بخلافه فی الثانی.
قلت : لیت شعری کیف لا یطرده الأمر بغیر الأهمّ؟! وهل یکون طرده له إلاّ من جهة فعلیّته ومضادّة فعلیّته للأهمّ، والمفروض فعلیّة الأمر بغیر الأهمّ ومضادّة متعلّقه؟!
إن قلت : فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدّین فی العرفیّات؟
قلت : لا یخلو إمّا أن یکون الأمر بالمهمّ بعد التجاوز عن الأمر بالأهمّ وطلبه حقیقةً، وإمّا أن یکون الأمر به إرشاداً إلیٰ محبوبیّته وبقائه علیٰ ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة.
وقال رحمه الله: ثمّ إنّه لا أظنّ أن یلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق لعقوبتین فی صورة مخالفة الأمرین، ولذا کان سیّدنا الاُستاذ (المیرزا حسن الشیرازی) لایلتزم به علیٰ ما ببالی، وکنّا نورد به علیٰ الترتُّب، وکان بصدد تصحیحه. انتهیٰ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 129 ملخّصه.
أقول : إنّ تخصیصه الاشتراط علیٰ العصیان بنحو الشرط المتأخّر فهو لعدم تصوّر الشرط المقارن فیه، فضلاً عن الشرط المتقدّم، وذلک لأنّ المراد بالعصیان الذی هو شرط للأمر بالمهم هو العصیان الخارجی، وهو موجود زمانیّ؛ لأنّه عبارة عن تعطُّل المکلّف عن امتثال الأمر بالأهمّ فی مقدار من الزمان، کان یقدر علیٰ الإتیان به فی هذا الزمان المظروف له، فلو أمره بإزالة النجاسة عن المسجد فی ساعة معیّنة أوّلها الدلوک ـ مثلاً ـ وفرض أنّه لا یمکن فعلها فی أقلّ من ساعة، ففی أوّل الدلوک وقبله لم یتحقّق عصیان للأمر بالإزالة، کما أنّه لم یتحقّق إطاعة فیهما، بل العصیان موقوف علیٰ مضیّ مقدار من أوّل الدلوک ولو قلیلاً؛ بحیث لا یتمکّن المکلّف من امتثال أمر الإزالة فی تلک الساعة، فإذا رتّب الأمر بالمهمّ علیٰ عصیان الأمر بالأهمّ، فلا یمکن إلاّ بنحو الشرط المتأخّر لا غیر، هذا بخلاف ما لو رتّب أمر المهمّ علیٰ العزم علیٰ عصیان أمر الأهمّ، فإنّه یمکن بنحو الشرط المُقارن أیضاً.
والأولیٰ بیان ما أفاده المیرزا النائینی فی المقام ـ علیٰ ما نقله بعض مُقرّری درسه ـ فإنّه قدس سره مهّد لتصحیح الترتُّب مقدّمات :
المقدمة الاُولیٰ فی بیان أمرین :
الأوّل : أنّ المتضادّین إذا تعلّق التکلیف بکلٍّ منهما أو بواحد منهما بالخصوص، مشروطاً بعدم الإتیان بمتعلّق الآخر، فلا محالة یکون التکلیفان المتعلّقان بهما طولیّین لا عرضیّین، ولا یلزم من الطلبین کذلک طلب الجمع بین الضدّین؛ لما ذکرنا، وإنّما یلزم من الطلبین ذلک إذا کان کلّ واحدٍ منهما فی عرضٍ واحد بأن یکون مطلقاً بالإضافة إلیٰ الإتیان بمتعلّق الآخر وعدمه، بخلاف ما إذا جعل أحدهما مشروطاً بعدم الآخر، ویکشف عن ذلک أنّه إذا فرض إمکان الجمع بین شیئین کالقراءة والدخول فی المسجد، ومع ذلک جعل أحدهما مشروطاً ومترتِّباً علیٰ عدم الآخر، وقرأ حال
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 130 الدخول فی المسجد امتنع وقوعهما فی الخارج علیٰ صفة المطلوبیّة، فلو أتیٰ المکلّف بهما کذلک کان مشرِّعاً، فیکشف ذلک عن أنّ نفس ترتّب الخطابین یمنع من تحقّق الجمع بینهما.
الأمر الثانی : أنّه فی صورة عدم قدرة المکلّف علیٰ امتثال التکلیفین الموجب لوقوع المزاحمة بینهما، وإن کان لابدّ من رفع الید عمّا یقع به التزاحم؛ لاستحالة التکلیف بغیر المقدور عقلاً، إلاّ أنّه لا مناص من الاقتصار علیٰ ما یرتفع به التزاحم المذکور، وأمّا الزائد علیه فیستحیل سقوطه، فإنّه بلا موجب.
ومن ثمَّ وقع الکلام فی أنّ الموجب للتزاحم هل هو إطلاق الخطابین؛ لیکون الساقط هو إطلاق خطاب المهمّ فقط، دون أصل خطابه، مشروطاً بعدم الإتیان بالأهمّ ومترتّباً علیه؛ لأنّ سقوطه بلا مُوجب کما عرفت، أو أنّ الموجب له نفس فعلیّة الخطابین لیسقط خطاب المهمّ من أصله، ویترتّب علیٰ ذلک أنّ التزاحم إذا کان ناشئاً عن فعلیّة الخطابین، فلابدّ من سقوطهما معاً إذا لم یکن أحدهما أهمّ، غایة الأمر أنّ العقل یستکشف خطاباً تخییریّاً شرعیّاً؛ لاستلزام عدمه تفویت الملاک الملزم، وهو قبیح علیٰ الحکیم، وهذا بخلاف ما إذا کان التزاحم ناشئاً عن إطلاق الخطابین، فإنّه بناءً علیه یکون الساقط إطلاق الخطابین دون أنفسهما، فکلٌّ من الخطابین مشروط ومترتّب علیٰ عدم الإتیان بمتعلَّق الآخر، والتخییر ـ حینئذٍ ـ عقلیّ لا شرعیّ.
