المبحث الخامس فی شروط وجوب المقدّمة وتبعیته لوجوب ذیها
علیٰ فرض ثبوت الملازمة بین إرادة ذی المُقدّمة وبین إرادة المقدّمة، فهل هی تابعة لإرادة ذی المقدّمة إطلاقاً واشتراطاً؟
وهل یشترط فیوجوب المقدّمة إرادة ذی المقدّمة، کما عن صاحب المعالم قدس سره؟
أو أنّه یشترط فی وجوب المقدّمة قصد التوصّل بها إلیٰ ذی المقدّمة، کما نسب إلی الشیخ قدس سره؟
أو أنّه یشترط فی وجوبها ترتُّب ذیها علیها، فمع عدمه یستکشف عدم وجوبها؟ أقوال :
أمّا القول الأوّل فنقول : قد أوردوا علیٰ صاحب المعالم : تارةً بأنّه لا معنیٰ لاشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذی المقدّمة، مع أنّ وجوب ذی المقدّمة مطلق أصلی ووجوب المقدّمة ترشُّحی تابع لوجوب ذی المقدّمة؟
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 65 واُخریٰ : بأنّ مرجع اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذیها إلیٰ اشتراط وجوبها بإرادة نفسها؛ وذلک لبداهة أنّه مع إرادة ذی المقدّمة یرید المقدّمة ـ أیضاًـ واشتراطُ وجوب الشیء بإرادة ذلک الشیء غیرُ معقول.
أقول : ظاهر کلام صاحب المعالم قدس سره غیر ما نُسب إلیه، فإنّ ظاهر کلامه هو أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو فی حال إرادة ذی المقدّمة، لا اشتراطه بإرادته، فالمقدّمة وذوها سیّان فی الإطلاق، فلا یرد علیه إشکال لزوم تفکیک المقدّمة عن ذیها فی الإطلاق والاشتراط.
وکذا الإشکال الثانی؛ لعدم تعبیره بالاشتراط.
نعم ، یرد علیه : أنّ إرادة المقدّمة إنّما هی بعد إرادة ذی المقدّمة، وفی رتبة متأخّرة عنها لا فی حالها، وحینئذٍ فلا معنی للبعث إلیٰ المقدّمة مع علم الآمر بإرادة المکلّف لها؛ لعدم الباعثیّة لأمره حینئذٍ.
لکن هذا الإشکال مشترک الورود علیٰ القائلین بالملازمة، ولا یختصّ بما ذکره صاحب المعالم.
نعم ، یرد علیٰ خصوص مقالة صاحب المعالم قدس سره : أنّه بناءً علیٰ ما ذکره یلزم نحوتفکیک لوجوب المقدّمة عن وجوب ذیها، مع أنّ وجوبها ترشّحیبناءًعلیٰ الملازمة.
وأمّا القول الثانی وهو ما نسب إلیٰ الشیخ : من اشتراط وجوب المقدّمة بقصد التوصُّل بها إلیٰ إرادة ذیها، فهو غیر مُراد له قدس سره قطعاً، کما لایخفیٰ علیٰ من أعطیٰ حقّ النظر فی عبارة التقریرات، فإنّه بعد نقل مقالة صاحب «المعالم»، وبعد ذکر توجیه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 66 بعضهم له، قال: إنّ مراده أنّه یشترط فی وجوب المقدّمة قصد التوصّل بها إلیٰ إرادة ذی المقدّمة.
وبعد الإیراد علیٰ هذا التوجیه قال : إنّا بعدما أعطینا حقّ النظر فی الحُجج الناهضة علیٰ وجوب المقدّمة، واستقصینا التأمّل فیها، ما وجدنا فیها رائحة من ذلک؛ کیف؟! وإطلاق وجوب المقدّمة واشتراطه تابع لوجوب ذیها فیهما، ولا یُعقل اشتراط وجوب الواجب بإرادته؛ لأدائه إلیٰ إباحة الواجب. قال ـ علی ما فی التقریرات ـ: وهل یعتبر فی وقوعها علیٰ صفة الوجوب قصد التوصّل بها إلیٰ الغیر أو لا؟ وجهان: أقواهما الأوّل.
