الفصل الرابع عشر فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط
هل یجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه؟ وقبل الخوض فی المطلب یقع الکلام فی محطّ البحث، وأنّه ماذا؟ فإنّه یتصوّر علیٰ وجوه :
الأوّل : أنّه یحتمل أن یراد بالإمکان فیه هو الإمکان الذاتیّ؛ بأن یقال: هل یمکن صدور الأمر ذاتاً من الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، أو لا؛ حیث إنّ الأمر من الأفعال الاختیاریّة، فلابدّ له من علّة تامّة مرکّبة من الأجزاء والشرائط، فمع انتفاء الشرط لا یمکن وجود المشروط؟
الثانی : أن یراد بالإمکان الوقوعی منه، ویراد بالشرط شرط الأمر؛ بأن یقال: هل یمکن صدور الأمر ووقوعه فی الخارج من الآمر مع علم الامر بانتفاء شرط الأمر، وأنّه لا یلزم منه فی الخارج محذور، أو لا، بل یلزم من وجوده المحال؟
الثالث : أن یُراد الإمکان الوقوعیّ ـ أیضاً ـ لکن یراد بالشرط شرط المأمور به ومتعلّق الأمر؛ أی شرط وجوده .
الرابع : أن یراد الإمکان الوقوعی ـ أیضاً ـ لکن اُرید من الشرط شرط التکلیف، کقدرة العبد علیٰ الامتثال.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155 وبعبارة اُخریٰ : محلّ البحث هو : أنّه هل یجوز التکلیف بغیر المقدور أو لا؟
الخامس : أن یقال : هل یجوز أمر الآمر وإنشاؤه للتکلیف مع علمه بانتفاء شرط فعلیّة التکلیف أو لا یجوز؟
فنقول : أمّا الأوّل فهو لا یوافق عنوان البحث؛ حیث اُخذ فی عنوانه علم الآمر بانتفاء الشرط، فإنّه علیه لا وجه للتقیید بالعلم کما لا یخفیٰ، وکذلک الثانی، وأنّه لابدّ من حذفه إلاّ أن یرجع إلیٰ الثالث.
وأمّا الثالث فهو ممکن، والبحث فیه معقول، ولذلک وقع البحث فیه بین الأشاعرة والمعتزلة.
وکذلک الرابع والخامس ؛ بأن یقال : هل یجوز إنشاء التکلیف مع العلم بعدم حصول شرط التکلیف أبداً، کعدم النسخ، کما یظهر من استدلال الأشاعرة لجواز ذلک بقضیة أمر إبراهیم علیه السلام بذبح ولده، فإنّه تعالیٰ أمره بذبح ابنه مع علمه تعالیٰ بعدم وجود شرط فعلیّة وجوب الذبح، وهو عدم النسخ.
وحینئذٍ فنقول : إنّ هذا البحث من المعتزلة والأشاعرة من شُعب النزاع فی اتّحاد الطلب والإرادة، فذهبت الأشاعرة إلیٰ تغایرهما، وأنّ فی النفس ما یسمّونه کلاماً نفسیّاً، والطلب هو الإنشائی منه، وأنّه یمکن أن یطلب المولیٰ شیئاً وینشئه، لکن لم تتعلّق إرادته به؛ حیث إنّه لو تعلّقت إرادته به لزم المحال، وهو تخلُّف المراد عن الإرادة، فذهبوا إلیٰ جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه، وحیث إنّ الإمامیّة والمعتزلة ذهبوا إلیٰ اتّحادهما مصداقاً ـ وأنّه لا شیء فی النفس غیر الإرادة وما هو مبدأٌ للطلب فیما نحن فیه، وأنّ مبدأه ومنشأه هی الإرادة فقط ـ ذهبوا إلیٰ عدم جواز
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 156 أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه؛ لعدم ما هو منشأ ومبدأ له فی النفس، فإنّ البعث الحقیقی إنّما هو للانبعاث، فمع العلم بعدم انبعاث المکلّف لعدم شرطه یقبح البعث، فلا یمکن صدوره من المولیٰ الحکیم.
