المبحث الثانی فی الواجب المعلَّق والمنجَّز
قال صاحب الفصول ما ملخّصه: انّ الواجب ینقسم باعتبارٍ إلیٰ منجَّز ومعلَّق؛ لأنّ الواجب إن کان معلّقاً علیٰ أمر غیر مقدور للمکلّف فهو الثانی، مثل صلاة الظهر بالنسبة إلیٰ الدُّلوک، وإلاّ فهو المنجَّز، کتحصیل المعرفة.
والفرق بین الواجب المعلَّق والمشروط : هو أنّ القید شرط للوجوب فی الثانی، فلا وجوب قبل حصوله، وشرط للواجب فی الأوّل، فالوجوب فیه فعلیّ، والواجب استقبالی. انتهیٰ.
واُورد علیٰ الواجب المعلّق بوجوه :
أحدها : أنّه یستلزم تخلّف المراد عن الإرادة فی الإرادة الفاعلیّة والتشریعیّة. وذکر بعض المحقّقین فی توضیحه ما حاصله : أنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد، فإنّ الشخص إذا اشتاق إلیٰ شیء یشتدّ اشتیاقه شیئاً فشیئاً إلی أن یبلغ حدّاً یصیر
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 32 منشأً وعلّةً لتحریک العضلات فی الإرادة الفاعلیّة، أو إلیٰ البعث فی التشریعیّة، فإذا بلغ الشوق إلیٰ هذا الحدّ ومع ذلک لم تتحرَّک العضلات، لزم تخلُّف المعلول والمراد ـ وهو تحریک العضلات أو البعث ـ عن علّته التامّة أو الإرادة التی هی الشوق المؤکّد، وهو مستحیل، فالواجب المعلّق الذی هو مستلزم لذلک مستحیل.
فإن قلت : یمکن أن تکون الإرادة مشروطة بدخول الوقت فی تأثیرها.
قلت : إن اُرید أنّ دخول الوقت شرط لتکمیل الشوق إلیٰ أن یبلغ الحدّ المذکور، وقبل حصول القید لم یبلغ إلیٰ ذلک الحدّ الذی هو الإرادة، فلا شوق مؤکّد قبل حصول القید، فهو صحیح، لکنّه خارج عن الفرض.
وإن اُرید أنّ دخول الوقت شرط لتأثیره مع بلوغه إلیٰ ذلک الحدّ، ومع ذلک لا تأثیر له قبل دخول الوقت، فهو محال؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن علّته التامّة.
فإن قلت : یمکن أن تتوقّف الإرادة علیٰ مقدّمات مقدورة للمکلّف، وعلیه فلایمکن البعث نحو فعل فی وقته مع عدم حصول مقدّماته الوجودیّة؛ ضرورة عدم إمکان الانبعاث نحو ذی المقدّمة إلاّ بعد وجود مقدّماته، والفرض أنّه لا ینبعث نحو مقدّماته إلاّ عن البعث إلیٰ ذیها.
قلت : حیث إنّ تحصیل المقدّمات ممکن، فالبعث والانبعاث إلیٰ ذیها متّصفان بصفة الإمکان، بخلاف البعث إلیٰ شیء قبل حضور وقته، فإنّ الفعل المتقیّد بالزمان المتأخّر فی الزمان المتقدّم محال من حیث لزوم الخلف والانقلاب، فهو ممتنع وقوعاً، بخلاف فعلٍ له مقدّمات غیر حاصلة، فإنّ البعث نحوه ممکن الوقوع.
لا یقال: کیف حال المرکّب من اُمور تدریجیّة الوجود، کالصلاة والإمساک فی مجموع النهار، فإنّ الانبعاث نحو الجزء المتأخّر فی زمان الانبعاث فی زمان الجزء المتقدّم غیر معقول ومع ذلک فالکلّ مبعوث إلیه ببعث واحد فی أوّل الوقت؟
لأنّا نقول : لیس فی الفرض إرادة واحدة بل اشتیاقات یکمل کلّ واحد منها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 33 بالحرکة الجوهریّة تدریجاً فتصیر إرادات متدرّجة الوجود متعلّقة بکلّ واحد من الأجزاء عند بلوغ أوانها. انتهیٰ.
وفیه مواقع للنظر :
أمّا أوّلاً : فانّ ما ذکره قدس سره من أنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد فهو غیر صحیح، فإنّ الاشتیاق انفعال والإرادة فعل من أفعال النفس ولها مقام الباعثیة، فعلیٰ ما ذکره یلزم أن یکون الفعل انفعالاً.
