المبحث التاسع فی أدلّة وجوب المقدّمة
إذا عرفت ذلک نقول: یمکن تصویر النزاع فی هذه المسألة بصور:
إحداها : أن یُعنون البحث هکذا : هل البعث إلیٰ ذی المقدّمة عین البعث إلیٰ المقدّمة أو لا؟
الثانیة : هل یتولّد ویترشّح من وجوب ذی المقدّمة وجوب متعلّق بالمقدّمة؟
وبعبارة اُخریٰ : هل البعث إلیٰ ذی المقدّمة علّة لبعث آخر متعلّق بالمقدّمة أو لا؟
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 94 الثالثة : أن یقال: هل المقدّمة واجبة؛ بمعنیٰ أنّ المولیٰ لو التفت إلیها بعث إلیها؟
الرابعة : أن یقال: إرادة ذی المقدّمة هل هی علّة لإرادة المقدّمة؛ بحیث تترشّح منها هذه بنحو لازم الماهیّة أو لا ؟
الخامسة : أنّ المرید لذی المقدّمة هل هو مرید للمقدّمة أو لا ؟
هذه هی الوجوه المتصوّرة فی المقام لعنوان البحث .
فنقول : الأقوال فی المسألة مختلفة، والعمدة هو القول بوجوبها مطلقاً فی قبال القول بعدم وجوبها کذلک.
وأمّا التفصیل بین السبب وغیره، أو الشرط وغیره، فلیس بمهمّ، فلا بأس بالإشارة إلیٰ بعض الاستدلالات التی ذکروها لوجوب المقدّمة :
فاستدلّ فی «الکفایة» : بأنّ الوجدان أقویٰ شاهد علی أنّ الإنسان لو أراد شیئاً له مقدّمات أراد تلک المقدّمات ـ أیضاً ـ بحیث لو التفت إلیها ربما یجعلها فی قالب الطلب، ویقول مولویّاً : «ادخلِ السوقَ واشترِ اللحم».. إلی أن قال :
ویُؤیِّد الوجدانَ ـ بل ویکون من أوضح البرهان ـ وجودُ الأوامر الغیریّة فی الشرعیّات والعرفیّات؛ لوضوح أنّه لا یکاد یتعلّق بمقدّمةٍ أمرٌ غیریّ إلاّ أن یکون فیها مناطه وملاکه، وإذا کان فیها کان فی مثلها.
وقال المحقّق العراقی ما حاصله : إنّ الإرادة التشریعیّة علیٰ وِزان الإرادة التکوینیّة، ففی الإرادة التکوینیّة والفاعلیّة من یرید شیئاً یرید ما یتوقّف حصول ذلک
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 95 الشیء علیه أیضاً، فالإرادة التشریعیّة ـ أیضاً ـ کذلک، ولا یمکن إرادة ذی المقدّمة بدون إرادة المقدّمات فی الإرادة المباشریّة التکوینیّة، فالإرادة التشریعیّة کذلک، فثبت أنّ إرادة ذی المقدّمة مستلزمة لإرادة المقدّمة.
أقول : أمّا الإحالة علیٰ الوجدان فهو مجرّد دعویٰ لا شاهد علیها، فیمکن أن یدّعی آخر حکم الوجدان علیٰ خلافه.
وأمّا الاستشهاد بوقوع ذلک فی الشرعیّات والعرفیّات مولویّاً، فهو ممنوع.
وأمّا ما یتراءیٰ فی بعض الموارد من وقوع البعث إلیٰ المقدّمات فی الشریعة المقدّسة أو فی العرفیّات، فهو أمر إرشادی، أو لأجل مصلحة اُخریٰ، أو کنایة أو تأکید للبعث إلیٰ ذی المقدّمة، وإلاّ فمن البدیهیّات أنّه کثیراً ما یبعث المولیٰ عدبه إلیٰ ذی المقدّمة مع الغفلة عن مقدّماته، فضلاً عن البعث إلیها، فإن دعویٰ أنّ البعث إلیٰ ذی المقدّمة هی عین البعث إلیٰ المقدّمة، غیر معقولة؛ فإنّ الأمر بذی المقدّمة لا یدلّ علیٰ ذلک لا بمادّته ولا بهیئته.
وکذلک لا شاهد لدعویٰ الوجوب التقدیری؛ بمعنیٰ أنّه لو التفت إلیها لبعث نحوها، وکذا لا معنیٰ لتولّد إرادة من إرادة اُخریٰ وترشّحها منها.
وأمّا دعویٰ أنّ الإرادة التشریعیّة علیٰ وِزان الإرادة التکوینیّة ـ إلی آخر ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره ـ فهی ـ أیضاً ـ مجرّد دعویٰ لا شاهد علیها ولا برهان، بل البرهان علیٰ خلافها؛ لأنّک بعدما عرفت أنّه لا معنیٰ لتولّد إرادة عن اُخریٰ تعرف أنّ القیاس باطل؛ لأنّ العقل یحکم بأنّ من یرید شیئاً یرید مقدّماته بإرادة مستقلّة؛ لأنّ لکلّ واحد من الإرادتین مبادی علیٰ حدة من التصوّر والتصدیق بالفائدة بلا فرق بینهما أصلاً، وأمّا المولیٰ فیرید البعث إلیٰ ذی المقدّمة لوجود مبادیه فی نفسه، ولا یرید
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 96 البعث إلیٰ المقدّمات لعدم وجود مبادیها فی نفسه، بل هی موجودة فی نفس العبد، ومعه لا فائدة للبعث نحو المقدّمة.
