الفصل السابع الکلام فی المخصَّص بالمجمل
وله أقسام :
لأنّ الشبهة والإجمال : إمّا فی مفهومه؛ بأنّ لا یُعلم أنّه لأیّ شیء وضع؟ وإمّا فی المصداق مع تبیُّن مفهومه.
والإجمال فی القسم الأوّل أیضاً : إمّا لأجل تردُّده بین المتباینین، أو الأقلّ والأکثر.
وعلیٰ جمیع التقادیر : الکلام إمّا فی المخصّص المتّصل، أو المنفصل.
أمّا القسم الأوّل : وهو الشبهة المفهومیّة مع تردّده بین الأقلّ والأکثر فی المخصّص المتّصل، کما لو قال : «أکرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم»، وتردَّد مفهومُ الفاسق بین مرتکب الکبیرة فقط، وبین مرتکب کلّ ذنب ولو من الصغائر، فقالوا: إنّه لا یجوز التمسُّک بالعامّ فی خصوص المشکوک؛ أی مرتکب الصغیرة؛ وذلک لأنّ کلّ واحد من مفردات «أکرم کلّ رجل عالم» وإن کان ظاهراً فی معناه الموضوع له، لکن حیث إنّه متّصل باستثناء ما لا یعلم مفهومه؛ لتردّده بین الأقلّ والأکثر، یسری إجماله إلیٰ العامّ، ویصیر هو ـ أیضاً ـ مجملاً بالنسبة إلیٰ الأکثر، ولیس لمجموع المستثنیٰ والمستثنیٰ منه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 343 إلاّ ظهور واحد، والمفروض إجماله بالنسبة إلیٰ الفرد المشکوک، ففی مقام المخاصمة والاحتجاج بین العبد ومولاه، لا یصحّ لواحد منهما الاحتجاج به علیٰ الآخر.
وبالجملة : الموضوع لوجوب الإکرام هو العالم الغیر الفاسق لیس إلاّ، والمفروض أنّ الفاسق مجمل مردَّد بین الأقلّ والأکثر، فلا یصحّ التمسُّک بالعموم بالنسبة إلیٰ الأکثر أیضاً لصیرورته مجملاً لا یصحّ الاحتجاج به.
القسم الثانی : ما إذا کانت الشبهة فی المفهوم لأجل تردُّد المخصِّص بین الأقلّ والأکثر أیضاً، لکن فی المخصِّص بالمنفصل، فذهبوا إلیٰ أنّه لا یسری إجمال مفهوم المخصِّص إلیٰ العامّ؛ لأنّه صدر عند انعقاد ظهور العامّ فی العموم ابتداءً، وبعد الظفر بالمخصِّص تُرفع الید عن ظهوره بالنسبة إلیٰ المعلوم دخوله فی المخصِّص، وأمّا بالنسبة إلیٰ المشکوک دخوله فیه ـ کالمرتکب للصغیرة فی المثال المذکور ـ فلا تُرفع الید عن ظهور العامّ بالنسبة إلیه، فهو حجّة بالنسبة إلیه.
والحاصل : أنّ العامّ حجّة حیث لا حجّة أقویٰ منه أو مطلقاً علیٰ الخلاف، والمفروض وجود الحجّة بالنسبة إلیٰ الأقل؛ أی مرتکب الکبائر، وأمّا بالنسبة إلیٰ الأکثر فلم تثبت حجّیّة الخاصّ فیه؛ حتّیٰ ترفع الید عن ظهور العموم، کیف؟! ولو صدر المخصِّص المذکور ابتداءً قبل صدور العامّ، لما صحّ الاحتجاج به بالنسبة إلیٰ الأکثر الذی لم یُعلم شمول عنوان الخاصّ له، فکیف فیما نحن فیه المفروض وجود الحجّة علیٰ خلافه وهو العامّ؟!
لکن هذا الذی ذکروه فی هذا القسم، إنّما یتمّ إذا لم یکن المخصِّص المنفصل ناظراً إلی العامّ ومفسّراً له، کما فی بعض أقسام الحکومة، وأمّا إذا کان المخصِّص المنفصل ناظراً إلیٰ العامّ وشارحاً له بعد صدور العامّ، ففیما ذکروه تأمّل وإشکال؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ کالمخصِّص المتّصل کأدلّة نفی العسر والحرج؛ حیث إنّها ناظرة إلیٰ أدلّة التکالیف
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 344 ومفسِّرة لها.
