الخطابات القانونیّة :
وتوضیحه یحتاج إلیٰ تمهید اُمور :
الأوّل : أنّ ما ذکره فی غیر موردٍ من «الکفایة» من أنّ للأحکام مراتبَ أربعة:ـ مرتبة الاقتضاء، ومرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیّة، ومرتبة التنجّزـ غیرُ متصوّر، والمتصوّر منها مرتبتان علیٰ وجه، وهما مرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیّة، وأمّا مرتبة الاقتضاء فلیست من مراتب الحکم؛ لأنّها قبل الحکم، کما أنّ مرتبة التنجّز بعد الحکم، ولیست ـ أیضاً ـ من مراتبه؛ وذلک لأنّ جمیع الأحکام صادرة من الشارع لانقطاع الوحی بعد النبیّ صلی الله علیه و آله ولا دَخْلَ لعلم المکلّف وقدرته وجهله وعجزه فیها، والأحکام کلّیّة قانونیّة تشمل جمیع المکلّفین، کالأوامر العرفیّة الصادرة من الموالی العرفیّة، وهی مرتبة الإنشاء.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 123 ومن الأحکام ما لم یصدر من الشارع؛ لمصالح فی عدم إجرائها أو مفاسد فیه، کالأحکام التی لم یُؤمر النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام بإعلامها للناس بل هی مُستودعة عند صاحب الأمر ـ عجّل الله تعالیٰ فرجه ـ کنجاسة أهل الخلاف وکفرهم.
ومنها : ما أوقعه الشارع فی مورد الإجراء، مثل «لله ِ عَلیٰ النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ» و«أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ» ونحوها المتوجّهة إلیٰ جمیع المکلّفین الواقعة فی مورد الإجراء والعمل، وهی المرتبة الفعلیّة، ولا تختصّ بالعالم والقادر، بل تشمل الجاهل والعاجز أیضاً، غایة الأمر أنّ العاجز والجاهل القاصر معذوران عقلاً فی المخالفة، ولیس هذا تقییداً للدلیل الشرعیّ؛ کی یتحقّق هنا مرتبة اُخریٰ للحکم هی مرتبة التنجّز.
الثانی : أنّهم ذکروا: أنّ الأمر بما هو خارج عن مورد الابتلاء مستهجن، وکذلک الزجر عنه، ولذا حکموا بعدم منجّزیة العلم الإجمالی بالمحرّم مع خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء؛ لعدم العلم ـ حینئذٍ ـ بالتکلیف والحکم الشرعیّ، لکن هذا إنّما یصحّ فی الخطابات الجزئیّة الشخصیّة، وکذا یقبح بعث شخص أو زجره عن شیء یعلم بإتیان المکلّف به أو زجره بنفسه ولو لم یأمره به أو یزجره عنه.
وأمّا الأحکام الکلّیّة القانونیّة مثل الأحکام الشرعیّة والخطابات الإلٰهیّة والنبویّة صلی الله علیه و آله وکذا أوامر الموالی العرفیّة الکلّیّة القانونیّة، فهی إنّما تُستهجن إذا کان المأمور به والمنهیّ عنه خارجاً عن ابتلاء جمیع المکلّفین، وأمّا إذا لم یکن کذلک؛ لابتلاء بعض المکلّفین به، وإن خرج عن مورد ابتلاء بعضٍ آخر فهو غیر مُستهجن، فلیس الخطاب بمثل «یا أیُّها الذین آمنوا» ونحوه من الخطابات الکلّیّة، قبیحةً
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 124 ومستهجنة، والشاهد علیٰ ذلک أنّهم لا یقولون بذلک فی الأحکام الوضعیّة، کنجاسة الخمر الموجود فی مکان بعید خارج عن مورد الابتلاء، وکذلک نجاسة الدم ونحوه، وإلاّ لزم الهرج والمرج فی الفقه.
وتوهّم : انحلال الأحکام الکلّیّة القانونیّة المتوجّهة إلیٰ المکلّفین إلیٰ أحکام جزئیّةٍ بعدد المکلّفین، متوجّهةٍ إلیٰ کلّ واحد من آحاد المکلّفین، لا معنی له، بل هو غیر معقول؛ أتریٰ أنّه لو قال: «جاء الناس کلّهم» فی الإخبار کذباً، أنّه أکاذیب متعدّدة بعددهم؛ لانحلاله إلیٰ ذلک؟! حاشا وکلاّ، بل هو کذب واحد، وهو شاهد علیٰ فساد القول بالانحلال بالمعنیٰ المذکور.
