التنبیه الثانی : فی تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء
إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، مثل : «إذا خَفِی الأذان فقصِّرْ، وإذا خَفیت الجُدران فقصِّر»، فبناءً علی ظهور الجملة الشرطیّة فی المفهوم یقع التعارض بینهما، والبحث هنا فی مقامین :
المقام الأوّل : أنّ التعارض هل هو بین المنطوقین؛ حیث إنّه یدلّ کلّ واحد منهما علی الانحصار، فلا یمکن صدقهما معاً، أو بین مفهوم أحدهما ومنطوق الآخر؛ لأنّ مفهوم قوله: «إذا خَفِی الأذان فقصِّر» بناءً علیٰ إفادته الانحصار، أنّه إذا لم یخف فلا یجب أنْ یُقصِّرْ وإن خَفیت الجُدران، ویدلّ منطوق قوله: «إذا خَفِی الجُدران فقصِّرْ» علیٰ أنّ خفاء الجُدران موجب للقصر، فالتعارض بین مفهوم الأوّل ومنطوق الثانی.
فنقول : إنّ دلالة الشرطیّة علیٰ المفهوم : إمّا بالوضع وأنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة المُنحصرة، أو لانصرافها إلیٰ العِلّیّة المُنحصرة، مع أنّها موضوعة للعِلّیّة التامّة، أو لاستفادة الانحصار من مقدّمات الحکمة والإطلاق.
فعلیٰ الأوّل یقع التعارض بین المنطوقین؛ لأنّ أصالة الحقیقة فی کلّ واحد منهما تُعارضها فی الآخر، والمفروض أنّه لا مُرجِّح لأحدهما علی الآخر، فیتساقطان.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 286 وکذلک علی الثانی؛ أی استفادة الانحصار من الانصراف، فإنّ الانصراف فی کلّ واحد منهما یُعارض الآخر، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ أدوات الشرط موضوعة للثبوت عند الثبوت، تبقیٰ العلّیّة التامّة لکلّ واحد منهما، ویرفع الید عن الانحصار، وإلاّ یصیر الکلام مجملاً، والمرجع ـ حینئذٍ ـ هو الاُصول العملیّة.
وأمّا بناءً علی الثالث فالتعارض یقع بین أصلین عقلائیّین، وهما أصالة الإطلاق فی کلّ واحد منهما، وعلیٰ أیّ تقدیر: فلیس التعارض ـ حینئذٍ ـ بین مفهوم أحدهما ومنطوق الآخر، بل بین المنطوقین.
المقام الثانی : فی بیان علاج التعارض: ولابدّ فیه من التصرّف ورفع الید عن الظهور: إمّا بتخصیص مفهوم کلّ واحد منهما بمنطوق الآخر، ویحکم بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطین معاً، برفع الید عن المفهوم فیهما فالشرط هو خفاء أحدهما، أو بتقیید إطلاق الشرط فی کلّ واحد منهما، فالشرط ـ حینئذٍ ـ هو خفاء الأذان والجُدران معاً، وامّا بجعل الشرط هو القدر الجامع المشترک بینهما . وجوه.
والتحقیق أن یقال : إنّه إن قلنا : إنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة المُنحصرة، وإنّها المتبادِر منها، فأصالة الحقیقة فی کلّ واحد منهما معارِضة لها فی الآخر، فلابدّ من رفع الید عنها فیهما، فیُرجع إلی الأصل العملیّ.
وأمّا رفع الید عن الانحصار فقط، وحمل کلّ واحد من الشرطین علی العِلّیّة التامّة؛ لأنّها أقرب المجازات للمعنیٰ الحقیقی، وهو العِلّیّة المنحصرة. فغیر سدید؛ لأنّه یعتبر فی الحمل علیٰ أقرب المجازات ـ بعد تعذُّر إرادة المعنیٰ الحقیقی ـ أن تکون الأقربیّة إلیه بحسب اُنس الذهن الحاصل بکثرة الاستعمال، والعِلّیّة التامّة وإن کانت أقرب إلی العِلّیّة المنحصرة، لکن لیس لأجل اُنس الذهن؛ کی تحمل علیها.
