خاتمة :
هل یترتّب الثواب والعقاب علیٰ الواجب الغیری فی صورتی الموافقة والمخالفة أو لا ؟
فنقول : هل الإثابة والمُعاقبة فی یوم الجزاء بمحاکمة العبد، کما فی هذه الدنیا، وهو ظاهر الآیات القرآنیة؟
أو أنَّ الثواب والعقاب من لوازم الأعمال بتجسّمهما ولا ینفکّان عنها؟
ثمَّ إنَّ المثوبة والعقوبة الأخرویتین مجعولتان لکلِّ عملٍ قدر مخصوص منهما؟ نظیر جعل الحدود والدیّات فی هذه النشأة لبعض الأعمال، کما ذهب إلیه المحقّق النهاوندی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 51 أو أنّهما یترتبان علی الأعمال والأفعال من دون جعل قدر مخصوص لکلّ عمل منها أولاً؟.
ثم إنّ بعضهم ذهب إلیٰ أنّ النفس تکتسب بالأفعال الحسنة استعداداً لائقاً وقابلاً لإفاضة صورٍ بهیّة علیها وبالأفعال السیّئة استعداداً لورود صور ظلمانیة علیها.
وحینئذٍ نقول : إنّ القول بأنّ المثوبة إنّما هی بالتفضّل لا بنحو الاستحقاق بناء علیٰ هذه الوجوه غیر سدید امّا بناء علیٰ أنّها من لوازم الأعمال فواضح انّها بنحو الاستحقاق، لکنّه استحقاق تکوینی، وکذلک بناء علیٰ ما ذکره المحقّق النهاوندی؛ لأن معنی الجعل هو الاستحقاق ومعنیٰ التفضّل إمکان عدم ترتّب المثوبة علیٰ الأفعال الحسنة، مع أنّه بناء علیٰ هذا القول یستحیل تخلّفه تعالیٰ عمّا جعله، وهذا ممّا لا إشکال فیه.
وإنّما الإشکال فی أنّه إذا أمر المولیٰ بشیء من دون أن یجعل له عوضاً، فهل یستحقّ العبد بالإتیان بالمأمور به مثوبة أو لا، بل المثوبة من باب التفضّل؟.
والظاهر أنّ محلّ النزاع فی المقام هو هذا الفرض، لکن الحقّ أنّها لیست بنحو الاستحقاق بحیث یقبح ترکها علیه، وذلک لأنّ جمیع القویٰ الکامنة فی الإنسان، وکذا جمیع ما یحتاج إلیه فی معاشه ومعاده، من مواهب الله تعالیٰ بدون استحقاق العبد لها، فلو أمره بصرف بعض مواهبه تعالیٰ فی مورد خاصّ، فلا یستحقّ لذلک عوضاً، مثلاً: لو أعطاه خمسین دیناراً وأمره بإنفاق واحد منها، فهو لا یُنفق إلاّ من مال المولیٰ، فلایستحق لذلک مثوبةً، وکذا لو اُمر بغضّ البصر عمّا حرّم الله النظر إلیه.
هذا کلّه مع أنّ الآثار المترتّبة علیٰ الإطاعات وترک المعاصی ترجع إلیٰ العبد
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 52 نفسه لا إلیه تعالیٰ؛ لاستغنائه عن جمیع المخلوقات وإطاعاتهم حتّی الأنبیاء والأولیاء ولو امتثل العبد جمیع أوامر الله وانزجر عن جمیع محارم الله لم یأتِ إلاّ أقلّ قلیل من حقّ الله الذی یجب علیه، وحینئذٍ فبطلان القول بالاستحقاق أوضح.
وإذا عرفت أنّ الإثابة فی الواجبات النفسیّة لیست بنحو الاستحقاق، تعرف أنّه لا وقع للبحث فی استحقاقها فی الواجبات الغیریّة وعدمه.