فتلخّص : أنّ الأحکام الصادرة من الشارع کلّیة قانونیّة متوجّهة إلیٰ جمیع المکلّفین ـ العالم منهم والجاهل ، القادر منهم والعاجز ـ غایة الأمر أنّ العقل یحکم بمعذوریة العاجز والجاهل القاصر فی المخالفة، ولیس ذلک تقییداً لحکم الشارع کما عرفت.
الثالث : قد عرفت أنّ الأحکام الشرعیّة: إمّا لا یتصوّر فیها النظر إلیٰ صورة التزاحم، فضلاً عن بیان علاجه وأنّه لا یمکن ذلک، وعلیٰ فرض إمکانه ـ أیضاً ـ غیر ناظرة إلیها؛ لأنّ بیان العلاج یحتاج إلیٰ بیان زائد علیٰ بیان أصل الحکم، کما یشهد بذلک الحسّ والوجدان.
الرابع : أنّ القول بالترتُّب وتقیید الأحکام الشرعیّة بذلک فاسدٌ؛ لوجهین :
أحدهما : أنّه لو جاز ذلک لزم جواز إزالة المکلّف قدرته وتعجیز نفسه باختیاره، لو فرض أنّ الأحکام مشروطة بالقدرة؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ یصیر مثل قوله: «قصّر إن کنت مسافراً» أو «صلّ أربع رکعات إن کنت حاضراً»، فإنّه یجوز السفر والتقصیر فی الصلاة، فکما یجوز ذلک لزم أن یجوز للمکلّف تعجیز نفسه؛ لأنّ الحکم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 125 مشروط بالقدرة علیٰ الفرض، ولا یجب تحصیل شرط التکلیف أو إبقاؤه، مع عدم التزامهم بذلک.
وثانیهما : أنّهم ذهبوا إلیٰ الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة، مع أنّه لو کان التکلیف مشروطاً بها فالقاعدة هی البراءة؛ للشکّ فی تحقُّق شرط التکلیف.
الخامس : أنّه قد یعجز المکلّف عن الإتیان بالمأمور بهما معاً فی المثال، وقد یقدر علیٰ امتثال واحد منهما، ویعجز عن الجمع بینهما فی مقام الامتثال، فلا إشکال فی جواز الأمر والبعث فی الثانی؛ لأنّ کلّ واحدٍ منهما مقدور له، والغیر المقدور هو الجمع بینهما ولم یتعلّق به أمر.
إذا عرفت ذلک نقول : إذا فُرض أنّ المولیٰ أمر عبده بالإزالة، وأمره ـ أیضاً ـ بإنقاذ الغریق، وفرض أنّه لیس أحدهما أهمّ من الآخر، بل فرض تساویهما فی الأهمیة فقد یترکهما المکلّف بدون أن یأتی بفعل آخر مطلقاً، وقد یشتغل عند ترکهما بفعل مباح، وقد یشتغل بفعل محرّم، أو یأتی بأحدهما :
ففی الأوّل یستحقّ عقوبتین لمخالفته للتکلیفین.
ولا یتوهّم أنّه لا یقدر علیٰ الجمع بینهما، فلا یصحّ له إلاّ عقوبة واحدة؛ لأنّ المقدور لیس إلاّ واحداً منهما؛ لأنّ المفروض أنّ کلّ واحد منهما مع قطع النظر عن الآخر مقدور له، فمع ترکهما معاً یستحقّ العقوبة لکلّ واحد منها.
وکذلک فی الصورة الثانیة.
وأمّا فی الصورة الثالثة : فیستحقّ فیها ثلاث عقوبات: أحدها لارتکابه المحرّم، والثانیة والثالثة لترکه الإزالة والإنقاذ مع تمکّنه من الإتیان بکلّ واحدٍ منهما مع قطع النظر عن الآخر.
وأمّا فی الصورة الرابعة : فلا یستحقّ فیها عقوبة أصلاً؛ لأنّه مع الإتیان بواحدٍ منهما لایقدر علیٰ فعل الآخر، فهو معذور فی مخالفته عقلاً، مع أنّه حکم فعلیّ أیضاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 126 هذا فی صورة تساوی التکلیفین فی الأهمیّة.