وتحقیق المقام : هو أنّه لا إشکال فی أنّ الأمر الغیری لا یستلزم امتثالاً، کما عرفت فی الهدایة السابقة، بل المقصود منه مجرّد التوصّل إلیٰ الغیر، وقضیّة ذلک هو قیام ذات الواجب مقامه، وإن لم یکن المقصود منه التوصُّل به إلیٰ الواجب کما إذا أمر عبده بشراء اللحم من السوق الموقوف علیٰ تحصیل الثمن، ولکن العبد حصّل الثمن لا لأجل شراء اللحم، بل لأجل ما ظهر له من الاُمور الموقوفة علیٰ الثمن، ثمّ بدا له امتثال أمر المولیٰ بشراء اللّحم، فیکفی فی مقام المقدّمیّة الثمن المذکور بلا إشکال، ولا حاجة إلیٰ إعادة التحصیل، کما هو ظاهر لمن تدبّر.
إنّما الإشکال فی أنّ المُقدّمة إذا کانت من الأعمال العبادیّة التی یجب وقوعها بقصد القربة، کما مرّ الوجه فیها بأحد الوجوه السابقة، فهل یصحّ فی وقوعها علیٰ جهة الوجوب أن یکون الآتی بها قاصداً لإتیان ذیها أو لا؟
ثمّ فرّع علیٰ کلّ من الوجهین فروعاً ثمّ قال: وقد نسب الثانی إلیٰ المشهور، ولم نتحقّقه، وما یمکن الاستناد إلیه فی تقریب مرادهم: هو أنّ الوضوء لیس إلاّ مثل الصلاة فی لحوق الطلب الإیجابی بهما، غایة الأمر أنّ الداعی إلی إیجاب الواجب
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 67 الغیری هو التوصُّل به إلیٰ الغیر، والداعی إلیٰ إیجاب الصلاة هو وجوب نفس الصلاة، ولا دلیل علیٰ لزوم قصد دواعی الأمر.
إلاّ أنّ الإنصاف أنّ ذلک فاسد؛ إذ بعد ما عرفت من تخصیص النزاع بما إذا اُرید الامتثال بالمقدّمة، فنقول: لا إشکال فی لزوم قصد عنوان الواجب فیما إذا اُرید الامتثال بالواجب وإن لم یجب الامتثال، ولاریب فی عدم تعلُّق القصد بعنوان الواجب فیما إذا لم یکن الآتی بالواجب الغیری قاصداً للإتیان بذلک الغیر، فلا یتحقّق الامتثال بالواجب الغیری إذا لم یکن قاصداً للإتیان بذلک، وهو المطلوب.
أمّا الأوّل : فقد عرفت فیما تقدّم : أنّ الامتثال لا نعنی به إلاّ أن یکون الداعی إلیٰ إیجاد الفعل هو الأمر، ویمتنع دعوة الأمر إلیٰ عنوان آخر غیر ما تعلّق الأمر به؛ لعدم الارتباط بینهما، فلو کان الداعی هو الأمر یجب قصد المأمور به بعنوانه.
وأمّا الثانی : فلأنّ الحاکم بالوجوب الغیری لیس إلاّ العقل، ولیس الملحوظ عنده فی عنوان حکمه بالوجوب إلاّ عنوان المقدّمیّة والموقوف علیه، وهذه الجهة لا تلحق ذات المقدّمة إلاّ بملاحظة ذیها؛ ضرورة کونها من العناوین الملحوظة باعتبار الغیر، فالاتیان بشیء علیٰ جهة المقدّمیّة یمتنع انفکاکه عن قصد الغیر، وإلاّ لم یکن الداعی هو الأمر اللازم من أمر الغیر.
وبعبارة اُخریٰ : إنّ ذات المقدّمة معنونة بعنوانات کثیرة منها المقدّمیّة، وهذا عنوان وجوبها الغیری، فلابدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان؛ لما قرّر فیما تقدّم، وقصدُ عنوان المقدّمة علیٰ وجهٍ یکون الداعی إلیٰ إیجاده ملاحظة المنفعة فی هذا العنوان، لا یعقل بدون قصد الغیر؛ إذ لا یعقل القصد إلیٰ شیءٍ یترتّب علیه فائدة لأجل تلک الفائدة بدون أن تکون تلک الفائدة مقصودة؛ لکونه تناقضاً.
ثمّ فرّع علیه مسألة.. إلیٰ أن قال :
وکیف کان، فالظاهر اشتراط وقوع المقدّمة علیٰ صفة الوجوب والمطلوبیّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 68 بقصد الغیر المترتِّب علیها؛ لما عرفت، ویکشف عن ذلک ملاحظة الأوامر العرفیّة المعمولة عند الموالی العرفیّة والعبید، فإنّ الموالی لو أمروا عبیدهم بشراء اللحم الموقوف علیٰ الثمن، فحصّل العبد الثمن لا لأجل اللحم، لم یکن ممتثلاً للأمر الغیری قطعاً، وإن کان بعدما بدا له الامتثال مجزئاً؛ لأنّ الغرض فیه التوصُّل، ولمّا کانت المقدّمة العبادیّة لیست حالتها مثل تلک المقدّمة فی الاکتفاء بذات المقدّمة عنها، وجب إعادتها کما فی غیرها من العبادات، فلا یکاد تظهر الثمرة فی المُقدّمات الغیر العبادیّة، کغسل الثوب وغیره؛ ضرورة حصول ذات الواجب وإن لم یحصل الامتثال علیٰ وجه حصوله فی الواجبات الغیریّة.