ومن الغریب أنّ العلاّمة الأنصاری قدس سره مع إنکاره الترتّب، وبنائه علیٰ سقوط أصل خطاب المهمّ، دون إطلاقه، ذهب فی تعارض الخبرین ـ بناءً علیٰ السببیّة ـ إلیٰ سقوط إطلاق وجوب العمل علیٰ طِبق کلّ واحد منهما ببیان: أنّ محذور التزاحم یرتفع عند سقوط الإطلاقین، فیکون وجوب العمل بکلِّّ منهما مشروطاً بعدم العمل علیٰ طبق الآخر، وهذا التقیید والاشتراط إنّما نشأ من اعتبار القدرة فی فعلیّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131 التکلیف.
وحاصل ما ذکره یرجع إلی الالتزام بخطابین مترتّب کلّ منهما علیٰ عدم امتثال الآخر، فلیت شعری لو امتنع ترتّب أحد الخطابین علیٰ عدم امتثال الآخر ـ کما فیما نحن فیه ؛ لاستلزامه الجمع بین الضدّین، کما توهّم ـ فهل ضمّ ترتُّبٍ إلیٰ مثله یوجب ارتفاع المحذور؟! إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطین غیر عزیز. انتهیٰ.
أقول : ما ذکره فی هذه المقدّمة صحیح لا غبار علیه، لکن سیجیء أنّه لا یترتّب علیه فائدة وثمرة فی المقام.
وأمّا إشکاله علیٰ الشیخ فهو من غرائب الإشکالات :
أمّا أوّلاً : فلأنّ الترتُّب المُدّعیٰ فی المقام: عبارة عن فرض وجود أمرٍ بالأهمّ بنحو الإطلاق، وأمرٍ آخر مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ، لا بعدم الإتیان به، وعصیانُ کلّ أمر وطاعتُه فی مرتبة متأخّرة عنه، والمفروض أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان أمر الأهمّ، فهو متأخّر عن عصیان الأمر بالأهمّ؛ لأنّ المشروط متأخّر عن شرطه برتبة، خصوصاً بناءً علیٰ مذهبه من رجوع الشرائط الشرعیّة کلّها إلیٰ قیود الموضوع، فالأمر بالمهمّ مُتأخّر عن الأمر بالأهمّ بمرتبتین، فهذا هو الترتُّب المدّعیٰ فی المقام.
وأمّا ما ذکره الشیخ قدس سره فلیس هو من الترتُّب أصلاً؛ لأنّه اشترط فی العمل بکلّ واحدٍ من الخبرین عدم الإتیان بمتعلّق الآخر لا عصیانه، کما لایخفیٰ علیٰ من تأمّل فی عبارته الآتیة.
ولو أراد الشیخ قدس سره الترتّب الاصطلاحی یلزمه المحال؛ لأنّه إن کان العمل بکلّ واحد من الخبرین مشروطاً بعصیان الآخر، یلزم تقدّم کلّ واحد منهما علیٰ الآخر
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132 بمرتبتین، فیلزم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم.
وأمّا ثانیاً : فلأنّ مُراد الشیخ قدس سره فی باب التعارض هو ما ذکرنا سابقاً : من أنّ الأحکام الصادرة من الشارع کلّها مُطلقة، وجمیع المکلّفین بالإضافة إلیها سواء، لکن العقل حاکم بمعذوریّة مثل العاجز فی مقام الامتثال، فإذا لم یقدر المکلّف علیٰ الجمع فی امتثال الطلبین لو أتیٰ بواحدٍ منهما، فهو لا یستحقّ عقوبة فی ترک الآخر، ولو ترکهما معاً استحقّ عقوبتین.
فإنّه قدس سره قال فی باب التعادل : إنّ الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة وعدم سقوطهما، لیس لأجل شمول العموم اللّفظی لأحدهما علیٰ البدل. قال: ولکن لمّا کان امتثال التکلیف منهما کسائر التکالیف الشرعیة والعرفیّة مشروطاً بالقدرة، والمفروض أنّ کلّ واحد منهما مقدور فی حال ترک الآخر، وغیر مقدور مع إیجاد الآخر، فکلٌّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه، ویتعیّن فعله، ومع إیجاد الآخر یجوز ترکه، ولا یعاقب علیه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب امتثال کلٍّ منهما بعد تقیید الامتثال بالقدرة. انتهیٰ.
وهذه العبارة کما تریٰ صریحة فیما ذکرناه، ولکن یرد علی الشیخ قدس سره أنّه لا اختصاص لما ذُکر بالمُهمَّینِ، بل یجری فی الأهمّ والمهمّ أیضاً.
المقدّمة الثانیة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره) : أنّ شرائط التکلیف کلّها ترجع إلیٰ قیود الموضوع، ولابدّ من أخذها مفروضة الوجود فی مقام الجعل والإنشاء، فحال الشرائط کلّها حال الموضوع. ومن الواضح أنّ الموضوع بعد وجوده خارجاً لا ینسلخ عن الموضوعیّة؛ لأنّه یستلزم بقاء الحکم بلا موضوع، فلا وجه لما
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133 ذکره بعضهم: من أنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه ینقلب واجباً مُطلقاً، وهو مساوق للقول : بأنّ الموضوع بعد تحقّقه خارجاً ینسلخ عن الموضوعیة، ولا یبعد أن یکون ذلک من جهة خلط موضوع الحکم بداعی الجعل وعلّة التشریع؛ بتوهّم أنّ شرط التکلیف خارج عن موضوعه، بل هو من قبیل الداعی لجعل الحکم علیٰ موضوعه، فبعد وجوده یتعلّق الحکم بموضوعه، ولا یبقیٰ للاشتراط مجال أصلاً.
وهذا التوهّمُ : ناشٍ عن الخلطِ بین القضایا الحقیقیّة والخارجیّة، وتوهّم أنّ القضایا المتکفّلة لبیان الأحکام الشرعیّة من قبیل الثانیة؛ ومن قبیل الإخبار عن إنشاء تکالیف عدیدة یتعلّق کلّ واحد منها بمکلّف خاصّ عند تحقّق شرطه.
لکنّه فاسد، بل القضایا المتکفّلة لبیان الأحکام هی بنحو القضایا الحقیقیّة، وهذا الخلط وقع فی جملة من المباحث :
منها : ما نحن فیه، فإنّه توهّم أنّه بعد عصیان الأمر بالأهمّ یکون الأمر بالمهمّ ـ أیضاً ـ مطلقاً، فلا محالة یقع التزاحم بین الخطابین (ویظهر من أحد المقرّرین أنّ هذا الخلط إنّما وقع فی الکفایة).