والتحقیق أن یقال: إنّ المراد بالاستحقاق هنا هو الاستحقاق العُرفی، نظیر استحقاق الأجیر للاُجرة علی عمله؛ بمعنی أنّه یثبُت للأجیر حقّ علی المستأجر؛ بحیث یُعدّ منعه ظلماً علیه یقبِّحه العقلاء، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ المثوبة والعقوبة لازمتان للأعمال بتجسُّمهما فی النشأة الآخرة باکتساب العبد بالأعمال الحسنة استعداداً قابلاً ولائقاً لإفاضة الصور البهیّة، وبالأعمال السیّئة استعداداً قابلاً لورود صور ظلمانیّة فلا معنیٰ للقول باستحقاق المثوبة فی امتثال الواجبات الغیریّة بالمعنیٰ المذکور.
وإن قلنا: إنّ الثواب والعقاب للأعمال مجعولان، فاستحقاق العقوبة والمثوبة تابع للجعل، فإن جُعل لامتثال الواجب الغیری مثوبة، فبامتثاله یجب علی الله تعالیٰ إعطاؤها له؛ لاستحالة تخلّفه تعالیٰ عمّا وعده، فإنّه تعالیٰ أمر العباد بالوفاء بعهودهم فکیف لایفی هو تعالیٰ بعهده؟! هذا الکلام کلّه فی الاستحقاق وعدمه.
وهل یترتّبان علیٰ امتثال الواجبات الغیریّة ومخالفتها لا علیٰ وجه الاستحقاق أو لا؟
نقول: لا معنیٰ لترتّبهما علیٰ الواجبات الغیریّة؛ لأنّهما متفرّعان علیٰ الإطاعة وترکها ـ أی المخالفة ـ وامتثال الواجبات الغیریّة لا یُعدّ طاعة وترکها مخالفة، فإنّ وجوب المقدّمة ـ مثلاً ـ غیریٌّ وبحکم العقل، فلو أمر المولیٰ بمقدّمة فلا یخلو العبد من أنّه إمّا مرید لامتثال أمر ذی المقدّمة أو لا:
فعلیٰ الأوّل یحکم العقل بلزوم الإتیان بمقدّمته للتوقّف، فیحرّک عضلاته نحو
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 53 إیجادها، فلا داعویّة للأمر بالمقدّمة له إلیٰ إیجادها، فهو یرید المقدّمات بحکم عقله بإرادة مستقلّة، فلا داعویّة للأمر الغیری له نحو الفعل.
وعلیٰ الثانی فهو أوضح؛ أی لا داعویّة للأمر بالمقدّمة نحوها، وحینئذٍ فلا یتحقّق بامتثال أمر المقدّمة وعدمه موضوعُ المثوبة والعقوبة؛ أی الإطاعة والمخالفة.
فتلخّص : أنّه لا یستحقّ الثواب والعقاب علیٰ امتثال الواجبات الغیریّة ومخالفتها، ولا یترتّبان علیها بدون الاستحقاق ـ أیضاً ـ من حیث إنّها مقدّمات وواجبات غیریّة، لکن هل یستحقّهما العبد لحیثیّة اُخریٰ؟ ولیس المراد مجرّد ترتُّب الثواب والعقاب، بل استحقاقهما؛ بمعنیٰ ثبوت حقٍّ للعبد علیٰ المولیٰ بامتثال الواجب الغیری عقلاً، فلابدّ من ملاحظة الأوامر الغیریّة من الموالی العُرفیّة بالنسبة إلیٰ عبیدهم، ثمّ ملاحظة الأوامر الشرعیّة.
