المقدّمة الموصلة :
وأمّا القول الثالث وهو ما اختاره صاحب (الفصول) : من القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، فله تصویران :
أحدهما: أن یقال: إنّ الإیصال والترتُّب شرط للوجوب، وعلّة لاتّصاف المقدّمة به، فإذا أوجد المقدّمة، ثمّ أوجد بعدها ذا المقدّمة، فبالوصول إلیه تصیر المقدّمة واجبة.
لکن هذه الصورة مستحیلة، وأنکرها صاحب الفصول أیضاً.
الثانیة : أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة بحسب متن الواقع ونفس الأمر، لکن لا یعلم حین إیجاد ذاتها أنّها الواجبة إلاّ بعد إیجاد ذی المقدّمة، فیستکشف بإیجاد ذی المقدّمة اتّصافُها بالوجوب حین إیجادها سابقاً، وهذه الصورة هی مراد صاحب الفصول.
واُورد علیه بأنّه مُستحیل ؛ لوجوه :
الأوّل : أنّه مستلزم للدور، وقُرِّر بتقریبات :
الأوّل : أنّه لو فرض أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة فذو المقدّمة مقدّمة لتحقّق الواجب من المقدّمة؛ ضرورة أنّه لا یتحقّق الإیصال إلاّ بوجود ذی المقدّمة وتحقّقه، فیتوقّف وجود کلّ واحد من المقدّمة وذیها علیٰ وجود الآخر.
الثانی : ما قرّره فی «الدرر» : من أنّه لا ریب فی أنّه لا مناط للطلب الغیری إلاّ التوقّف واحتیاج ذی المقدّمة إلیٰ غیره بداهةً، وحینئذٍ فنقول : الإیصال عنوان ینتزع من وجود ذی المقدّمة، فیتوقّف علیه، فلو توقّف ذو المقدّمة علیٰ الفعل المقیّد
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 73 بالإیصال، لزم الدور؛ لأنّ الإیصال یتوقّف علیٰ ذی المقدّمة المتوقّف علیٰ الإیصال.
الثالث : ما قرّره بعض مقرّری درس المیرزا النائینی : من أنّ وجوب المقدّمة متوقّف علیٰ وجوب ذی المقدّمة ؛ لأنّه غیری وترشُّحی، فلو کان الواجب هو المقدّمة الموصلة، فهو یستلزم توقّف وجوب ذی المقدّمة علیٰ المقدّمة؛ لأنّه ـ أیضاً ـ حینئذٍ مقدّمة للمقدّمة لو اعتبر الإیصال، فیترشّح من وجوب المقدّمة وجوب ذی المقدّمة، فیتوقّف وجوب کلّ منهما علیٰ وجوب الآخر.
لکن هذه التقریرات کلّها مدخولة :
أمّا الأوّل : فلأنّ الموقوف غیر الموقوف علیه؛ فإنّ وجود ذات ذی المقدّمة موقوف علیٰ وجود المقدّمة الموصلة، واتّصاف المقدّمة بالإیصال موقوف علیٰ وجود ذی المقدّمة، فلیس وجود المقدّمة متوقّفاً علیٰ وجود ذی المقدّمة، والدور التکوینی المُستحیل هو أن یتوقّف وجود کلّ واحد منهما علیٰ وجود الآخر، وما نحن فیه لیس کذلک کما عرفت.
أمّا الثانی : فهو ـ أیضاً ـ غیر وارد علیٰ صاحب الفصول، فإنّه لا نسلّم المقدّمة التی ذکرها للدور، وهی دعویٰ بداهة أنّ المناط فی الطلب الغیری هو التوقّف لا غیر، فإنّه قائل بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، لا مُطلق المقدّمة، والدور المذکور مبنیّ علیٰ وجوب مطلق المقدّمة.
وأمّا التقریب الثالث : فهو واضح الفساد؛ لأنّ الوجوب الغیری للمقدّمة یتوقّف علیٰ الوجوب النفسی لذی المقدّمة، ولا یتوقّف الوجوب النفسی لذی المقدّمة علیٰ وجوب المقدّمة، بل المتوقّف علیٰ وجوب المقدّمة هو الوجوب الغیری لذیها، فالموقوف غیر الموقوف علیه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 74 الثانی من الوجوه الواردة علیٰ القول بوجوب المقدّمة الموصلة : أنّه مستلزم للتسلسل؛ وذلک لأنّه لو فرض أنّ الواجب هی المقدّمة الموصلة، فهی تنحلّ إلیٰ ذات المقدّمة وقید الإیصال؛ لأنّ الواجب عنده هو المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة، فذات المقدّمة ـ أیضاً ـ مقدّمة لوجود ملاک المقدّمیة فیها أیضاً، فلابدّ من قید إیصال آخر فی وجوبها؛ لما ذکر أنّ مطلق المقدّمة لیست واجبة عنده، فتنحلّ ـ أیضاً ـ إلیٰ ذات المقدّمة وقید الإیصال، فلابدّ من إیصال آخر، وهکذا یذهب إلیٰ ما لا نهایة له، وکذا فی جانب الإیصال فإنّه ـ أیضاً ـ مقدّمة، فلابدّ من قید إیصال آخر فیه، وهکذا...