ومنها : إرجاع شرائط الأحکام الشرعیّة التکلیفیّة والوضعیّة إلیٰ شرط العلم واللحاظ؛ سواء کان المعلوم متقدّماً أم متأخّراً أم مقارناً.
ومنها : القول بأنّ سببیّة شیء للحکم الشرعی إنّما هی من الاُمور التکوینیّة، لا من الاُمور الجعلیّة، ولا من الاُمور الانتزاعیّة؛ بتوهّم أنّ تأثیر دواعی الجعل فیه من الاُمور الواقعیّة التی لاتنالها ید الجعل تشریعاً، مع الغفلة عن أنّ الکلام إنّما هو فی سببیّة العقد للملکیّة ـ مثلاً ـ ونسبته إلیها نسبة الموضوع إلیٰ حکمه، لا نسبة الداعی والعلّة إلیٰ المعلول، وعلیه فتعبیر الفقهاء عن العقود والإیقاعات بالأسباب، وعن قیود
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134 الموضوع فی باب التکالیف بالشرائط، إنّما هو مجرّد اصطلاح، وإلاّ فکلٌّ من السبب والشرط قید من قیود الموضوع لا محالة.
ویعلم ممّا ذکرنا فساد توهّم : أنّ الالتزام بالترتُّب لا یدفع محذور التزاحم بین الخطابین ـ بتوهّم أنّ الأمر بالمهمّ بعد حصول عصیان الأمر بالأهمّ المفروض کونه شرطاً له فی عرض الأمر بالأهمّ، فیقع التزاحم والتمانع لا محالة ـ وذلک لما عرفت أنّ حصول شرط الحکم فی الخارج لا یخرجه عن شرطیّته له، فالحکم المشروط به حدوثاً مشروط به بقاءً، فلیس هنا إطلاقان؛ لیقع التزاحم بینهما. انتهیٰ.
أقول : یرد علیه أنّه لم یقم علیٰ ما ذکره من رجوع الشروط إلیٰ قیود الموضوع برهان ولا دلیل ، ومن المعلوم أنّه قد یتعلّق الغرض بشیء مع قید؛ لأجل أنّ المصلحة الملزمة فیهما معاً، کما أشرنا إلیه سابقاً، کما إذا تعلّق غرضه بالصلاة فی المسجد، وعرفت أنّ فی هذه الصورة لابدّ من إیجاد المسجد لو فرض عدمه وإیقاع الصلاة فیه، وقد یتعلّق الغرض بفعلٍ علیٰ فرض وجود شرطٍ لا بدونه، وربّما لا یکون الشرط محبوباً للمولیٰ، بل قد یبغضه، ولکن لا یرضیٰ بترک الحکم المشروط به علیٰ فرض وجوده، کما إذا قال: «إن جاء زید فأکرمه» فإنّ الغرض قد تعلّق بإکرامه مشروطاً بمجیئه؛ للمصلحة فیه، لا بدونه؛ لعدم المصلحة حینئذٍ، فإذا کانت القیود المأخوذة فی متعلّق الأوامر والنواهی ـ بحسب اللُّبّ ونفس الأمر ـ علیٰ قسمین بینهما کمال المغایرة، فلا یصحّ إرجاع أحدهما إلی الآخر؛ لعدم الداعی إلیٰ ذلک، إلاّ لمحذور یرد علیه، والمحذور الذی ذکره فی المقام : هو أنّه لولا ذلک لزم القول بأنّ سببیّة شیء للحکم الشرعیّ من الاُمور التکوینیّة، لکن لیس ذلک بمحذور أصلاً؛ فإنّه بعد أن کانت الشرطیّة ونحوها من الاُمور الاعتباریّة التی اعتبرها الشارع، لا محذور فی أن یجعل الشارع السببیّة والشرطیّة للدلوک ـ مثلاً ـ لوجوب الصلاة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 135 بل ما ذکره من إرجاع الشروط الشرعیّة إلیٰ قیود الموضوع غیر صحیح، بعدما عرفت من الفرق بینهما بحسب اللّب ونفس الأمر؛ لاختلاف الحکم بجعله شرطاً للحکم أو قیداً للموضوع، وإلاّ لزم الاختلال فی الفقه، فإنّ هنا ثلاثة أشیاء: قیدِ الموضوع، وقیدِ الحکم، والداعی، وحکمُ کلّ واحد یُغایر حکم الآخر، ولا یصحّ الخلط بینها.
وأمّا ما ذکره ـ من أنّ الأحکام الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة لا الخارجیّة ـ فلا ارتباط له بالمقام، لکن حکم العقل لُبّیّ ولیس بنحو القضایا الحقیقیّة أو الخارجیّة. وأمّا ما نقله عن بعضٍ ـ من أنّ المشروط بعد تحقّق شرطه یصیر مطلقاً ـ فهو ـ أیضاًـ ممنوع، بل محال؛ لأنّه إن أراد أنّه تتغیّر إرادة الله تعالیٰ، فیصیر حکمه تعالیٰ مطلقاً بعد أن کان مشروطاً، فهو مستحیل، مع أنّ إرادة الله تعالیٰ لم تتعلّق ببعث المکلّفین وانبعاثهم، وإلاّ لاستحال التخلُّف، بل إرادته تعالیٰ تعلّقت بالحکم القانونی الکلی.
وإن أراد أنّه تعالیٰ یجعل الحکم المشروط مطلقاً بعد حصول شرطه، فقد انقطع الوحی بعد النبیّ صلی الله علیه و آله وکملت الشریعة، فلا یمکن ذلک مع أنّه حکم آخر مجعول، لا أنّه تبدیل الحکم المشروط بالمطلق.
المقدّمة الثالثة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره) : وحاصلها: أنّ الواجب علیٰ قسمین: موسّع ومضیّق، والمضیّق ـ أیضاً ـ علیٰ قسمین :
أحدهما : ما یکون فعلیّة الخطاب فیه متوقّفة علیٰ مُضیّ زمانه ولو آناً ما، وأنّ لمُضیّ آنٍ ما دخْلاً فی الموضوع، فهو الجزء الأخیر له، کما لایبعد دعویٰ ذلک فی القِصاص؛ فإنّه مترتّب علیٰ تحقّق القتل ومُضیّ زمانه ولو آناً ما.