فنقول : لو أمر المولیٰ عبده بإنقاذ ابنه الغریق وأمره بمقدّماته ـ أیضاً ـ فامتثل العبد أمر المقدّمات ، لکنّه لم یتمکّن من إنقاذه، فهل تریٰ من نفسک ثبوت حقّ للعبد علیٰ مولاه بامتثال أمر المقدّمات فقط؛ من حیث تحمّله المشاقّ فی تحصیلها، أو من حیث إنّ الشروع بإیجاد المقدّمات شروع فی امتثال ذی المقدّمة عرفاً، أو لأجل حیثیّة اُخریٰ؛ بحیث لو امتنع المولیٰ من أداء حقّه قبّحه العقلاء، ویعدّ ظالماً له بامتناع أداء حقّه؟! حاشا وکلاّ؛ لعدم إتیانه بما أمره به المولیٰ من إنقاذ ابنه، وما أتیٰ به لم یکن مأموراً به بالأصالة.
ولهذا حکم الفقهاء بثبوت اُجرة المِثْل، فیما لو أمر أحدٌ شخصاً بحمل شیءٍ إلیٰ مکان معیّن، بدون أن یجعل له اُجرة، فحمله إلیٰ ذلک المکان من دون أن یقصد التبرّع، وبعدم ثبوت شیءٍ له لو لم یحمله إلیٰ ذلک المکان، وإن تحمَّلَ مشاقاً بتحصیل مقدّمات الحمل.
وکذا لو کان له عبدان أمرهما بإنقاذ ابنه الغریق فأنقذه أحدهما بمقدّمات
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 54 کثیرة، والآخر بدونها، فلا أظنّ أن تزعم أنّ ثواب الأوّل أکثر من الثانی مع اشتراکهما فی أصل الإنقاذ، وإن تحمَّلَ الأوّل مشاقاً لتحصیل مقدّمات کثیرة.
فما یظهر من المحقّق العراقی قدس سره من أنّ الإتیان بالمقدّمات یُعد شروعاً فی امتثال ذی المقدّمة عرفاً، فتقسّط المثوبة علیٰ المقدّمة أیضاً.
فمدفوع : أمّا أوّلاً: فلأنّه کیف تقسّط وتنبسط علیٰ المقدّمات مثوبة ذی المقدّمة مع عدم الشروع فی امتثاله.
وثانیاً : سلّمنا ذلک، لکن محلّ الکلام استحقاق المثوبة علیٰ المقدّمة زائدة علیٰ المثوبة المترتّبة علیٰ ذی المقدّمة، لا انبساط مثوبة ذی المقدّمة علیها، بل لا یستحقّ المثوبة بمجرّد الشروع فی ذی المقدّمة ـ أیضاً ـ إلاّ مع الإکمال، مع أنّه یصدق أنّه شرع فی امتثال ذی المقدّمة.
وکذا ما فی «الکفایة» من أنّه یستحقّ العبد مثوبة زائدة علیٰ المثوبة المترتّبة علیٰ ذی المقدّمة بموافقة أمر المقدّمة؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ یصیر أفضل الأعمال وأشقّها.
نعم : لا ریب فی أنّ العبد الممتثل للأوامر الغیریّة ممدوح عند العقلاء لحسن سریرته، وذلک لأنّه لو فرض ثلاثة اعتقدوا بتوجّه أمر الشارع إلیهم بشیء کالحجّ، فهمّ اثنان منهم وصارا بصدد الامتثال، دون الثالث، وأخذ الأوّلان فی مقدّماته ونفسِ الحجّ، دون الثالث وفرض عدم وجوب الحجّ واقعاً، إلاّ علیٰ أحد الأوّلین، فلاریب فی أنّه فرق بینهم عند العقلاء، فإنّ الممتثل لأمر الحجّ یستحقّ الثواب؛ لامتثاله أمر المولیٰ، بخلاف الآخر ـ الذی لم یجب علیه الحجّ ـ لعدم الأمر بالنسبة إلیه وإن أتیٰ به جهلاً، لکن یمدحه العقلاء؛ لانقیاده وحسن سریرته، وأنّه لیس بصدد الُمخالفة للمولیٰ، ویذمّون الثالث من جهة سوء سریرته وجرأته؛ حیث إنّه مع اعتقاده بتوجّه الأمر إلیه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 55 لم یکن بصدد الامتثال والإطاعة، وإن فرض عدم وجوب الحجّ علیه ـ أیضاً ـ واقعاً، وکان اعتقاده جهلاً مرکّباً.