وفیه : أنّ هذا التسلسل نظیر التسلسل فی الاعتباریّات، مثل أن یقال: الزوجیّة لازمة للأربعة، وهذا اللزوم ـ أیضاً ـ لازم، وهکذا ..
وجوابه : أنّ هذه اللزومات لیست مُتعدّدة، بل لزوم واحد، فکذا فیما نحن فیه، فإنّ الأمر متعلّق بذات المقدّمة وقید الإیصال معاً علیٰ مذهبه، فقوله: ـ إنّ ذات المقدّمة ـ أیضاً ـ مقدّمة، فلابدّ من قید الإیصال أیضاً ـ فیه : أنَّ هذا الإیصال بعینه هو الإیصال الأوّل لا غیر، فلا إشکال.
الثالث من وجوه الإیرادات علیٰ القول بالمقدّمة الموصلة: أنّه بناءً علیه یلزم اتّصاف ذی المقدّمة ـ الذی هو مطلوب نفساً ـ بوجوبات متعدّدة غیریّة بعدد المقدّمات فیما لو تعدّدت؛ لأنّ ذا المقدّمة ـ علیه ـ مقدّمة لمقدّمات متعدّدة موصلة، فیترشّح من کلّ واحدة منها وجوب غیری إلیٰ ذی المقدّمة، فیلزم ما ذکر.
وفیه : أنّ الواجب من المقدّمة علیٰ مذهب صاحب «الفصول» هی المقدّمة الموصلة، فهی المتّصفة بالوجوب الغیری الترشّحی، لا مطلق المقدّمة، وذات الواجب النفسی لیست مقدّمة موصلة لذات المقدّمة، بل هو مقدّمة لاتّصاف المقدّمات
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75 بالإیصال، فلیس ذات الواجب مقدّمة موصلة؛ حتّیٰ یتّصف بالوجوبات الغیریّة المتعدّدة بعدد المقدّمات. فاتّضح من جمیع ما ذکرنا: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة لیس مستحیلاً.
الرابع من الوجوه ما استشکل فی «الکفایة» علیٰ القول بوجوب المقدّمة الموصلة : بأنّه مستلزم لإنکار وجوب مقدّمات کثیرة، بل أکثرها، وانحصار الوجوب بمقدّمات هی علّة تامّة لترتّب ذیها علیها، کالأفعال التولیدیّة، وأمّا غیرها فهی وإن کانت مستندة إلیٰ علّة تامّة؛ لاستحالة وجود الممکن بدون العلّة، لکن بعض أجزاء علّتها من مقدّمات الفعل الاختیاری کالإرادة، لیس اختیاریّاً ومقدوراً للمکلّف، فلا یمکن أن یتعلّق به الوجوب.
وفیه : أنّه لیس المراد بالمقدّمة الموصلة العلّة التامّة لیرد علیه هذا الإشکال، بل المراد منها هی التی یقع بعدها ویترتّب علیها الواجب، سواء کان بلا واسطة أم مع واسطة أو وسائط، لا مطلق المقدّمة وإن لم یقع ویوجد الواجب بعدها، کما لا یخفیٰ علیٰ من أعطیٰ حقّ النظر فی کلام صاحب «الفصول» قدس سره فإنّه مثّل بما إذا قال المولیٰ لعبده: «اشترِ اللحم»، فالذهاب إلی السوق ونحوه من المقدّمات إذا ترتّب علیها الواجب ووجد بعدها فهی متّصفة بالوجوب، مع أنّها لیست علّة تامّة للاحتیاج إلیٰ الإرادة أیضاً.
مضافاً إلیٰ أنّا لا نُسلِّم أنّ الإرادة غیر اختیاریّة، کما تقدّم بیانه، ولو سلّمنا أنّها غیر اختیاریّة یرد علیٰ صاحب «الکفایة» أنّه لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فالإرادة ـ أیضاً ـ من المقدّمات، فیلزم اتّصافها بالوجوب، مع أنّها غیر اختیاریة علیٰ مذهبه، فما یدفع به هذا الإشکال هو الجواب عن الإشکال الذی ذکره.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76 واستشکل أیضاً : بأنّه بناءً علیٰ وجوب المقدّمات الموصلة فقط؛ لو أتیٰ بواحدة منها بدون انتظار الإیصال إلیٰ ذی المقدّمة، أو فُرض حصول المقدّمة قبل تعلّق الوجوب بها، یلزم أن لا یسقط الأمر مع سقوطه بلا ریب وإشکال، وسقوط الأمر إنّما هو إمّا بالإطاعة، أو انتفاء الموضوع، کما إذا غرق المیّت، فیسقط التکلیف بتجهیزه ودفنه، أو بالمخالفة والعصیان، ولیس فی المقام إلاّ الأوّل، فالسقوط هنا إنّما هو لأجلها.
والجواب : أنّه لا مانع من القول بعدم سقوط الأمر فی الفرض؛ بناءً علیٰ القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط.
فتلخّص : أنّه لایرد علیٰ هذا القول إشکال عقلی ولا غیره.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77