وثانیهما : ما لیس کذلک، بل فعلیّة الخطاب فیه مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه وشرطه، ولیس بینهما تقدّم وتأخّر زماناً وإن تأخّرت عنه رتبةً، فنسبة الحکم إلیٰ موضوعه وإن لم تکن نسبة المعلول إلیٰ علّته التکوینیّة، لکنّها نظیرها،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 136 فتخلّف الحکم عنه یرجع إلیٰ الخُلف والمناقضة؛ لأنّه یلزم أن لا یکون الجزءُ الأخیر جزءً أخیراً، وعلیه فرّعنا بطلان الشرط المتأخّر.
وتوهّمُ : لزوم تقدّم الخطاب علیٰ الامتثال زماناً؛ بتقریب: أنّ وجوب الإمساک ـ مثلاً ـ لو لم یتقدّم علیٰ الإمساک ـ مثلاً ـ فی أوّل الفجر ولو آناً ما، فإمّا أن یکون المکلّف حین توجُّه الخطاب إلیه متلبِّساً بالإمساک أوْ لا، وعلیٰ کلا التقدیرین یستحیل توجُّه الخطاب إلیه؛ لأنّ طلب الإمساک ممّن فُرض تحقُّقه منه طلبٌ للحاصل، کما أنّ طلبه ممّن فُرض عدم تلبُّسه طلبٌ للجمع بین النقیضین، وکلاهما مستحیل، فلابدّ من تقدُّم الخطاب علیٰ زمان الانبعاث ولو آناً ما.
مدفوعٌ : بأنّه لو صحّ ذلک لصحّ فی نظیره؛ أعنی به العلّة والمعلول التکوینیّین، فیقال: المعلول حین وجود علّته: إمّا موجود أو معدوم، فعلیٰ الأوّل یلزم إیجاد الموجود، وعلیٰ الثانی یلزم تأثیر الموجود فی المعدوم.
والحلّ فی المقامین : أنّ المعلول أو الامتثال لو کانا مفروضی الوجود فی أنفسهما حین وجود العلّة والخطاب یلزم ما ذکر من المحذور، وأمّا لو فرض وجودهما مع قطع النظر عنهما فلا یلزم من المقارنة الزمانیّة محذور أصلاً.
مضافاً إلیٰ أنّ المکلّف إن کان عالماً قبل الفجر ـ مثلاً ـ بتوجُّه الخطاب ووجوب الصوم عند الفجر ـ مثلاً ـ کفیٰ ذلک فی إمکان تحقُّق الامتثال حین الفجر، فوجوده قبله لغوٌ؛ ولذا قلنا: إنّ تعلّم الأحکام ولو قبلها واجب علی المکلّف، فالمحرِّک له هو الخطاب المقارن لصدور متعلّقه.
هذا، مع أنّ تقدّم الخطاب ولو آناً ما یستلزم فعلیّة الخطاب قبل وجود شرطه، فلابدّ من الالتزام بالواجب المعلّق المستحیل کما مرّ.
هذا کلّه، مع أنّه لو تمّ ذلک لجریٰ فی الواجب الموسّع ـ أیضاً ـ إذا وقع فی أوّل
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 137 وقته؛ لعدم الفرق ـ حینئذٍ ـ إلاّ فی وجوب المقارنة وجوازها، مع أنّهم لا یقولون بذلک.
والغرض من هذه المقدّمة وإبطال القول بلزوم تقدُّم الخطاب المزبور، هو إثبات أنّ زمانَ شرط الأمر بالأهمّ وزمانَ فعلیّة الخطاب وزمانَ امتثاله أو عصیانه ـ الذی هو شرط الأمر بالمهمّ ـ کلَّها متّحدةٌ، کما أن الشأن هو ذلک بالقیاس إلی الأمر بالمهمّ وشرط فعلیّته وامتثاله أو عصاینه، ولا تقدُّم فی جمیع ما تقدّم بالزمان، بل التقدّم بینهما بالرتبة، وحینئذٍ فلا وقع لبعض الإشکالات التی أوردها بعضٌ فی المقام:
منها : أنّ زمان عصیان الأمر بالأهمّ متّحد مع زمان خطاب المهمّ، فلابدّ من فرض تقدُّم خطاب المهمّ علیٰ زمان امتثاله، وهو یستلزم الالتزام بالشرط المتأخّر وغیر ذلک من الإشکالات.
ثمَّ قال فی آخر کلامه : لو تنزّلنا عمّا اخترناه، والتزمنا بأنّ وصفَ التعقُّب بالعصیان شرطٌ لفعلیّة خطاب المهمّ المتقدّم علیٰ زمان امتثاله، لما استلزم ذلک الجمعَ بین الضدّین کما توهّم؛ بداهة أنّ عنوان التعقُّب بالمعصیة إنّما یُنتزع من المکلّف وتحقّق عصیانه فی ظرفه المتأخّر، فإذا فُرض وجودُ المعصیة فی ظرفها، وکونُ التعقُّب بها شرطاً لخطاب المهمّ، یکون الحالُ بعینه الحالَ فی فرض کون نفس العصیان شرطاً، وعلیه فلا یکون اجتماع الطلبین فی زمانٍ واحد طلباً للجمع بین المتعلّقین، کما تُوهِّم هذا کلُّه فی المُضیَّقین. انتهیٰ.
أقول : هذه المقدّمة هی عمدة المقدّمات التی ذکرها، ومع ثبوتها یثبت الترتُّب، ومع عدم ثبوتها یمتنع القول به، وإن ذکر بعض المقرِّرین لدرسه خلاف ذلک، وأنّه لا دخل معتدّاً به لهذه المقدّمة فی المطلوب، وأنّه قدس سره إنّما ذکرها دفعاً لبعض الإشکالات
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 138 الواردة فی المقام، وأنّ العُمدة هو ما سواها من المُقدّمات، لکن لیس کذلک، بل العُمدة فی إثبات مطلوبه هی هذه، فلابدّ من ملاحظة صحّة ما ذکره فیها وسقمه، فأقول :
أمّا ما ذکره من اتّحاد زمان البعث والانبعاث فهو صحیح؛ لأنّ المراد من الانبعاث هو اقتضاء الانبعاث ـ کما صرّح هو بهـ لا الانبعاث الفعلی الخارجی، فالبعث واقتضاء الانبعاث کلاهما فی زمان واحد، کما أنّ زمان العلّة والمعلول واحد وتأخُّرُ الانبعاثِ بهذا المعنیٰ والمعلولِ عن البعث والعلّة رتبیٌّ لا زمانیّ.