قال قدس سره فی «الدرر» ما حاصله : إنّه إذا فرض أنّ عادة المتکلّم ودیدنه جاریة علیٰ ذکر المخصِّص منفصلاً عن کلامه، فحال المخصِّص المنفصل فیه کالمخصِّص المتّصل فی کلام غیره؛ فی أنّه یحتاج فی التمسُّک بعموم کلامه إلیٰ عدم إحراز المخصِّص إمّا بالقطع أو بالأصل، ولا یمکن إحرازه فیما نحن فیه بواحد منهما: أمّا القطع فواضح، وأمّا الأصل فلأنّه إنّما یجری فیما لم یوجد فیه ما یصلح للمخصِّصیة، وأمّا فیما نحن فیه الذی یوجد فیه ما یصلح لها فلا. انتهیٰ.
أقول : هذا الذی ذکره إنّما یصلح للاستدلال به لوجوب الفحص عن المخصّص، وعدم جواز التمسُّک بالعامّ قبل الفحص والیأس عنه، کما فی سائر الموارد غیر هذا المورد، وأمّا الاستدلال به لما ذکره من عدم جواز التمسُّک بالعامّ الصادر من المتکلِّم الذی دیدنه کذا، ولو بعد الفحص عن المخصِّص والیأس عنه؛ لإجماله ـ حینئذٍ ـ لسرایة إجمال المخصِّص المنفصل إلیه، فلا.
القسم الثالث : ما إذا کانت الشبهة فی مفهوم المخصِّص وإجماله لأجل تردّده بین المتباینین، کما لو قال: «أکرم العلماء، ولا تکرم زیداً»، ولم یعلم أنّ المراد زید بن عمرو أو زید بن بکر، فاللازم فی هذا الفرض هو الاحتیاط؛ للعلم الإجمالی بوجوب إکرام أحدهما الغیر المعلوم، کما فی سائر موارد العلم الإجمالی، إلاّ إذا دار الأمر فیه بین المحذورین، کما لو علم بوجوب إکرام أحدهما وحرمة إکرام الآخر، ولا فرق فیه بین المخصِّص المتّصل والمنفصل.
القسم الرابع : ما لو کانت الشبهة فی مصداق الخاصّ مع تبیُّن مفهومه، فمحطّ البحث فیه هو ما إذا ثبت حکمٌ لعامّ ـ أی لکلّ فرد فرد منه ـ ثمّ اُخرج عدّة من أفراده عن تحته، لا فیما کان الحکم ثابتاً لعنوان، ثمّ قُیّد ذلک العنوان بدلیل خاصّ،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 345 کالعالم والعالم العادل؛ لما عرفت غیر مرّة: أنّ مسألة العامّ والخاصّ غیر مربوطة بمسألة المطلق والمقیّد.
فانقدح بذلک ما فی کلام المحقّق المیرزا النائینی قدس سره فی المقام حیث ذکر ما حاصله: أنّ ظاهر قوله: «أکرم العالم» هو أنّ عنوان «العالم» تمام الموضوع لوجوب الإکرام، ویُستکشف بالمخصِّص أنّ عنوان «العالم» لیس تمام الموضوع له، بل هو جزء الموضوع، والجزء الآخر هو عنوان «العادل» مثلاً، وأنّ تمام الموضوع هو عنوان «العالم» المقیّد بالعادل، فکما لا یجوز التمسُّک فی فرد شُکّ فی أنّه عالم أو لا بالعموم، فکذلک فیما لو شُکّ فی أنّه عادل أو لا؛ لعدم الفرق فی ذلک بین الجزءین للموضوع، بل لابدّ فی جواز التمسُّک بالعامّ من إحراز الموضوع بتمام جزءَیْه.
أقول : ما أفاده قدس سره من عدم جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص ـ حقٌّ، لکن البیان الذی ذکره لذلک غیر صحیح؛ لما عرفت أنّه وقع الخلط فیه بین بابی المطلق والمقیّد وبین العامّ والخاصّ، وحینئذٍ نقول :
إنّ المخصِّص فی الفرض : إمّا متّصل، وإمّا منفصل:
أمّا الأوّل : فلا ریب فی عدم جواز التمسُّک فیه بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، کما لو قال: «أکرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم» وشکّ فی فرد أنّه فاسق أو لا، مع تبیُّن مفهوم الفُسّاق؛ لأنّه لا ینعقد للکلام إلاّ ظهور واحد فی وجوب إکرام العالم الغیر الفاسق، فمع الشکّ فی فرد أنّه فاسق أو لا، فحیث إنّه لا ظهور للکلام بالنسبة إلیه، لا یجوز التمسُّک بالعامّ فیه.