ولکنّه مبنیّ علی القول بانحلال التکالیف الکلّیة والعامّة المتوجّهة إلیٰ العموم إلیٰ تکالیف جزئیّة متوجّهة إلیٰ آحاد المکلّفین، لکن قد عرفت ما فیه.
توضیح ذلک : أنّک قد عرفت أنّ البعث الحقیقیّ لا یمکن بالنسبة إلیٰ الشخص العاجز الغیر القادر، ولا یصحّ للشارع بعثه إلیٰ الغیر المقدور له، وکذا بالنسبة إلیٰ من یعلم أنّه لا ینبعث، وکذلک بالنسبة إلیٰ من یعلم الآمر بأنّه یأتی بالمأمور به وإن لم یأمره به فی التوصُّلیّات، وکذلک بالنسبة إلیٰ خصوص المکلّف الذی یکون المأمور به خارجاً عن مورد ابتلائه؛ کلّ ذلک لأجل أنّ غایة البعث والزجر الحقیقیّین هو انبعاث المکلّف إلیٰ المأمور به وانزجاره عن المنهی عنه، اللذان هما غایتان للبعث والزجر ومبدآن لهما، المنتفیان فی هذه الموارد، فیمتنع البعث والزجر إلیٰ أشخاص هؤلاء المکلّفین؛ لعدم المبدأ والمنشأ لهما، فلو انحلت الأوامر والنواهی الکلّیّة القانونیّة المتوجّهة إلیٰ عموم المکلّفین إلیٰ أوامر ونواهٍ جزئیّة متوجّهة إلیٰ آحاد المکلّفین وأشخاصهم، لزم الالتزام بعدم ثبوت الأحکام للعاجزین والجاهلین القاصرین، وکذلک العاصین والآتین بالمأمور به من دون بعث، وهو کما تریٰ لا یلتزم به أحد، فیکشف ذلک عن فساد دعویٰ الانحلال. مضافاً إلیٰ أنّه یؤدّی إلیٰ الاختلال فی الفقه، ویلزم الحکم بعدم نجاسة الخمر الخارج عن مورد الابتلاء، وأن لا تحرم الاُمّ والاُخت الخارجتان عن محلّ ابتلائه، وغیر ذلک من الأحکام التکلیفیّة والوضعیّة، خصوصاً علیٰ مذهب الشیخ قدس سره من أنّ الأحکام الوضعیّة منتزعة عن الأحکام التکلیفیّة،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 157 وقد عرفت أنّ الإرادة متعلّقة بالجعل التشریعیّ والأحکام الکلّیّة، ولیست متوجّهة إلیٰ آحاد المکلّفین وأشخاصهم کلّ واحد علیٰ حدة، وأنّ جمیع المکلّفین بالنسبة إلیٰ الأحکام سواء، غایة الأمر أنّ مثل العاجز والجاهل القاصر معذوران فی مخالفتها عقلاً، وأنّ ملاک قبح جعل الحکم القانونیّ هو عجز جمیع المکلّفین وعدم قدرتهم کلّهم، أو العلم بعدم انبعاث جمیعهم أو خروج المکلّف به عن مورد ابتلاء جمیعهم، فإنّ الجعل ـ حینئذٍ ـ لغوٌ ومستحیل، وحینئذٍ فلا وجه للاستدلال للقول بعدم الجواز فی المقام بعدم تحقُّق شرط فعلیّته بالنسبة إلیٰ بعض المکلّفین، کما لایخفیٰ.
مضافاً إلیٰ أنّه وقع فی الشریعة ممّا هو من هذا القبیل فإنّ نجاسة أهل الخلاف وکفرهم من الأحکام التی أنشأها الشارع، ولکن لم تبلغ حدّ الفعلیّة، مستودَعةً عند الأئمّة علیهم السلام وصاحب الأمر ـ عجّل الله فرجه ـ حتیٰ یصدر الأمر من الله تعالیٰ بإبلاغها.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 158