وکذلک ما ذکره : من اتّحاد زمان الشرط والمشروط، وأنّ تأخُّر المشروط عن الشرط رتبیٌّ لا زمانیّ، لکن العصیان لیس کذلک، ولیس زمانه متّحداً مع زمان الشرط والحکم والبعث؛ وذلک لما تقدّم من أنّ المراد به هنا هو العصیان الخارجیّ، وهو ـ کما تقدَّم ـ عبارة عن تعطّل المکلّف عن الإتیان بالمأمور به فی زمانه؛ بحیث لا یتمکّن من فعله فی وقته المضروب له، فلابدّ فی صدق العصیان من تعطّله عنه بمضیّ مقدار من الزمان ولو قلیلاً، وإلاّ فهو فی أوّل الوقت لیس بعاصٍ ولا ممتثل، فالعصیان متأخّر زماناً عن الأمر والبعث.
وبالجملة : المراد بالترتُّب هو أن یکون الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ کلاهما مضیّقین، أو أحدهما مضیّقاً والآخر مُوسّعاً فی زمان واحد إذا فُرض ابتداؤهما فی وقت واحد فی الثانی، کما إذا اُمر بالصلاة لدُلوک الشمس إلیٰ غَسَق اللیل، واُمر بالإزالة عند الدُّلوک فوراً، وفُرض أنّ مرتبة المهمّ متأخّرة عن مرتبة الأهمّ وفی طوله، وحینئذٍ فنقول: قد عرفت أنّ الأمر بالمهمّ إن کان مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ، فیلزم تغایرُ زمان الأمر بالأهمّ مع زمان أمر المهمّ، ومُضیُّ مقدارٍ من الزمان یتحقّق به عصیان الأمر بالأهمّ الذی هو شرط الأمر بالمهمّ، وإلاّ فلم یتحقّق الشرط بعدُ، وقد عرفت
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 139 أنّه یعتبر فی الترتُّب اتّحاد زمانهما.
وإن أراد أنّ الأمر بالمهمّ لیس مشروطاً بالعصیان، بل مشروط بالتلبّس به والشروع فیه، کما یظهر من ذیل عبارته فی التقریرات، وأنّه یندفع غائلة طلب الضدّین بذلک، ففیه : أنّ العصیان لیس أمراً مُتدرّج الوجود وإن احتاج إلیٰ مُضیِّ زمانٍ من الوقت وتعطّلِ المکلّف فی مقدار من زمانٍ لا یمکنه فعل المأمور به الأهمّ فی ذلک الوقت المضروب له؛ لأنّه زمانیّ، فلا یمکن تصوُّر التلبُّس والشروع فیه، بل إنّما یتحقّق دفعةً واحدة وفی آنٍ واحد، فإنّه مادام یمکنه فعل المأمور به الأهمّ فی وقته لم یتحقّق العصیان، وفی الآن الذی لا یمکنه فعله یتحقّق العصیان والشروع إنّما یتصوّر فی الأمر المتدرِّج الوجود والتحقُّق، لا فی مثله.
مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا ذلک، وأغمضنا النظر عن هذا الإشکال، لکن الشروع فی العصیان والتلبّس به لیس فی المرتبة المتأخّرة عن الأمر بالأهمّ؛ لیتفرّع علیه تأخّر المشروط به ـ أیضاً ـ عنه، ولیس اشتراطه بأیّ شرط موجباً لتأخّره عن الأمر بالأهمّ فی الرتبة؛ ألا تریٰ أنّه لو اشترط الأمر بالمهمّ بطلوع الشمس ـ مثلاً ـ فهل یوجب تأخّره عن الأمر بالأهمّ ؟! کلاّ، والمرتبة ـ أیضاً ـ من الاُمور الواقعیّة، ولیست مجرّد الاعتبار.
وأمّا ما صرّح به بأنّه یمکن اشتراط الأمر بالمهمّ بعنوان انتزاعیّ، کمفهوم «الذی یعصی»، وأنّه ـ أیضاً ـ یدفع غائلة طلب الضدّین، ففیه: ما سیجیء فی المقدّمة الخامسة.
المقدّمة الرابعة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره): أنّ انحفاظ الخطاب علیٰ تقدیرٍ یُتصوّر علیٰ أنحاء ثلاثة :
أحدها : أن یکون الخطاب مشروطاً بذلک التقدیر أو مطلقاً بالنسبة إلیه.
وبعبارة اُخریٰ: انحفاظه إمّا بالإطلاق أو التقیید اللحاظی، وذلک إنّما هو
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 140 بالنسبة إلیٰ القیود التی یمکن تقیید الحکم بها، فالأوّل مثل الأمر بالحجّ بشرط الاستطاعة، والثانی کالأمر بالصلاة علیٰ تقدیری إطارة الطیر وعدمها، فإنّ الخطاب فی الأوّل محفوظ فی حال وجود القید، والثانی فی الحالتین.
الثانی : انحفاظه بنتیجة الإطلاق والتقیید، وذلک بالنسبة إلیٰ القیود التی لا یمکن تقیید الحکم بها، کالعلم والجهل، والإطلاقُ والتقیید لابدّ أن یُستکشفا من الدلیل الخارجی، والأوّل کجمیع الخطابات والأحکام الشرعیة بالنسبة إلیٰ صورتی العلم والجهل، سویٰ الجهر والإخفات والقصر للمسافر، فإنّ الإجماع قائم علیٰ إطلاق الأحکام سواهما بالنسبة إلیٰ صورتی العلم والجهل، والثانی مثل وجوب الجهر فی القراءة أو الإخفات والقصر فی السفر، فإنّ الإجماع قائم علیٰ تقیید ذلک بصورة العلم، ولا یصحّ الأخذ بالإطلاق فی هذا القسم بدون الدلیل، ومعه یُستکشف کونه مطلقاً أو مقیّداً فی نفس الأمر.