وأمّا المخصّص المنفصل : فقد یقال بجواز التمسُّک بالعامّ فیه؛ لانعقاد ظهوره أوّلاً فی عموم العلماء الفُسّاق منهم والعدول، وبعد صدور المخصِّص المنفصل ترفع الید عن ظهوره بالنسبة الی الفرد المعلوم فسقه، وأمّا المشکوک فسقه فلا وجه لرفع الید
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 346 عن ظهور العامّ بالنسبة إلیه مع شموله له قطعاً.
وبالجملة : لم یُعلم دخول ذاک الفرد تحت الخاصّ حتّیٰ یُزاحم العامّ فی ظهوره، فهو من قبیل مُزاحمة الحجّة بلا حجّة. انتهیٰ.
أقول : یرد علیه : أنّ العامّ قاصر عن الحجّیّة بالنسبة إلیٰ الفرد المشکوک دخوله تحت الخاصّ.
توضیح ذلک : أنّه لا ریب فی أنّه لا یصحّ التمسُّک بالعامّ إلاّ فیما یجری فیه أصالة الجدّ، وهی إنّما تجری فیما تجری فیه أصالتا الحقیقة والظهور، ففی العامّ الغیر المخصَّص الاُصول الثلاثة جاریة : أمّا أصالتا الحقیقة والظهور فواضح، وأمّا أصالة الجدّ فلبناء العقلاء علیٰ تطابق الجدّ والاستعمال فیه، ولا ریب فی أنّ العامّ فیه مستعمل فی معناه الحقیقی، واستقرّ بناؤهم ـ أیضاً ـ علیٰ أن العموم مراد جدّی له، وأنّه لم یُتکلّم به هَزْلاً ولَغْواً، کما لا یخفیٰ.
وأمّا فیما نحن فیه؛ أی العامّ المخصَّص بالخاصّ المنفصل المبیَّن مفهومه، ولکن شُکّ فی فرد أنّه مصداق له أو لا، فکلُّ واحدٍ من مفردات جملة «أکرم العلماء» ـ أی العامّ ـ و«لا تکرم الفسّاق منهم» ـ أی الخاصّ ـ مستعملٌ فی معناه الحقیقی الموضوع له، ولیس لمجموعهما وضع علیٰ حِدة، فأصالتا الحقیقة والظهور جاریتان فیها؛ لأنّ المفروض أنّ المعنیٰ اللُّغوی لکلٍّ من المفردات معلوم مبیّن واضح، لکن لا تجری هنا أصالة الجدّ بالنسبة إلی الفرد المشکوک أنّه من أفراد الخاصّ، لا فی العامّ، ولا فی الخاصّ:
أمّا فی العامّ : فلأنّ بناء العقلاء علیٰ حمل العامّ علیٰ الجدّ وعدم الهَزْل إنّما هو فیما لم یکن مخصَّصاً، وأمّا مع تخصیصه فلا.
وأمّا فی الخاصّ : فلأنّ المفروض أنّ انطباقه علیٰ الفرد المشکوک فسقه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 347 مشکوک فیه، فلا تجری أصالة الجدّ فیه أیضاً.
وبالجملة : مع العلم الاجمالی بأنّ الفرد المشکوک فسقه إمّا داخل تحت مفهوم العامّ أو الخاص، ولیس واحدٌ منهما حجّة فیه، فلیس ما نحن فیه من قبیل مزاحمة الحجّة مع اللاحجّة؛ لعدم حجّیّة العامّ فیه کالخاصّ، فما ذکره المستدلّ ـ من أنّ العامّ بعمومه یشمل الفرد المشکوک فی مصداقیّته، وأنّه حجّة فیه دون الخاصّ ـ فهو غیر صحیح؛ لما ذکرناه من أنّه لا یکفی مجرّد العموم والظهور فی ذلک ما لم تجرِ فیه أصالة الجدّ وبناء العقلاء علیه، وهو ممنوع.