فتلخّص : أنّه لا یستحقّ العبد فی امتثال الأوامر الغیریّة مثوبة أصلاً؛ لا من حیث إنّها مقدّمات، ولا من حیثیّة اُخریٰ، لکن یمکن أن یُزاد فی ثواب ذی المقدّمة لأجل امتثال أمر المقدّمة بتحمّل المشاقّ لتحصیلها، فیمکن أن یستحقّ الآفاقی للحجّ من المثوبة ما لا یستحقّه غیره، کالمجاورین لمکّة المکرّمة؛ لأجل تحمّل الآفاقی من المشاقّ من طیّ المسافات الطویلة، دون الثانی.
إذا عرفت ذلک نقول: قد اُورد فی الطهارات الثلاث بوجوه :
الأوّل : أنّک قد عرفت عدم استحقاق العبد للثواب والعقاب فی امتثال الواجبات الغیریّة ومخالفتها، مع ترتُّب الثواب علیٰ الطهارات الثلاث بمقتضیٰ الأخبار، مع أنّ الطهارات الثلاث مقدّمات للصلاة ونحوها، وعرفت أنّ امتثالها لا یعدُّ طاعة وترکها مخالفة، مع أنّ الثواب والعقاب فرع تحقّق عنوانی الموافقة والمخالفة أو الطاعة والعصیان.
وفیه : أنّه لا مانع من أن یجعل الشارع لامتثال بعضها مثوبة، والطهارات المذکورة کذلک.
وما أجاب به المحقّق العراقی : من انبساط المثوبة لذی المقدّمة علیٰ المقدّمة أیضاً، وأنّ الآخذ فی المقدّمة یعدّ آخذاً فی ذی المقدّمة، فقد عرفت ما فیه سابقاً.
الثانی : أنّه لاریب فی أنّ الطهارات المذکورة ـ بما هی عبادة ـ مقدّمة، فلابدّ فیها من قصد العبادیّة وإتیانها بداعی امتثال الأمر، لا بأیّ وجههٍ اتّفق؛ لأنّها کذلک لیست مقدّمة، فالعبادیّة مأخوذة فی مقدّمیّتها وفی متعلّق أمرها فی الرتبة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 56 السابقة، وحینئذٍ فمحقّق عبادیّتها إن کان هو الأمر الغیری لزم الدور؛ لأنّ تعلّق الأمر الغیری بها یتوقّف علیٰ عبادیّتها؛ لما عرفت من أنّها ـ بما هی عبادة ـ مقدّمة ومتعلّقة للأمر الغیری، والمفروض أنّ عبادیّتها متوقّفة علیه. وإن کان هو الأمر النفسی الندبی فهو فاسد:
أمّا أوّلاً : فلأنّه کثیراً ما یفعلها المکلّف بداعی التوصّل بها إلیٰ الصلاة وبقصد أمرها الغیری، مع الغفلة عن أنّها مطلوبةٌ نفساً وعبادةٌ متعلّقة للأمر النفسی، وعلیٰ فرض عدم الغفلة ـ أیضاً ـ لا یمکنه قصد امتثال الأمر النفسی بها، إلاّ بنحو الداعی علیٰ الداعی، فإنّ الداعی إلیٰ فعل الصلاة الصحیحة یدعوه إلیٰ إتیانها بداعی أمر نفسها.