الثالث : ما لا یکون من قبیل هذین القسمین وذلک بالنسبة إلیٰ کلّ تقدیر یقتضیه نفس الخطاب کالفعل والترک، فإنّه لا یمکن تقیید الخطاب بالفعل، فإنّه تحصیل الحاصل، ولا بالترک فإنّه طلب النقیضین، فإذا کان التقیید مستحیلاً فالإطلاق بالنسبة إلیهما ـ أیضاً ـ کذلک.
والفرق بین هذا القسم وبین القسمین الأوّلین : أنّ نسبة الخطاب إلی التقدیر فی الأوّلین نسبة العلّة إلی معلولها، وفی الثالث نسبة المعلول إلیٰ العلّة، وأیضاً الخطاب فی الأخیر متکفّل لبیان التقدیر ـ أی الفعل أو الترک ـ ومتعرّض لحاله؛ حیث إنّه یقتضی فعل المتعلّق وعدم ترکه، ولا تعرّض فیه لشیء آخر سویٰ ذلک التقدیر، بخلاف القسمین الأوّلین، فإنّه لا تعرّض للخطاب فیهما بنفسه للتقادیر، بل متعرّض لبیان أمر آخر.
ثمّ فرّع علیٰ ذلک : أنّ الأمر بالمهمّ المشروط بعصیان الأمر بالأهمّ متأخّر عنه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 141 بمرتبتین أو بمراتب، فلیس طلباً للجمع بین المتعلّقین. انتهیٰ.
أقول : الإطلاق علیٰ قسمین :
الأوّل : الإطلاق الذی یحتجّ به العبد علیٰ مولاه عند المخاصمة، وهذا إنّما هو بالنسبة إلیٰ القیود التی یمکن تقیید الخطاب بها .
الثانی : الإطلاق الذی لا یصحّ للعبد الاحتجاج به علیٰ مولاه عند المنازعة، وهو بالنسبة إلیٰ القیود التی لا یمکن تقیید الخطاب بها.
ووجه عدم صحّة احتجاجه علیٰ المولیٰ فیه هو أنّ المفروض عدم إمکان تقیید الخطاب بها حتّیٰ یُحتجّ به.
ففی القسم الأوّل : إذا جعل القادر المختار شیئاً موضوعاً لحکمه فإنّ الحکم لایتجاوز عن موضوعه، فإذا جعل الموضوع نفس الطبیعة المطلقة، کما لو قال: «أعتق رقبة»، وامتثل المکلّف، وأعتق فرداً منها، لا یصحّ للمولیٰ أن یقول: «إنّی أردت غیر هذا الفرد»، فیحتجّ العبد علیه: بأنّه لو کان کذلک، فلابدّ لک أن تقیّد الموضوع؛ لأنّ المفروض أنّه قادر مختار، وقد عرفت سابقاً أنّ الإطلاق عبارة عن جعل الموضوع طبیعة مطلقة، لا لحاظ سرایة الحکم إلیٰ جمیع الحالات.
فتلخّص : أنّ الإطلاق الذی یصحّ أن یحتجّ به العبد علیٰ مولاه قسم واحد، ولیس فیه لحاظ أنّه سواء کان کذا أو کذا، فإنّه تقیید، وإن أراد باللحاظ ما ذکرناه فلا مشاحّة فی الاصطلاح.
وتوهّم : أنّه فی القسم الثالث جعل الخطاب بنحو القضیة المهملة.
مدفوعٌ : بأنّه لا فرق بین هذا القسم وبین القسمین الأوّلین فی أنّ للأمر مادّة وهیئة، والمادّة موضوعة للطبیعة المطلقة، وقد عرفت أنّ معنیٰ الإطلاق هو ذلک لیس إلاّ فمعنیٰ «صلِّ» هو البعث إلیٰ المادّة؛ أی طبیعة الصلاة بنحو الإطلاق، لا الطبیعة المهملة، غایة الأمر أنّ التقیید فی هذا القسم الثالث غیر ممکن، فلأجله لا یمکن الأخذ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 142 بالإطلاق بالنسبة إلیٰ الفعل والترک؛ لأنّ مقتضیٰ نفس الإطلاق هو الفعل لا لأجل عدم الإطلاق؛ ضرورة أنّ الموضوع فی هذا القسم الثالث هو الموضوع فی القسمین الأوّلین.
نعم یمکن الأخذ بإطلاق الهیئة فی هذا القسم.
وأمّا تفریعه القول بالترتّب علیٰ ما ذکره من أنّ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ المشروط بعصیان الأمر بالأهمّ فی الرتبة.
ففیه أوّلاً : أنّ العصیان لیس متأخّراً عن الأمر به رتبةً لعدم وجود ملاکه فیه کما سیجیء بیانه.
وثانیاً : مجرّد التأخّر الرتبی لا یفید فی تصحیح الترتُّب ودفع غائلة طلب الضدّین شیئاً، فمجرّد تأخّر الشرط فی الرتبة لا یصحِّح الترتُّب.
فاتّضح ممّا ذکرنا أنّ هذه المُقدّمة ـ أیضاً ـ علیٰ فرض صحّتها لا تفید شیئاً، وإن نقل عنه أنّها أهمّ المقدّمات لتصحیح الترتُّب.
ثمّ إنّه ذکر لبیان تأخُّر الأمر بالمهمّ تقریبات :
الأوّل : أنّ الإطاعة فی مرتبة متأخّرة عن الأمر؛ لأنّ الانبعاث فی رتبة متأخّرة عن البعث، والإطاعة مع عدمها ـ أیضاً ـ فی رتبة واحدة، فالعصیان متأخّر عن الأمر بمرتبة واحدة؛ لأنّه فی رتبة الإطاعة التی هی متأخّرة عن الأمر، فالحکم المشروط بعصیان أمرٍ متأخّرٌ عن ذلک الأمر.
الثانی : أنّ الأمر بالشیء مقتضٍ للنهی عن ضدّه العامّ ـ بمعنیٰ النقیض ـ أو مستلزم له، فالنهی عن الضدّ متأخّر عن الأمر؛ حیث إنّه مقتضٍ أو مستلزم له، فهو متأخّر عن مقتضیه فی الرتبة، فلابدّ أن یکون العصیان متأخّراً عن الأمر؛ لما عرفت من أنّ الشیء مع مصداقه فی مرتبة واحدة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 143 الثالث : أنّ المشروط متأخّر عن شرطه بمرتبة واحدة، وحیث إنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان الأمر بالأهمّ، فهو متأخّر عنه.