فانقدح بذلک : الفرق بین الشبهة المصداقیّة للمخصِّص وبین الشبهة المفهومیّة له فی المخصِّص المتّصل، فإنّه لیس فی الثانی إلا ظهور واحد وموضوع واحد للحکم، وإجمال مفهوم المخصِّص المتّصل یسری إلی العامّ فیه، فیصیر ـ أیضاً ـ مجملاً، فلا یصحّ التمسُّک بعمومه أیضاً.
وأمّا فی المخصِّص المنفصل فإنّه ینعقد للعامّ ظهور فی العموم ابتداءً، ولا تجری أصالتا الحقیقة والظهور فی الخاصّ؛ لأنّ المفروض أنّ مفهومه مجمل، ولا ینعقد له ظهور أصلاً، بخلاف العامّ؛ حیث إنّه ینعقد له ظهور فی الابتداء، وتجری فیه أصالتا الحقیقة والظهور، وتجری فیه أصالة الجدّ بالنسبة إلیٰ غیر المتیقِّن دخوله تحت الخاصّ، فهو حجّة فی الفرد المشکوک من جهة الشبهة المفهومیّة للمخصِّص، بخلاف ما نحن فیه؛ أی الشبهة المصداقیّة، کما عرفت.
وقال المحقّق العراقی قدس سره فی وجه عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة ما حاصله: إنّ الظهور الذی یمکن الاحتجاج به هو الظهور التصدیقی، لا التصوّری، وهو إنّما یتحقّق فیما إذا کان المتکلِّم فی مقام الإفادة والاستفادة، وبصدد إبراز مرامه وإظهار مراده، وهو ـ أیضاً ـ إنّما یتحقّق إذا التفت إلیٰ مرامه، ولیس هو ملتفتاً إلیٰ الموضوعات الخارجیّة وخصوصیّاتها الشخصیّة؛ لیکون بصدد
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 348 بیان أحکامها، وحینئذٍ فلا یصحّ الاحتجاج بالعامّ فی فرد یشکّ فی دخوله تحت عنوان الخاصّ.
ثمّ قال : وهذا هو مراد شیخنا فی «الکفایة» والشیخ الأنصاریأیضاً. انتهیٰ خلاصة کلامه.
أقول : الموضوع لحکم العامّ ـ الذی فرض أنّ المتکلّم بصدد بیان أحکامه ـ هو الأفراد الخارجیّة بعنوان «کلّ عالم» ـ مثلاً ـ ولا یستلزم ذلک لحاظ خصوصیّات الأفراد حسباً ونسباً وعوارضها الشخصیّة؛ بأن یُلاحظ کلّ واحد من زید وعمرو فی «أکرم کلّ عالم» ـ مثلاً ـ فإنّ الموضوع فی جمیع القضایا الحقیقیّة والخارجیّة هو الأفراد، کما فی قولنا: «کلّ نار حارّة» ونحوه، ولا یستلزم ذلک تصوُّر کلّ فرد فرد من النار بخصوصیّاتها؛ کیف؟! وقد لا یوجد فرد منه فی الخارج، مع وجود الحکم المتعلِّق بالعامّ.
وبالجملة : إنّما تتعلّق الأحکام بالأفراد والحاکم متعرّض لها وملتفت إلیها بدون استلزامه للالتفات إلیٰ خصوص زید وعمرو وغیرهما.
مع أنّه یَرِد علیه النقض بما لو فرض أنّ المتکلّم قال : «أکرم کلَّ عالم»، ثمّ قال: «لا تکرم الفُسّاقَ منهم»، واعتقد أنّ زیداً ـ الذی هو عالم ـ فاسقٌ، واعتقد المکلّف بخلافه، وفرض أنّه الصواب، فهل یصحّ للعبد الاحتجاج علیٰ المولیٰ فی ترک إکرامه: بأنّک کنت معتقداً بفسقه؟! حاشا وکلاّ .