وأمّا لو فرض أنّ أحدهما أهمّ من الآخر، کما لو غرق اثنان: أحدهما ابن للمولیٰ، والآخر ابن أخٍ له، وفرض أنّ إنقاذ الابن أهمّ عقلاً من الآخر عنده، فإنْ تَرکَ إنقاذهما معاً استحقّ عقوبتین؛ لقدرته علیٰ إنقاذ کلّ واحدٍ منهما مع قطع النظر عن الآخر، وإن أنقذ الابن ولم یقدر علی الآخر، فلا یستحقّ عقوبةً أصلاً فی مخالفة الأمر بالمهمّ؛ لمعذوریّته عقلاً لعدم قدرته علیٰ امتثاله مع فعل الأهمّ، ولو أنقذ ابن الأخ المهمّ فلا یستحقّ عقوبة بالنسبة إلیه، وأمّا بالنسبة إلیٰ ترک إنقاذ الابن الأهمّ، فلا یُعذِّره العقل لترکه واشتغاله بالمهمّ.
فظهر من جمیع ما ذکرناه : أنّ ما استشکله الشیخ البهائی قدس سره علیٰ الثمرة ـ بأنّ الأمر بالشیء وإن لا یقتضی النهی عن الضدّ، لکنّه یقتضی عدم الأمر به، وهو کافٍ فی فساده لو کان عبادة ـ غیرُ صحیح؛ لما عرفت من أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، فالصلاة فی المثال مأمور بها، وکذلک الإزالة بنحو الإطلاق، مع أنّها ضدٌّ للإزالة، فلا یقتضی الأمرُ بها عدمَ الأمر بالصلاة فی المثال :
ففی صورة تساوی الضدّین فی الأهمیّة لو أتیٰ بواحدٍ منهما، فالعقل حاکم بمعذوریّته فی مخالفة الآخر، مع أنّ أمره ـ أیضاً ـ فعلیّ، والترتُّب الشرعیّ أو العقلیّ ـ کما عرفت ـ غیر معقول.
وفی صورة أهمیّة أحدهما لو أتیٰ به فهو معذور ـ أیضاً ـ فی ترک الآخر.
وأمّا إذا أتیٰ بالمهمّ فهو ممتثل بالنسبة إلیه، فیُثاب به، لکن حیث إنّه ترک الأهمّ، فلا یعذره العقل، فیصحّ عقوبته به؛ لما عرفت من أنّ الأوامر الشرعیّة کلّها کلّیّة قانونیّة متوجّهة إلیٰ عامّة المکلّفین، ولیس حالات المکلّفین ـ من العلم والجهل والقدرة والعجز ـ دخیلة فیها ولا ملحوظة، وإلاّ لزم تقییدها بعدد أفراد المکلّفین؛
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 127 لاختلاف حالاتهم، وأنّ دعویٰ انحلالها إلیٰ أوامر شخصیّة وأحکام جزئیّة غیرُ معقولة، وأنّ إرادة الشارع لم تتعلّق ببعث کلّ واحدٍ واحدٍ من المکلّفین وانبعاثه أو زجره وانزجاره، وإلاّ لما أمکن التخلُّف، کما هو واضح.
مضافاً إلیٰ أنّه لو انحلت الأوامر والنواهی الشرعیّة إلیٰ أوامر ونواهٍ جزئیّة شخصیّة، فمع العلم بعصیان المکلّف لا معنیٰ للبعث والزجر لاستهجانه حینئذٍ، وکذا مع العلم بالإتیان والموافقة ولو مع عدم الأمر والنهی، وکذا مع العلم بعدم قدرته علی الامتثال، فیلزم عدم الأمر والنهی بالنسبة إلیٰ العاصین والمطیعین والعاجزین، ولا یلتزم بذلک أحدٌ قطعاً، بل الإرادة متعلّقة بجعل القانون، ومعنیٰ التشریع هو ذلک، والمکلّفون کلّهم فی شمول الأحکام لهم سواء من غیر استثناء، غایة الأمر أنّ العاجز والجاهل القاصر معذوران عقلاً، ولا یصحّ عقوبتهما فی مخالفة الحکم الفعلیّ، وقد عرفت أنّ الأوامرَ الصادرة من الشارع ـ فی الآیات القرآنیّة والسنّة النبویّة صلی الله علیه و آله مطلقةٌ کلّیّة، ولیست جزئیّة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 128