أقول : قد عرفت أنّ أساس الترتُّب هو ذلک، وأنّ دفع غائلة طلب الضدّین إنّما هو باختلاف الطلبین فی الرتبة؛ بحیث لو فرض دفعها لا بهذه الحیثیّة، بل لحیثیّة اُخریٰ، لم یکن ترتُّباً وإن دفع الغائلة به، فلابدّ أوّلاً من التنبیه علیٰ أمرٍ بدیهیّ، وهو أن العصیان هل هو أمر وجودیّ زمانیّ، أو أنّه عدمیّ؛ أی الترک مطلقاً، أو لا لعذر؟
لا إشکال فی أنّه الأخیر، وأنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به لا لعذر، فهو أمر عدمیّ، لکن لابدّ أن ینقضی من الوقت مقدار لا یتمکّن العبد من فعل المأمور به فی ذلک الوقت، فإذا ثبت أنّه أمر عدمیّ فإثبات المرتبة له؛ وأنّه فی مرتبة کذا وکذا، أو أنّه شرط واضح الفساد، فإنّ العدم والعدمیّ لا تحقّق لهما وإن احتاجا إلیٰ مضیّ زمان بالعَرض، وقد تقدّم أنّ ما یقال: من أنّ عدم الملکة أو العدم المضاف له حظّ من الوجود، فهو فی مقام التعلیم والتعلُّم، وإلاّ فالعدم عدم مطلقاً، والحظّ للوجود إنّما هو للملکة أو المضاف إلیه، وعرفت أنّ القضایا التی بحسب الصورة موجبة وجُعل الموضوع فیها أمراً عدمیّاً، مثل «إنّ شریک الباری ممتنع»، لابدّ وأن ترجع إلیٰ السالبة المحصّلة بانتفاء الموضوع؛ أی أنّه لیس بموجود البتّة، وإلاّ فالحکمُ بثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له، حکمٌ عقلیّ کلّیّ بدیهیّ غیر قابل للتخصیص، وأمّا قولنا: العقاب علی العصیان، فلابدّ من توجیهه ـ أیضاً ـ حتّیٰ لا یرد علیه هذا الإشکال العقلی، وکذلک لا یمکن جعل العصیان شرطاً لحکم، کما فیما نحن فیه، فإنّ الشرط مصحّح لفاعلیّة الفاعل أو لقابلیّة القابل، والعدم لا یصلح لذلک؛ فإنّه لابدّ أن یؤثّر الشرط فی المشروط، والعدم غیر قابل للتأثیر فی شیء وتوهّمُ اختصاص ذلک بالشروط التکوینیّة لا الشرعیّة، فلا یعتبر فی الثانی تأثیر الشرط فی المشروط، خلافُ مذهب العدلیّة من إناطة الأحکام الشرعیة بمصالح ومفاسد واقعیّة، وأنّها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 144 لیست جُزافیة.
وأمّا التقریب الأوّل : ففیه أنّ التقدُّم والتأخّر الرتبیّین العقلیّین لابدّ أن یکون لهما ملاک: إمّا بالتجوهر، کتقدّم أجزاء الماهیّة علیها فی الرتبة، أو بالعلّیة، کتقدّم العلّة علیٰ معلولها، أو بالطبع، کتقدّم المقتضی علیٰ مقتضاه بالطبع والرُتبة، کلّ ذلک منتفٍ فیما نحن فیه؛ أی العصیان بالنسبة إلیٰ الأمر؛ لیکون العصیان متأخّراً عنه فی الرتبة. نعم الإطاعة متأخّرة عن الأمر تأخّراً طبعیّاً لکن نقیضها ومصداق نقیضها لیسا کذلک لعدم الملاک فیهما.
وأمّاالتقریب الثانی : ففیه :
أوّلاً : أنّک قد عرفت أنّ الأمر بالشیء لا یستلزم النهی عن الضدّ العامّ.
وثانیاً : سلّمنا ذلک، لکن عرفت أنّ تأخُّر شیءٍ عن شیء فی الرتبة لابدّ أن یکون له ملاک مفقود فیه، ومنشأ توهُّم تأخُّر العصیان عن الأمر فی الرتبة هو الخلط بین التقدُّم الرُّتبی والخارجی وملاحظة أنّ الموجودَ مع شیءٍ متأخّرٍ عن أمرٍ متأخّرٌ عن ذلک الأمر فی الحسّ والخارج.
لکن أین هذا من التقدُّم الرُّتبیّ والتأخّر کذلک؟! فإنّ الرتبة أمر عقلیّ موطنه العقل لا الخارج.
وأمّا التقریب الثالث : ففیه أنّ المشروط لیس متأخّراً عن الشرط فی الرتبة؛ لعدم ملاک التأخّر الرتّبی فیه، فرفع غائلة طلب الضدّین فیما إذا کان أمر المهمّ مشروطاً بعدم الإتیان بأمر الأهمّ، إنّما هو لعدم اجتماع الأمرین والطلبین فی زمان واحد لا بالرتبة.
المقدّمة الخامسة (التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره) : هی أنّه تنقسم موضوعات التکالیف وشرائطها إلیٰ أقسام : لأنّ الموضوع إمّا قابل للرفع والوضع أو لا، والأوّل إمّا قابل لکلٍّ من الرفع والدفع، أو قابل للدفع فقط، وعلیٰ کلا التقدیرین إمّا قابل
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 145 للرفع الاختیاری للمکلّف ـ أیضاً ـ أو لا، والرفع التشریعی إمّا بنفس التکلیف أو بامتثاله.
هذا خلاصة التقسیم، فنقول: فیما إذا کان الموضوع ممّا لا تناله ید الوضع والجعل والرفع التشریعیین، کالوقت بالنسبة إلیٰ الصلاة، فالخطاب المجامع لهذا الخطاب یقتضی إیجاب الجمع علیٰ المکلّف، مع إطلاق کلّ واحد من الخطابین بالنسبة إلیٰ حالتی فعل الآخر وترکه، وإن کان کلٌّ منهما مشروطاً بعدم الآخر أو أحدُهما، فلا یقتضی الجمع.