وأمّا ثانیاً : فلأنَّه لا یُعقل اجتماع الاستحباب النفسی مع الوجوب الغیری؛ لأنّ مرجعه إلیٰ تعلُّق الطلب الأکید والغیر الأکید معاً بفعل واحد، وهو غیر متصوّر. مضافاً إلیٰ قیام الإجماع علیٰ أنّ التیمُّم لیس مطلوباً نفسیّاً، وإن یظهر عبادیّته ـ أیضاً ـ من بعض الأخبار، بل الوضوء علیٰ قولٍ ـ أیضاً ـ کذلک لیس بنفسه مستحبّاً.
أقول : ویمکن التفصّی عن هذا الإشکال باختیار الشِّقّ الأوّل، وأنّ للطهارات الثلاث ملاکین للمقدّمیة وتعلّق الأمر الغیری بها: أحدهما فی ذات الوضوء مثلاً، وثانیهما فی فعله بقصد الأمر وبعنوان العبادة، وإن شئت فقل: ذات الوضوء مقدّمة لمقدّمة الصلاة، وهو الوضوء الذی هو عبادة، وکما أنّه یتعلّق الأمر الغیری بالمقدّمة بملاک التوقّف، کذلک یتعلّق أمر آخر غیریّ بمقدّمة المقدّمة بهذا الملاک، فهنا أمران غیریّان: أحدهما متعلّق بذات الوضوء، وثانیهما بإتیانه بعنوان العبادة، فیندفع إشکال الدور.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 57 وبما ذکرنا أجاب المحقّق العراقی عنه تقریباً؛ حیث قال ما محصّله: أنّا نختار الشقّ الأوّل، وهو أنّ عبادیّة الطهارات الثلاث إنّما هی بالأمر الغیری، وأنّ الأمر الغیری المتوجّه إلیٰ المرکّب أو المقیّد ینبسط علیٰ أجزاء متعلّقه الخارجیّة والعقلیّة، وحینئذٍ فذوات الأفعال فی الطهارات الثلاث مأمور بها بالأمر الضمنی من ذلک الأمر الغیری، فإذا اُتی بها بداعی ذلک الأمر الضمنی یتحقّق ما هو المقدّمة؛ أعنی الأفعال الخارجیّة المتقرّب بها، وبذلک یسقط الأمر الضمنی المتوجّه إلیٰ المقیّد بعد فرض أنّه توصُّلی؛ لحصول متعلّقه قهراً بامتثال الأمر الضمنی المتعلّق بذات الفعل.
الثالث من الوجوه ـ وهو العمدة ـ : أنّه لاریب فی أنّ الطهارات الثلاث ـ مع قطع النظر عن الإشکال فی التیمّم ـ عبادة موقوفة علیٰ فعلها بعنوان العبادة وبقصد أمرها النفسی، مع عدم الإشکال فی صحّة الصلاة معها مع الغفلة عن أنّها مطلوبات نفسیة، وأنّه لو أتیٰ بها بقصد الأمر الغیری لاجتزی بها وصحّت، کما أفتیٰ به الفقهاء، وهو المرتکز ـ أیضاً ـ فی أذهان المتشرّعة.
والحاصل : أنّ محقّق عبادیّة العبادة لیس هو قصد الأمر الغیری، ولا یکفی فی العبادة قصد التوصّل بها إلیٰ شیء آخر بدون قصد عنوان العبادة، مع کفایة ذلک فی الطهارات الثلاث.
والجواب عنه : إن اُرید بذلک أنّه یأتی بالطهارات فی الفرض بقصد التوصّل بها إلی الصلاة ـ مثلاً ـ مع الغفلة عن أنّها ممّا یصلح للعبادیّة، نظیر فعل الستر والاستقبال ممّا لا یقصد بفعله العبادیّة بوجه من الوجوه، فنحن ننکر صحّتها حینئذٍ، وارتکاز أذهان المتشرّعة بذلک ـ أیضاً ـ ممنوع.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 58 وإن اُرید أنّ الإتیان بها بقصد التوصّل بها إلیٰ الصلاة مع الغفلة عن أنّها مطلوبات نفسیّة ومتعلّقات للأمر النفسی، مع التوجّه إلیٰ أنّها صالحة للعبادیّة، فهو کافٍ فی تحقّق عبادیّتها، وحینئذٍ فلا إشکال أصلاً، وهو قریب ممّا أجاب به فی «الکفایة» فی المقام.