نعم ، تظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدّمی علیٰ حکمه السابق، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغیر فی وقوع المقدّمة علیٰ صفة الوجوب، لا یحرم الدخول فی ملک الغیر إذا کان مقدّمة لإنقاذ غریق، بل یقع واجباً، سواء ترتّب علیه الغیر أم لا.
وإن قلنا باعتباره فی وقوعها علیٰ صفة الوجوب، فیحرم الدخول ما لم یکن قاصداً لإنقاذ الغریق. انتهیٰ.
ولایخفیٰ أنَّ مُراده قدس سره أنّ صدق الامتثال متوقّف علیٰ قصد التوصُّل والأمر الغیری، وبدونه لا یتحقّق الامتثال مع تحقّق الواجب، فإنّ هنا مقامین: الأوّل مقام صدق الامتثال فی الإتیان بالأوامر الغیریّة، والثانی تحقّق الواجب، والأوّل لا یتحقّق إلاّ مع قصد التوصُّل وداعویّة الأمر الغیری، بخلاف الثانی، فإنّ قصد التوصُّل فیه غیر معتبر، کما لا یخفیٰ علیٰ من أعطیٰ تقریراته حقّ النظر، وإن کان عبارة التقریرات مضطربة جدّاً، لکن المقطوع هو أنَّ مُراد الشیخ قدس سره غیر ما هو المنسوب إلیه من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 69 اعتبار قصد التوصّل فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب، وأنّ النسبة فی غیر محلّها.
نعم : یرد علیٰ ما ذکره فی ذیل عبارته ـ بقوله : نعم : یظهر الثمرة ... إلخ ـ أنّه بعدما عرفت وثبت أنّ قصد التوصّل إلیٰ ذی المقدّمة غیر معتبر فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب، لا فرق فی مزاحمة الحرمة للوجوب فی المثال بین قصد التوصّل إلیٰ الغیر الواجب وعدمه.
فتلخّص : أنّه لا یعتبر عند الشیخ قدس سره فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب قصد التوصُّل بها إلیٰ الغیر.
ومنه یظهر : أنّ ما ذکره المحقّق العراقی من الاحتمالات فی کلام الشیخ قدس سره کلّها مردودة وغیر مرادة له، وکذلک کثیر من الاحتمالات التی ذکرها المیرزا النائینی قدس سره.
ووجّه بعض المحقّقین من المحشّین ما هو المنسوب إلیٰ الشیخ قدس سره : بأنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة إلیٰ الحیثیّات التقییدیّة، والمراد أنّ حیثیّة مقدّمیّة المقدّمة علّة لإرادة المولیٰ إیّاها، فمرجعها إلیٰ أنّ المقدّمة بما أنّها مقدّمة واجبة، وحینئذٍ فإن أتیٰ المکلّف بها بما أنّها مقدّمة للغیر، فلا یعقل عدم قصد المقدّمیّة والتوصّل بها إلیٰ الغیر.
وفیه : أنّ ما ذکره ـ من أنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة .. إلخ ـ مسلَّم، لکن لا نُسلِّم اعتبار القصد إلیٰ هذه الحیثیّة، فإنّ المفروض أنّ المقدّمة توصُّلیة، یکفی إیجادها بأیّ نحو کان؛ ولو بدون الإرادة، أو فی حال النوم، أو بدون الاختیار، ولا یلزم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 70 الإتیان بها مع الإرادة والاختیار مع القصد إلیها؛ لما عرفت من أنّ القصد معتبر فی تحقُّق الامتثال وصدقه، لا فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب.
وعلیٰ أیّ تقدیر هذا القول ـ سواء کان مراداً للشیخ قدس سره أو غیره ـ مردود بما أورد علیه فی «الکفایة» : من عدم إمکان اعتبار شیء فی الوجوب إلاّ إذا کان له دَخْل فیه من الملاک، وملاکُ وجوب المقدّمة حصولُ ما لولاه لما أمکن الإتیان بذی المُقدّمة لا غیر، وقصد التوصُّل لیس دخیلاً فیه، فلا یعتبر.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 71