واستدلّ أبو الحسین البصری لوجوب المقدّمة : بأنّها لو لم تجب لجاز ترکها، وحینئذٍ فإن بقی الواجب علیٰ وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق، وإلاّ خرج الواجب عن کونه واجباً.
واُرود علیه :
أوّلاً : بالنقض بالمتلازمین فی الوجود اللذینِ فی أحدهما ملاک الوجوب دون الآخر، فالأوّل واجب، فنقول :
لایخلو إمّا أن یجب الآخر ـ أیضاً ـ أو لا، فعلیٰ الأوّل یلزم وجوب الشیء بلا ملاک، وإلاّ لزم خروج الواجب عن کونه واجباً؛ لأنّ المفروض أنّهما متلازمان فی الوجود لا یمکن انفکاکهما، فما هو الجواب عن هذا هو الجواب عمّا ذکره.
وثانیاً : بالحلّ ـ کما فی «الکفایة»ـ بعد إصلاح ظاهر الاستدلال: بإرادة عدم المنع الشرعی من جواز الترک، وإلاّ فالشرطیّة الاُولیٰ واضحة الفساد، وبإرادة الترک من الظرف ـ وهو قوله : «وحینئذٍ» ـ وإلاّ فالشرطیّة الثانیة واضحة الفساد؛ بأنّ الترک بمجرّد عدم المنع شرعاً لا یوجب صدق الشرطیّة الثانیة حینئذٍ، ولا یلزم منه أحد المحذورین، فإنّه وإن لم یبقَ وجوب معه، إلاّ أنّه بالعصیان المستتبع للعقاب؛ لتمکّنه من الإطاعة بالإتیان به مع مقدّماته، وقد اختار ترکه بترک مقدّماته بسوء اختیاره، مع حکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمات لیتمکّن من ذی المقدّمة؛ إرشاداً إلیٰ ما فی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 97 ترکها ـ الموجب لترک ذی المقدّمة ـ من العصیان والعقاب.
فتلخّص : أنّه لا دلیل علیٰ الملازمة مطلقاً یعتدّ به.
وأمّا التفصیل بین السبب وغیره فلا کلام فیه یعتمد علیه.
وأمّا التفصیل بین الشرط العقلیّ والعادیّ وبین الشرعیّ بثبوت الملازمة فی الثانی دون الأوّل، فلأجل أنّ العقل والعادة یقضیان بوجوب الأوّلین، فلا احتیاج فیهما إلیٰ الوجوب الشرعیّ، بخلاف الشرط الشرعیّ، فإنّه لولا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً؛ حیث إنّه لیس ممّا لابدّ منه عقلاً أو عادةً.
وفیه أوّلاً : أنّه إن اُرید أنّ شرطیّة الثالث تتوقّف علیٰ تعلّق الأمر به فی مقام الثبوت ونفس الأمر، ففساده واضح فإنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعیّتین، ولا دخل للأمر فیها، بل تعلّق الأمر بالشرط موقوف علیٰ شرطیّته واقعاً، فلو توقّفت شرطیّته علیٰ تعلّق الأمر به لزم الدور.
وإن اُرید أنّ الاحتیاج فی الشرط الشرعیّ إلیٰ الأمر، إنّما هو لأجل کشفه عن شرطیّته الواقعیّة، فإن اُرید أنّ الکاشف عنها أمر مستقلّ فهو مسلّم، لکنّه خارج عن مسألة المقدّمة؛ لأنّ النزاع إنّما هو فی وجوبها الغیری، لا الوجوب المستقلّ.
وإن اُرید أنّ الکاشف أمر غیریّ وبعث مسبَّب عن البعث إلیٰ ذی المقدّمة، أو إرادة مترشّحة عن إرادة ذی المقدّمة، فلا یمکن کاشفیّة الأمر الغیریّ عن شرطیّة شیء واقعاً؛ وذلک لأنّ الملازمة علیٰ تقدیر ثبوتها فیما إذا علم بمقدّمیّة شیء بالوجدان، کنصب السلّم، فیقال: إنّه واجب؛ لأنّه مقدّمة للکون علیٰ السطح، وأمّا إذا لم یعلم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 98 بمقدّمیّة شیء فلا، کما إذا لم یعلم بشرطیّة الوضوء للصلاة، فلا یکشف عن شرطیّته الأمرُ الغیری المترشّح عن الأمر بالصلاة، وهو واضح، وإذا فُرض تعلُّق الأمر بالصلاة المتقیِّدة بالوضوء، یصیر الوضوء شرطاً عقلیّاً، یحکم العقل بلزوم الإتیان به.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99