الفصل الثالث فی مفهوم الغایة
هل الحکم المُغیّیٰ بغایة یدلّ علی انتفائه عمّا بعد الغایة، بناءً علیٰ دخول الغایة فی المغیّیٰ، أو عنها وما بعدها؛ بناءً علیٰ خروجها؛ بحیث یعارض ما لو صرّح بثبوت الحکم لما بعدها أو لا؟ فیه خلاف.
والحقّ هو التفصیل ـ کما اختاره کثیر منهم ـ بأنّه لو جعلت الغایة قیداً للموضوع ـ بأن لاحظ الآمر الموضوع مقیّداً بغایة، کالسیر المقیّد إلی الکوفة، وعلّق علیه الحکم ـ فلا مفهوم لها، ولا تدلّ ـ حینئذٍ ـ علیٰ انتفاء سِنْخ الحکم عمّا بعدها، حتّیٰ أنّه لو صرّح بثبوته لما بعدها لم یناقض الحکم الأوّل، فهو مثل مفهوم الوصف.
بل ذکر الشیخ الأعظم قدس سره : أنّه لیس المراد بالوصف النعت الاصطلاحی، بل یشمل مثل الحال والتمییز، فتشمل الصفةُ بهذا المعنی الغایة التی اُخذت قیداً للموضوع، فإذا لم یکن للوصف مفهوم فالغایة کذلک أیضاً، بل مفهوم الغایة أضعف
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 313 من مفهوم الوصف.
وإن کانت الغایة غایة للحکم فتدلّ علیٰ انتفاء سنخ الحکم عمّا بعد الغایة؛ بحیث لو صرّح بثبوته لما بعدها لناقضها.
وقد ذکروا لبیان ذلک تقریبات، أوجهها ماذکره فی «الدرر»، وحاصله: أنّه قد ثبت فی محلّه: أنّ الهیئة فی الأوامر موضوعة للطلب الحقیقی وطبیعة الطلب، والمفروض أنّه قُیِّد الطلب الحقیقی بغایة معیّنة، مثل: «اجلس إلی الظهر»، فحقیقة وجوب الجلوس إنّما هی إلی الظهر، ویلزم ذلک انتفاء الوجوب بعد الظهر، وإلاّ یلزم عدم ما جعل غایة بغایة.
لکنّه قدس سره عدل عن ذلک فی أواخر عمره الشریف، وقال ما حاصله: إنّ ما ذکرناه من البیان لإثبات مفهوم الغایة لایفی لإثباته؛ لأنّه لاریب فی أنّ لکلّ حکم علّةً وسبباً یمتنع الحکم بدونه، فإنْ فُرض أنّ وجوب الجلوس إلی الظهر معلول لعلّة مُنحصرة له دلّ ذلک علی المفهوم، وأمّا إذا فُرض أنّها لیست بمنحصرة فلا تدلّ علیه؛ وذلک لأنّ المعلول لکلّ علّة لا مطلقٌ بالنسبة إلی العلّة، ولا مقیَّد بها، لکن له ضیق ذاتیّ بها، ولا یمکن أن یکون أوسع من علّته وبالعکس.
وبالجملة : لابدّ فی ثبوت المفهوم للغایة من إحراز أنّ علّة الحکم منحصرة، وأمّا بدونه فلا مفهوم لها، انتهیٰ.
أقول : لو سلّمنا : أنّ هیئة الأمر موضوعة لحقیقة الطلب وطبیعته، فالحقّ هو ما ذکره أوّلاً من ثبوت المفهوم للغایة؛ لأنّه لاریب فی أنّ الحکم المُغیّی بغایة، ظاهر عرفاً فی انتفائه عمّا بعدها، وهذا الظهور العرفیّ ممّا لاریب فیه، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ الأحکام الشرعیّة مُسبَّبات عن أسباب وعلل موجبة لها، وأنّ العرف والعقلاء
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 314 ـ أیضاً ـ یُدرکون ذلک کشف هذا الظهور عن أنّ العلّة منحصرة.
وإن قلنا : إنّهم لا یُدرکون ذلک فلا مصادم لهذا الظهور أیضاً. وعلیٰ أیّ تقدیر فالظهور العرفی باقٍ بحاله، ولا مصادم له، وهو کافٍ فی المقام.
وکأنّه قدس سره زعم أنّ المفهوم فی باب الغایة مثل المفهوم للشرط؛ فی أنّه ناشٍ عن العِلّیّة المُنحصرة للشرط أو الموضوع، لکن لیس کذلک، فإنّ استفادة العِلّیّة المُنحصرة والمفهوم من الشرطیّة، إنّما هو لأجل أنّها موضوعة لذلک، أو لاقتضاء الإطلاق لهما، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ استفادة المفهوم إنّما هی لأجل الظهور العرفی فی ذلک.
هذا لو قلنا بأنّ هیئات الأوامر موضوعة لحقیقة الطلب، لکنّه ممنوع؛ لما عرفت فی المعانی الحرفیة [من] أنّها جزئیّة دائماً، وأنّ هیئات الأوامر موضوعة لإیقاع البعث وإیجاده، کما أنّ أحرف النداء موضوعة لإیقاع النداء وإیجاده، فهی موضوعة لمعنیً جزئیّ؛ أی ما یصدق علیه إیجاد النداء، ولیست مثل المعانی الاسمیّة فی أنّ لها معنیً کلّیّاً ومعنیً جزئیّاً، بل معانیها جزئیّة دائماً، ولکن یکفی فی ثبوت المفهوم للغایة انتزاع الوجوب ـ بلا قید الکلّیّة والجزئیّة عرفاً ـ من إیجاد البعث فی الخارج، فیقولون: إنّه أوجب الجلوس إلی الظهر ـ مثلاً ـ فیدلّ علیٰ أنّه لا وجوب للجلوس بعد الظهر، بدون أن یتفطّن ویستشعر أنّ معنیٰ الهیئة جزئیّ، وهو کافٍ فی ثبوت المفهوم.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 315