وإن قلنا : إنّ الانحصار مستفاد من الانصراف إلی العِلّیّة المنحصرة یقع التعارض بین الانصرافین، فلابدّ من رفع الید عن العِلّیّة المنحصرة، وحینئذٍ فإن قلنا:
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 287 إنّ أدوات الشرط موضوعة للثبوت عند الثبوت، تبقیٰ العِلّیّة التامّة فی کلّ واحد منهما ـ أی من الشرطین ـ بحالها، وإلاّ یقع الإجمال، والمرجع ـ حینئذٍ ـ الاُصول العملیّة.
وإن قلنا : بأنّ الانحصار مستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحکمة: فإن قلنا : إنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة التامّة وأنّ التمسُّک بالإطلاق إنّما هو لإثبات الانحصار فقط، فلابدّ من رفع الید عن الانحصار فقط مع بقاء العلّیّة التامّة لکلٍّ منهما؛ لأنّ التعارض ـ حینئذٍ ـ بین أصالتی الإطلاق فی کلّ واحد منهما؛ لأنّ قوله: «إذا خفی الجدران فقصّر» معناه: أنّ تمام الموضوع المنحصر لوجوب القصر هو خفاء الجدران، وقوله: «إذا خفی الأذان فقصّر» أیضاً معناه: أنّ تمام الموضوع المنحصر لوجوبه هو خفاء الأذان، فیقع التعارض بین الإطلاقین المستفاد منهما الانحصار.
وأمّا لو فرض استفادة العِلّیّة التامّة ـ أیضاً ـ من الإطلاق، فهنا احتمالان:
أحدهما : احتمال دخل الشرطین معاً فی الجزاء، وأنّهما معاً علّة واحدة، وکلّ واحد منهما جزء العلّة، فیدفع هذا الاحتمال بالتمسُّک بالإطلاق.
الثانی : احتمال عدم الانحصار ـ أی عدم کون خفاء الأذان علّة مُنحصرة، واحتُمل أن یکون له عِدْل ینوب عنه فی ترتُّب الجزاء علیه ـ فیندفع هذا الاحتمال ـ أیضاً ـ بالإطلاق، فیقع التعارض بین الإطلاقین، فیدور الأمر بین تقیید الإطلاق الأوّل ورفع الید عنه، ویلزمه رفع الید عن الإطلاق الثانی والانحصار أیضاً؛ لأنّه لا معنیٰ للانحصار مع عدم العلیّة التامّة، فرفع الید عن الانحصار إنّما هو لأجل رفع موضوعه، وهو العلّیّة التامّة، وبین تقیید الإطلاق الثانی ورفع الید عن الانحصار فقط مع بقاء العِلّیّة التامّة؛ للعلم الإجمالی بعدم إرادة أحد الإطلاقین وعدم إرادتهما معاً؛ لمکان التعارض بینهما، فیمکن أن یقال: بأنّ العلم الإجمالی ینحلّ : إلی العلم التفصیلی برفع الید عن الانحصار، والشکِّ البدوی بالنسبة إلی تقیید الإطلاق الأوّل ورفع الید عن العلّیّة التامّة، فیُتمسّک فیه بالإطلاق.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 288 ونظیر ذلک دوران الأمر بین تقیید الإطلاق وتخصیص العامّ لو اجتمعا وتعارضا، کما لو قال : «أکرم العلماء»، فإنّ «العلماء» عامّ فی أفراده، والأفراد ـ أیضاً ـ کلّ واحد منها مطلق بالنسبة إلی حالاته، وعُلم من الخارج إجمالاً: إمّا بتقیید الإطلاق؛ بخروج زید عن هذا الحکم یوم الجمعة، وإمّا بتخصیص العامّ؛ بخروجه عن حکم العامّ رأساً، فیقال: إنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ: إلی العلم التفصیلی بتقیید الإطلاق المذکور، وعدم وجوب إکرام زید یوم الجمعة فقط، والشکّ البدوی فی تخصیص العامّ بإخراج زیدٍ عنه رأساً، فیُتمسّک فیه بالعموم.