وثانیاً : ما ذکره من أنّ الاشتیاق إلیٰ ذی المقدّمة سبب للاشتیاق إلیٰ المقدّمة أیضاً غیر صحیح؛ لعدم تعلُّق الشوق بالمقدّمات أبداً؛ لأجل عدم وجود ما یشتاق بسببه إلیها، بخلاف ذی المقدّمة.
وما ذکره ناشٍ عن توهّم أنّ الإرادة فی جمیع مواردها مسبوقة بالشوق مع أنّ الإنسان کثیراً مّا یرید فعلاً بدون الاشتیاق إلیه، بل مع الکراهة أو الإلجاء والاضطرار، مثل شرب الدواء المرّ لدفع المرض.
وثالثاً : ما ذکره من أنّ الاشتیاق یکمل شیئاً فشیئاً بالحرکة الجوهریّة حتّی یبلغ حدّ النصاب ـ أی الإرادة ـ أیضاً غیر مستقیم، فإنّ الإرادة المحرّکة للعضلات غیر الإرادة الناشئة عن الاشتیاق، فإنّ الاُولیٰ لا تنفکّ عن المراد؛ أی تحریک العضلات، وهو لیس مشتاقاً إلیه، وأمّا الثانیة فلیست متعلّقة بتحریک العضلات، وهی علّة لوجود الاُولیٰ، فبمجرد الاشتیاق إلیٰ ذی المقدّمة وإرادته لا تتحرک العضلات نحو الفعل، فما ذکره من تدرُّج الاشتیاق حتیٰ یبلغ حدّاً یُحرِّک العضلات خلطٌ بین الإرادتین: احداهما المحرّکة للعضلات، وهی مبدأ للتحریک، وثانیتهما المتعلّقة بذی المقدّمة.
وأمّا ما قرع سمعک : من أنّ الإرادة علّة تامّة أوجزء أخیر لها لتحریک
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 34 العضلات، وأنّه یستحیل انفکاک المعلول عن علّته التامّة، فلم یقم علیه دلیل ولا برهان، فإنّ غایة ما یمکن أن یقال فی تقریبه هو أنّ القوی النفسانیّة حیث إنّها مراتب للنفس،فلا تعصی النفس، بل تطیعها؛ لعدم معقولیّة تعصّی الشیء عن نفسه، فلا یمکن تخلّف المراد عن الإرادة.
لکن فیه : أنّه إذا کان الإنسان مفلوجاً لا یمکنه أن یتحرّک نحو الفعل، والنفس غافلة عن ذلک، فترید تحریکه، لکن لا یمکنه التحرُّک لعلّته، وهو تخلّف المراد عن الإرادة بالوجدان.
وأیضاً لو فرض أربعة : أحدهم : یشتاق إلیٰ الحجّ، لکنّه یعلم بعدم قدرته علیه؛ لعلمه بعدم وجود ما یتوقّف علیه، فهو لا یریده مع اشتیاقه إلیه.
وثانیهم : یشتاق إلیه ویریده لعلمه بحصول ما یتوقّف علیه.
وثالثهم : لا اشتیاق له إلیه طبعاً، لکن یریده خوفاً من العذاب المتوعّد علیه فی ترکه.
ورابعهم : لا اشتیاق له إلیه أبداً، ولا إرادة أیضاً.
ففرقٌ بین هذه الأربعة، فإنّ الثانی یرید الحجّ بعد حصول ما یتوقّف علیه، ولم یتحقّق بعدُ، فیلزم تخلُّف المراد عن الإرادة.
وعلیٰ فرض الإغماض عن جمیع ذلک، وتسلیم استحالة تخلّف المراد عن الإرادة فی الإرادة التکوینیّة، لکن قیاس الإرادة التشریعیّة علیها فی غیر محلّه.
فقوله : إنّ الداعی إلیٰ البعث هو الانبعاث، وهو موصوف بصفة عدم الإمکان.
فیه : أنّ غایة ما ذکر هو لزوم لَغویّة البعث فیما نحن فیه، وهو مسلّم، لکن الداعی إلیٰ البعث هو الانبعاث فی وقته وزمانه، فالبعث المطلق یلزمه وجوب الانبعاث المطلق، والبعث إلیٰ الفعل فی زمان متأخّر عنه یلزمه وجوب الانبعاث أیضاً کذلک.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35 وأمّا القول بأنّ البعث إنّما هو لایجاد الداعی للمکلّف علیٰ الاتیان بالمکلّف به ففیه :
أمّا أوّلاً : فلأنّ البعث لیس لإیجاد الداعی، بل هو لتمهید موضوع العقاب والثواب.