وأمّا ما ذکره الشیخ قدس سره فحاصله : أنّه إنّما یصحّ التمسُّک بظهور کلام المتکلّم إذا کان بصدد بیان ذلک، لا فی غیره، فلو فُرض أنّه بصدد بیان وجوب إکرام العلماء،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 349 فقال: «أکرم العلماء»، صحّ التمسُّک والاحتجاج بظهور کلامه فی وجوب إکرام زید العالم، ولو شک فی أنّه عالم أو لا، لا یصحّ التمسُّک بالظهور والاحتجاج به؛ لأنّه لیس بصدد بیان أنّ زیداً عالم أو لا، وهذا حقّ لا ریب فیه، لکن لا ربط له بما ذکره، بل الظاهر أنّ مراد صاحب الکفایة هو ما ذکرناه من البیان الذی یقرب ممّا ذکره الشیخ قدس سره.
ولا فرق فیما ذکرناه ـ من عدم جواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص ـ بین المخصِّص اللفظی واللُّبّی کالإجماع وحکم العقل، فلو قال المولیٰ: «أکرم جیرانی»، وقطع العبد بأنّه لا یرید أعداءهم منهم، فلو شَکّ فی عداوة زید له الذی هو جاره، فکما أنّه لا یتمسّک به فی المخصِّص اللفظی فی الشبهة المصداقیّة، فکذلک فی المخصِّص اللُّبّی، ولیس بناء العقلاء علیٰ التمسُّک بالعموم لوجوب إکرام زید المذکور، کما فی «الکفایة» فی المخصِّص اللُّبّی، الذی لا یصحّ أن یتّکل علیه المتکلّم؛ لانفصاله وعدم احتفاف الکلام به.
فظهر : أنّ محطّ البحث فی المخصِّص اللُّبّی هو ما إذا فُرض خروج عدّة من أفراد العامّ بمخصِّص؛ بعنوان خاصّ بتلک الأفراد، وشُکّ فی فرد أنّه من مصادیق ذلک العنوان الُمخرَج عن العامّ، أو لا.
وحینئذٍ یظهر ما فی کلام المحقّق المیرزا النائینی قدس سره حیث قال ـ علی ما فی التقریرات ـ ما حاصله : أنّ العنوان الُمخرَج بالتخصیص اللُّبّی إذا کان من العناوین التی لا تصلح إلاّ لتقیید الموضوع به، مثل (انظروا إلیٰ رجل قد رویٰ حدیثنا...) إلخ؛
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 350 حیث إنّه عامّ یشمل العادل وغیره، إلاّ أنّه قام الإجماع علیٰ اعتبار العدالة فی المجتهد الذی یُرجع إلیه فی القضاء، فإنّ العدالة قید للموضوع فیه، فلا فرق فی ذلک بین المخصِّص اللُّبّی وبین اللفظیّ فی عدم جواز التمسُّک فیه بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، وإلاّ ـ أی وإن لم یکن الُمخرج من العناوین التی لا تصلح إلاّ أن تکون قیداً للموضوع بل تصلح لتقید الحکم لا الموضوع ـ یجوز التمسُّک فیه فیها بالعامّ، مثل (لعن الله بنی اُمیّة قاطبةً)؛ حیث إنّ العقل حاکم بأنّ الحکم لا یعمّ المؤمن منهم؛ لأنّ اللعن لا یُصیب المؤمن، فلو علمنا من الخارج: أنّ خالد بن سعید ـ مثلاً ـ مؤمن، فهو لا یندرج تحت هذا العامّ، ولکن المتکلّم لم ینبِّه علیٰ ذلک؛ لمصلحة مقتضیة لذلک، أو للغفلة عن ذلک، کما یتّفق ذلک فی الموالی العرفیّة، فلا یجوز لعنه، وإذا شککنا فی إیمان فرد من بنی اُمیّة صحّ التمسُّک فیه بالعموم، ویستکشف منه أنّه غیر مؤمن، فأصالة العموم فیه جاریة، ویکون المعلوم خروجه من التخصیصات الفردیّة؛ حیث إنّه لم یؤخذ العنوان قیداً للموضوع، ولم یخرج من العموم إلاّ بعض الأفراد.
والسرّ فی ذلک : أنّ ملاکَ الحکم فی الفرض الأوّل وتطبیق العنوان علیٰ مصادیقه، من وظیفة المکلّف والمخاطب وفی عهدته، وفی الفرض الثانی من وظیفة المتکلّم وفی عهدته لا المخاطب، وحیث إنّ إحراز وجود الملاک فی الثانی من وظیفة المتکلّم، کالبغض لأهل البیت والعداوة لهم علیهم السلام فی المثال، ولا یصلح إلقاء هذا العموم إلاّ بعد إحراز ذلک ، أمکن وصحّ التمسّک بالعموم فی الفرد المشتبِه. انتهیٰ ملخّصاً.