فما أورده علیه المحقّق العراقی: ـ من أنّه کثیراً ما یُؤتیٰ بها بقصد التوصُّل إلیٰ الصلاة وبداعی الأمر الغیری، مع الغفلة عن عبادیّتها ومطلوبیّتها نفساً ـ محلّ إشکال ومنع.
بل نقول : إنّه لا معنیٰ لتحقّق العبادة بالأمر النفسی ولا بالأمر الغیری هنا، فإنّه لا داعویّة للأمر النفسی إلیٰ الإتیان بالطهارات فی الفرض، فلیس عبادیّتها بالأمرِ النفسی، والأمرُ الغیری ـ أیضاً ـ لا یصلح لذلک، بل محقّق عبادیّتها هو صلاحیّة کونها عبادة، کما یستفاد ذلک من الأخبار، ولا یحتاج فی العبادة إلیٰ تعلُّق الأمر بها وقصده بها، بل الجواب الحقیقی عن الإشکال هو ذلک، والمتقدّمان إقناعیّان، وهو مُغنٍ عنهما فی دفع الإشکالین الأوّلین.
ووجهه : أنّک بعدما عرفت أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح للعبادیّة والتقرّب بها إلیه تعالیٰ ـ والمفروض أنّ المکلّف بحسب ارتکازه الذهنی متوجّه إلیٰ ذلک أیضاً حین فعلها ولو مع قصد المقدّمیّة للغیر؛ لما عرفت من الفرق بحسب الارتکاز فی أذهان المتشرّعة بینها عند الإتیان بها وبین فعل الستر والاستقبال بقصدهم العبادیّة فیها ـ اتّضح لک: أنّه لا وقع للإشکال الأوّل؛ فإنّ المثوبة مترتّبة علیٰ فعل العبادی علیٰ وجه الاستحقاق بناءً علیٰ هذا القول.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 59 وانقدح بذلک : الجواب عن الإشکال الثانی أیضاً، فإنّ توهّم الدور إنّما هو لزعم أنّ مُحقِّق عبادیّتها هو قصد الأمر الغیری، وقد عرفت أنّه لیس کذلک.
وبالجملة : الجواب الصحیح هو ما ذکرناه، واختاره فی «الکفایة» تبعاً للشیخ قدس سره فی «کتاب الطهارة»: من أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح للعبادیّة بنفسها من دون دخل قصد الأمر مطلقاً فی عبادیّتها، فهی مستحبّة نفساً، وواجبة بالغیر، نظیر ما إذا نذر الإتیان بصلاة اللیل، فإنّها ـ حینئذٍ ـ مستحبّة ذاتاً، وواجبة بعنوان المنذور، فیجب فعل هذا المستحبّ بعنوان الوفاء بالنذر.
أمّا ما ذکرناه: من أنّه لا یعقل اجتماع الوجوب والاستحباب فی عمل واحد.
فمدفوع : بأنّه لا مانع منه إذا کان للفعل عنوانان تعلّق بأحدهما الطلب الأکید، وبالآخر الطلب الغیر الأکید.
وما یظهرمن تقریرات بحث الشیخ قدس سره: من التردّد فی هذا الجواب، وجزم المقرّر بخلافه، وأنّ محقّق عبادیّة الطهارات هو قصد الأمر الغیری، فقد عرفت ما فیه.