وثانیاً : لو سلّمنا ذلک، لکن إیجاد الداعی تبع للبعث، فإن کان البعث مطلقاً وفی زمان الحال فهو لإیجاد الداعی کذلک، وإن کان البعث إلیٰ الفعل فی زمان متأخّر فهو لإیجاد الداعی کذلک.
ثانیها :
قال المحقّق النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله: إنّه لا إشکال فی الواجب المعلّق من حیث تعلُّق الإرادة بالأمر المتأخّر لإمکانه بالوجدان، بل الإشکال فیه من جهة اُخریٰ، وهی أنّ الخطابات الشرعیّة: إمّا صادرة من الشارع بنحو القضایا الحقیقیّة، أو بنحو القضایا الخارجیّة، فعلیٰ الأوّل فاستحالة الواجب المعلّق واضحة؛ لأنّه لابدّ أن ترجع جمیع القیود إلیٰ المادّة والموضوع فإذا فُرض تعلّق الأمر بالصلاة معلّقاً علیٰ الدلوک فلابدّ أن یُفرض الموضوع موجوداً ثمّ یبعث إلیه، وحینئذٍ فالقید إمّا حاصل ومتحقّق، والمفروض أنّ الأمر متوجّه إلیٰ الموضوع بجمیع قیوده، فیلزم تحصیل الحاصل، وهوالقید، وهو محال، وإمّا غیر حاصل وغیر متحقّق، بل سیحصل بعد ذلک، فیلزم الأمر بغیر المقدور؛ لأنّ تحصیل القید ـ وهو الدلوک ـ غیر مقدور للعبد، وهو ـ أیضاً ـ محال. وکذلک لو کانت الخطابات الشرعیّة بنحو القضایا الخارجیّة. انتهیٰ.
وفیه ما لا یخفیٰ :
أمّا أوّلاً : فلأنّک قد عرفت أنّ القیود بحسب اللُّبّ مختلفة : فبعضها قید للمادّة، وبعضها راجع إلیٰ الهیئة، ولیست باختیارنا حتّی نرجعها جمیعها إلیٰ المادّة، وکلّ من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36 الواجب المطلق والمشروط معلّقاً أو منجّزاً، لا ینقلب عمّا هو علیه من الإطلاق والاشتراط بحصول الشرط وتحقّقه وعدمه، ولا یصیر المشروط مطلقاً بحصول الشرط، ولا المعلّق منجّزاً بحصول القید المعلّق علیه.
وأمّا ثانیاً فقوله قدس سره: یلزم تحصیل الحاصل، فیه: أنّه لو فُرض تعلّق الأمر بالصلاة مع الطهارة، معناه أنَّ الصلاة مع الطهارة مطلوبة، فإذا فرض أنّه مُتطهّر لایجب علیه التطهّر حتّیٰ یُقال إنَّه تحصیل للحاصل.
وثالثاً قوله : یلزم الأمر بغیر المقدور، فیه : أنّه ناشٍ عن توهّم أنَّ الأمر بالمقیّد أمر بالقید أیضاً، ولیس کذلک؛ لأنَّ الأمر متعلّق بالمقیّد بعد حصول القید لا بالقید.
فتلخص : أنَّ الواجب المُعلّق ممکن الوقوع، لکن بعد ما عرفت إثبات الواجب المشروط وجواز الشرط المُتأخّر وعدم ورود الإشکالات علیه، وبعدما عرفت أنّ وجوب المقدّمات إنّما هو بملاک التوقّف وحکم العقل، لا من باب المُلازمة، لا یترتّب علی الواجب المعلّق ثمرة وفائدة؛ فإنَّ الداعی إلی الالتزام بالواجب المعلّق إنّما هو لأجل أنَّهم لما رأوا وجوب بعض المقدّمات فی الشریعة قبل وجوب ذیها، کغسل الاستحاضة للصوم قبل الفجر فی شهر رمضان، وأشکل الأمر علیهم؛ بأنَّه کیف یُمکن وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها؟ التزموا بالواجب المعلّق لدفع الإشکال.
لکن لمّا عرفت أنَّ وجوب المقدّمة المذکورة ونحوها بملاک التوقّف ـ أی توقف ما سیجب بعد حصول القید ـ فلا حاجة إلی الالتزام بالواجب المعلّق.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37