وجه ظهور الفساد : أنّ ذلک خروج عن محطّ البحث؛ لما عرفت من أنّ محلّ البحث هنا: هو ما إذا کان الإخراج بالمخصّص اللُّبّی، وشُکّ فی فرد أنّه من مصادیق ذاک العنوان الُمخرَج أو لا وما ذکره فی الفرض الثانی ـ الذی ذکره ـ لیس کذلک، فإنّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 351 مرجعه إلیٰ الشکّ فی التخصیص الزائد وعدمه، ولا ارتباط له بالمقام.
ثمّ إنّه استُدلّ أیضاً ـ المستدلّ المحقّق النهاوندی قدس سره علیٰ ما حُکی ـ لجواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص : بأنّ قول القائل: «أکرم العلماء» یدلّ بعمومه الأفرادی علیٰ وجوب إکرام کلّ واحد من العلماء، وبإطلاقه اللحاظی علیٰ سرایة الحکم إلیٰ جمیع حالات الأفراد التی تعرض علیها، ومن جملة تلک الحالات کون فرد مشکوک الفسق والعدالة، کما أنّ من جملتها معلومیّة العدالة أو الفسق، وبقوله: «لا تُکرم الفُسّاق منهم» خرج من هو معلوم الفسق منهم، ولم یُعلم خروج الباقین، فمقتضیٰ أصالة العموم والإطلاق بقاء المشکوک تحت حکم العامّ. انتهیٰ.
أقول : إن أراد قدس سره إثبات الحکم الواقعی للفرد المشکوک بالإطلاق اللحاظی، فمرجعه إلیٰ إثبات حکمین واقعیّین مختلفین فعلیّین لفرد واحد بعنوان واحد فی بعض التقادیر، وهذا محال؛ وذلک لأنّه إذا فُرض أنّ الفرد المشکوک فسقه فاسق واقعاً، فیشمله «لا تکرم الفسّاق»؛ لأنّ حرمة الإکرام متعلّقة بالفسّاق الواقعیّین والمفروض أنّ هذا الفرد فاسق واقعاً، فهو محرّم الإکرام، فلو حکم بأنّه واجب الإکرام بحکم العامّ بعنوانه الواقعی بالإطلاق اللحاظی، لزم ما ذکرنا؛ ضرورة أنّ المراد بالإطلاق المذکور هو أنّ الأفراد محکومة بحکم العامّ بعنوانها الواقعی.
مضافاً إلی ما عرفت مراراً: أنّ الإطلاق اللحاظی هو معنی العموم، ولیس للإطلاق إلاّ قسم واحد، وهو أنّ تمام الموضوع للحکم هو هذا، من دون دَخْل شیءٍ فیه، ولو تُمسّک بالإطلاق بهذا المعنیٰ لإثبات وجوب الإکرام واقعاً للفرد المشکوک ـ أیضاً ـ لزم ما ذکرناه فی بعض التقادیر.
وإن أراد التمسُّک بالإطلاق لإثبات الحکم الظاهری؛ من وجوب الإکرام للفرد المشکوک، فإن اُخذ فی موضوعه الشکّ فی الفسق؛ بأن یقال: إنّ الفرد المشکوک فسقه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 352 محکوم بوجوب الإکرام ظاهراً، فهو خلاف ما اصطلحوا علیه من الحکم الظاهری، فإنّ الحکم الظاهری المصطلح هو الذی اُخذ فی موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی لا غیر ذلک.
وإن أراد أنّه اُخذ فی موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی؛ بأن یقال: إنّ الفرد المشکوک أنّه من أفراد الخاصّ ـ من حیث إنّه مشکوک الحکم بوجوب الإکرام واقعاً ـ محکوم بأنّه واجب الإکرام ظاهراً، فهو وإن سَلِمَ عن الإشکال المذکور، لکن لا یمکن إنشاء حکمین ـ أحدهما الواقعی علیٰ أفراد العلماء العدول، وثانیهما الظاهری بالنسبة إلی الفرد المشکوک ـ بإنشاء واحد، فالاستدلال المذکور لجواز التمسُّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصِّص، أسوء حالاً ممّا ذکرناه وقدّمناه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 353