المبحث الرابع فی التقرّب بالواجبات الغیریّة
هل یمکن أن تقع سائر الواجبات الغیریّة ـ مثل الستر والاستقبال ونحوهما ـ مقرّبة للعبد إلیٰ الله تعالیٰ بإتیانها بقصد الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة، لا بداعی الأمر الغیری؟ وحکم العقل بذلک ـ أی لزوم فعلها من باب توقّف الواجب علیها ـ وإن لم تصر بذلک عبادة؛ لما عرفت من أنّه یمکن أن یکون فعلٌ مقرّباً إلیه تعالیٰ من دون أن یکون عبادة، کالزکاة والخمس ونحوهما، فإنّهما مقرّبان إذا قصد بهما ذلک، مع أنّهما لیستا من العبادات؛ نعم ، فعلهما إطاعة، لا عبادة التی تسمّیٰ بالفارسیة بـ «پرستش»، فنقول: لاریب فی أنّه لا داعویّة ومحرّکیّة للأمر المتعلّق بالصلاة ـ مثلاًـ إلیٰ إیجاد مقدّماتها؛ لا مستقلاًّ ولا تبعاً؛ لأنّ المفروض أنّه متعلّق بالصلاة فقط، والأمر لایدعو إلاّ إلیٰ متعلَّقه لاغیر، بل الداعی إلیٰ المقدّمات هو الأمر الغیری، أو الحکم العقلی من باب التوقُّف، وهو غیر فعلها بداعی الأمر الشرعی، والمفروض أنّ مثل الستر والاستقبال لیس ممّا یصلح للعبادیّة ذاتاً، کما فی الطهارات، ولم یتعلّق بها أمرٌ من الشارع غیر الأمر الغیری؛ لیتقرّب به إلیه تعالیٰ.
فما یظهر من «الکفایة» والمحقّق العراقی ـ قدّس سرّهما ـ من أنّه یمکن صیرورة المقدّمات التوصّلیّة کلّها مقرّبةً للعبد إلیٰ الله تعالیٰ ویترتّب علیها الثواب إذا فعلها بداعی الأمر المتعلّق بذیها.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 63 فیه ما لا یخفیٰ، فلایمکن القرب والمثوبة بالمقدّمات التوصّلیة بوجه.
نعم ، المقدّمة التی تصلح ذاتاً للعبادیّة والمقرّبیّة، کالطهارات إذا أتیٰ بها مستشعراً بذلک حین فعلها، فهی مقرِّبة وعبادة یترتّب علیها المثوبة، فإنّها بما أنّها ممّا تصلُح للعبادیّة تعلّق بها الأمر الغیری، فمع قصده ـ أیضاً ـ تقع عبادة، وقد تقدّم أنّه لا تنافی بین استحبابها ذاتاً ووجوبها بالغیر، خلافاً للمحقق العراقی؛ حیث ذکر أنّ الطهارات الثلاث تنحلّ إلیٰ مقدّمتین : إحداهما ذواتها، وثانیتهما کونها عبادة، فیتعلّق بکلّ واحد منهما أمر غیریّ وجوبیّ، فیلزم أن تکون ذواتها مستحبّة وواجبة کلیهما بعنوان واحد، فیضمحلّ الاستحباب.
وأمّا بناءً علیٰ ما ذکرناه: من أنّها بما أنّها عبادة مُقدّمة للصلاة وتعلّق بها أمر غیری، فلا منافاة بین استحبابها ذاتاً ووجوبها بالغیر؛ لاختلاف متعلَّقَی الوجوب والاستحباب باختلاف العنوان، فهی ـ بما أنّ ذواتها تصلح للعبادیّة ـ مستحبّةٌ، وبما أنّها عبادة وتتوقّف علیها الصلاة واجبةٌ، نظیر النذر إذا تعلّق بصلاة اللیل کما تقدَّم.
وأمّا ما یظهر من بعض : من أنّ الأمر النذری یکتسب العبادیّة من صلاة اللیل فی المثال، وصلاة اللیل تکتسب الوجوب من الأمر النذری، فلم نتعقّله، ولم یُعلم المراد منه.
وإذا عرفت أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح ذواتها للعبادیّة والمقرّبیّة، فلو توضّأ قبل دخول الوقت بداعی الاستحباب، جاز الصلاة به والاکتفاء به؛ لعدم توقّف الصلاة إلاّ علیٰ طهارة قربیّة، وهی متحقّقة، وکذا لو دخل الوقت، لکن توضّأ بداعٍ آخر غیر داعی التوصُّل بها إلیٰ الصلاة، مثل قراءة القرآن، ولو توضّأ للتوصُّل بها إلیٰ الصلاة بدون قصد القربة، فهی باطلة مُطلقاً، سواء کان قبل دخول الوقت أم بعده، ولو توضّأ قبل دخول الوقت بداعی الاستحباب، لکن یعلم بأنّه سیدخل الوقت،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 64 فقَصَد التوصُّل بها إلیٰ الصلاة بعد دخول الوقت، کفیٰ وصحّ أیضاً، وکذا لا إشکال فی الصحّة لو توضّأ بداعی الاستحباب الذاتی مع الغفلة عن وجوبها الغیری رأساً، فإنّه وإن غفل عن ذلک، لکنّه غیرغافل عن رجحانه ذاتاً، ویجوز الاکتفاء به للصلاة أیضاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 65