ثمّ إنّه اُجیب عن الإشکالات بوجوه اُخر لا تخلو عن الضعف:
الأوّل : ما حکاه فی «الکفایة»، وذکره الشیخ قدس سره علیٰ ما فی التقریرات: وهو أنّ المقدّمة : إمّا تکوینیّة معلومة العنوان، کما إذا أمر بالکون علی السطح، فنصب السُّلَّم المأمور به بالأمر الغیری مقدّمة تکوینیّة، وإمّا شرعیّة، وهی ـ أیضاً ـ إمّا معلومة العنوان، فیؤتیٰ بها بهذا العنوان، وإمّا مجهولة العنوان، ومُردّدة بین عنوان وعنوان آخر، وتلک کالطهارات، فحیث إنّ المکلّف لا یعلم عنوانها فهو یأتی بها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 60 بقصد الأمر الغیری، فیکون آتیاً بها بعنوانها الواقعی المجهول؛ حیث إنّ الأمر المذکور لایدعو إلاّ إلیٰ ذلک، فتتحقّق عبادیّتها بذلک القصد.
وبالجملة : للطهارات المذکورة عنوان واقعی هو الموقوف علیه، وحیث إنّه مجهول یتحقّق هذا العنوان الواقعی بقصد الأمر الغیری، وتصیر به عبادة.
ویرد علیه أوّلاً : ما أورده علیه فی «الکفایة»، وهو أنّه غیر وافٍ بدفع إشکال ترتّب المثوبة علیها؛ لأنّها بناءً علیٰ ما ذکر مقدّمات توصُّلیّة، ویلزمه أنّه لو فعلها ریاءً لوقعت صحیحة کافیة، ولا یمکن الالتزام به.
وثانیاً : لو سلّمنا ذلک لکن قصد الأمر الغیری لا یصحِّح عبادیّتها؛ لأنّ المفروض فعلها للتوصّل بها إلیٰ الصلاة، لا التقرُّب بها إلی الله تعالیٰ المعتبر فی العبادة.
الثانی من الوجوه : ما حکاه فی «الکفایة» ـ لکن لم أعرف قائله ـ وهو أنّ لزوم وقوع الطهارات الثلاث عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض من الأمر النفسی بغایاتها ـ أی بالطهارات کما لا یحصل بدون قصد التقرّب بموافقته، کذلک لا یحصل إلاّ إذا اُتی بها کذلک؛ لا باقتضاء الأمر الغیری.
وبالجملة : وجه لزوم الإتیان بها بعنوان العبادة: إنّما هو لأجل أنّ الغرض منها لایحصل إلاّ بإتیان خصوص الطهارات ـ بین المقدّمات ـ بقصد الإطاعة، والفرق بینه وبین الوجه الأوّل واضح؛ فإنّ ذوات الطهارات عبادة بناءً علیٰ هذا الوجه، بخلاف الأوّل.
وأورد علیه فی «الکفایة» : بأنّه ـ أیضاً ـ غیر وافٍ بدفع إشکال ترتُّب المثوبة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 61 علیها أیضاً.
لکن مرجع هذا الوجه إلیٰ ما ذکره وذکرناه، فإنّه لو فُرض أنّ الطهارات ممّا تصلح ذاتاً للعبادیّة والتقرّب بها إلیه تعالیٰ، لا لمحض التوصّل بها إلیٰ غایاتها فقط، والمکلّف ـ أیضاً ـ ملتفت إلیٰ ذلک حین الفعل، مع قصد التوصُّل أیضاً، فلا یرد علیه واحد من الإشکالات، ولو فرض عدم صلاحیّتها للتقرّب والعبادیّة، فلا معنیٰ لفعلها کذلک.
الثالث من الوجوه : ما حکاه فی «الکفایة» ـ أیضاً ـ المنسوب إلیٰ الشیخ قدس سره بالتزام بعضٍ فیها بأمرین لتصحیح اعتبار قصد الإطاعة فیها: تعلّق أحدهما بذات الطهارة، والثانی بإتیانه بداعی امتثال الأمر الأوّل.
وفیه : أنّ هذا الجواب إنّما یفید دفع إشکال الدور فقط، وأمّا الإشکال الأوّل والثالث فهما باقیان بحالهما.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 62