وأمّا إذا کان قابلاً للرفع والوضع الشرعیین، فالخطاب المجامع إن لم یکن متعرّضاً لموضوع الآخر من دفع أو رفع، فالکلام فیه هو الکلام فی القسم الأوّل طابق النعل بالنعل.
وأمّا إذا کان متعرّضاً له فإمّا أن یکون نفس الخطاب رافعاً أو دافعاً لموضوع الآخر، أو یکون امتثاله رافعاً لموضوع الآخر:
فعلیٰ الأوّل : فهو ممّا یوجب عدم اجتماع الخطابین فی الفعلیّة، ولا یعقل فعلیّة کلیهما؛ لأنّ وجود أحد الخطابین رافع لموضوع الآخر فلا یبقی مجال لفعلیّة الآخر حتّیٰ یقع المزاحمة.
وعلیٰ الثانی : أی ما کان امتثال أحد الخطابین رافعاً لموضوع الآخر، فهذا هو محلّ البحث فی الخطاب الترتُّبی؛ حیث یتحقّق اجتماع کلٍّ من الخطابین فی الفعلیة؛ لأنّه ما لم یتحقّق امتثال أحد الخطابین ـ الذی فرضنا أنّه رافع لموضوع الآخر بامتثاله ـ لا یرفع الخطاب الآخر، فیجتمع الخطابان فی الزمان وفی الفعلیّة بتحقّق موضوعهما، فهل یوجب هذا الاجتماع إیجاب الجمع؛ حتّیٰ یکون مُحالاً، أو لا؟
الحقّ أنّه لا یوجب ذلک، بل یقتضی نقیض إیجاب الجمع؛ بحیث لا یکون الجمع مطلوباً لو فرض إمکانه؛ لمکان أنّ الخطاب بالمهمّ مشروط بعصیان الأهمّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 146 وخلوّ الزمان عنه، ومع هذا کیف یقتضیان إیجاب الجمع؟! فلو اقتضیا إیجاب الجمع والحال هذه لزم من المحالات ما یوجب العجب فی کلّ من طرف الطلب والمطلوب:
أمّا الثانی : أی لزوم المحال من طرف المطلوب، فلأنّ مطلوبیّة المهمّ ووقوعه علیٰ هذه الصفة إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهمّ وخلوّ الزمان عنه، فوقوع المهمّ علیٰ صفة المطلوبیّة فی حال وجود الأهمّ وامتثاله کما هو بحیث یعتبر ذلک فیه یستلزم الجمع بین النقیضین؛ وأنّ المطلوبیّة مقیّدة بوجود الأهمّ وعدمه.
وأمّا الأوّل : أی استلزام ذلک فی طرف الخطاب والوجوب، فلأنّ خطاب الأهمّ من علل عدم خطاب المهمّ؛ لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع خطابا الأهمّ والمهمّ، وصار خطاب المهمّ فی عرض خطاب الأهمّ، لکان من اجتماع علّة الشیء مع عدم علّته، فلابدّ إمّا أن تخرج العلّة عن کونها علّة، وإمّا العدمُ عن کونه عدماً، وإمّا أن تبقیٰ العلّة علیٰ علّیّتها، والعدمُ علیٰ عدمه، والکلّ کما تریٰ من الخُلف والمناقضات العجیبة من جهات عدیدة، مضافاً إلیٰ أنّ البرهان المنطقی ـ أیضاً ـ علیٰ خلاف ذلک؛ فإنّ الأمر الترتُّبی المبحوث عنه فی المقام إذا أبرزناه بصورة القضیّة الحملیّة، یکون من المانعة الجمع لا الخلوّ، هکذا: إمّا أن یجب الإتیان بالأهمّ، وإمّا یجب الإتیان بالمهمّ. انتهیٰ ملخّص کلامه قدس سره.
أقول : جمیع الصور المتصوَّرة فی المقام: إمّا طلب للجمع بین الضدّین، وإمّا خارج عن الترتُّب؛ وذلک لأنّ الشرط: إمّا هو عصیان أمر الأهمّ، فقد عرفت أنّ تحقّقه یحتاج إلیٰ مُضیّ مقدار من الوقت لا یتمکّن المکلّف معه من فعل الأهمّ ولو آناً ما، وحینئذٍ یسقط الأمر بالأهمّ، ویصیر الأمر بالمهمّ فعلیّاً، ولابدّ فی الترتُّب ـ کما عرفت ـ من اجتماع الأمرین فی زمان واحد، وهنا لیس کذلک.
وإمّا أن یجعل الشرط هو الشروع والاشتغال بالعصیان ففیه : أنّه قد عرفت أنّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 147 العصیان أمرٌ آنیّ لیس فیه شروع وخروج.
وثانیاً : سلّمنا ذلک، لکن نقول: العصیان حین الشروع فیه إمّا متحقّق أو لا، لا إشکال فی أنّه الثانی، وحینئذٍ فالأمر بالأهمّ باقٍ ولم یسقط بعدُ؛ لأنّ المفروض عدم تحقّق العصیان الذی هو موجب لسقوطه، والمفروض أنّ شرط الأمر بالمهمّ ـ أیضاً ـ متحقّق؛ لأنّ المفروض أنّه الشروع فی العصیان لا نفس العصیان، وقد تحقّق الشروع والتلبّس به، فاجتمع الطلبان فی زمان واحد، ولیس ذاک إلاّ طلباً للجمع بین المتعلَّقین، وهو محال.
وإن جعل الشرط عنواناً انتزاعیّاً ک «الذی یعصی» ـ الذی هو أمر اعتباریّ منتزع عن العصیان، فلا یخلو إمّا أن یکون هو مساوقاً للعصیان الخارجی، أو مساوقاً للشروع فیه والتلبُّس به، أو لما قبل العصیان:
فعلیٰ الأوّل فلیس هو طلباً للجمع بین الخطابین فی زمان واحد، بل فی زمانین، کما إذا جعل الشرط نفس العصیان الخارجیّ طابق النعل بالنعل.
وعلیٰ الثانی والثالث فهو طلب للجمع بین متعلَّقی الخطابین، وهو مستحیل.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148