وکذلک فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، فإنّه ـ بوجه بعید ـ نظیرُ ما نحن فیه، فإنّ العلم الإجمالی إمّا بوجوب الأقل أو الأکثر ینحلّ: إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقل، والشکّ البدوی فی وجوب الأکثر، فیُتمسّک فی نفی وجوب الأکثر بأصالة البراءة، ویُؤخذ بالأقلّ؛ لأنّه الواجب علیٰ کلّ تقدیر.
واستشکل علیه فی «الکفایة» : بأنّ الانحلال المذکور مستلزم للدور؛ وذلک لأنّ انحلاله موقوف علی وجوب الأقلّ علیٰ کلّ تقدیر، ومن التقادیر هو تقدیر وجوب الأکثر، ووجوبه موقوف علیٰ بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، فانحلاله موقوف علیٰ عدم انحلاله.
لکن علیٰ فرض صحّة ما ذکره من لزوم الدور فی الأقلّ والأکثر، لیس ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّه لیس المدّعیٰ فیه انحلال العلم الإجمالی إلیٰ العلم التفصیلی والشکّ البدویّ، فإنّ مورد انحلاله هو ما إذا عُلم تفصیلاً ابتداءً ومن الأوّل، وکان الإجمال بدْویّاً وفی بادی النظر، وأمّا فیما نحن فیه فالعلم الإجمالی باقٍ بحاله مع العلم التفصیلی أیضاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 289 والسرّ فیه : أنّه لیس فیه انحلال إلیهما، بل یتولّد من العلم الإجمالی برفع الید عن أحد الإطلاقین، علمٌ تفصیلیّ برفع الید عن الإطلاق الثانی والانحصار: إمّا برفعه بنفسه؛ وإمّا برفعه لرفع موضوعه؛ أی العلّیّة التامّة؛ لأنّه لا یعقل الانحصار مع عدم العِلِّیّة التامّة، ومقتضیٰ بقاء العلم الإجمالیّ هو عدم جواز التمسُّک بأحد الإطلاقین، فیصیر مجملاً، فیرجع إلیٰ الاُصول العملیّة. هذا کلّه بالنسبة إلیٰ ملاحظة کلّ واحد من المفهومین مع الآخر.
وأمّا بالنسبة إلی نفی الثالث؛ بأن احتُمل دخْلُ شیء فی موضوع وجوب القصر، وأنّ الموضوع له مرکّب من جزءین، أحدهما خفاء الأذان، أو احتمل العِلّیّة التامّة لشیء آخر، وأنّه عِدلٌ لخفاء الأذان ـ مثلاً ـ فی ترتُّب وجوب القصر علیه، فهل یصحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفیه فی کلا الاحتمالین ، أو لا؟
الحقّ هو التفصیل : وهو أنّه إن قلنا : إنّ أدوات الشرط موضوعة لغةً للعِلّیّة المنحصرة أو منصرفة إلیها، فلا یصحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفی الثالث، سواء احتمل کونه جزء العلّة، أم علّة مُستقلّة؛ لأنّه بعد رفع الید عن ظهورهما بالتعارض رأساً بالعلم بالتقیید فی الجملة، لا یبقیٰ ما به یُنفیٰ الثالث، ولیس للظهور مراتب حتّیٰ یبقیٰ بعض مراتبه بعد رفع الید عن بعضها الآخر.
وإن قلنا : إنّ استفادة العِلّیّة المُنحصرة والمفهوم من الإطلاق ومقدّمات الحکمة، صحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفی الثالث.
وإن علم بتقیید أحدهما إجمالاً کما فی سائر المطلقات، کما لو قال: «أعتق رقبة»، وعلم باعتبار الإیمان فیها بدلیل خاصّ، وشکّ فی اعتبار وصف آخر، فإنّه یصحّ التمسّک بإطلاقها لنفی المشکوک اعتباره، وما نحن فیه من هذا القبیل.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 290