الأمر الأوّل : فی تنقیح محطّ البحث :
ولابدَّ أوّلاً من ملاحظة الإرادة الفاعلیة کی یُعلم منها حال الإرادة التشریعیة فنقول :
لو أراد شخص شیئاً ، کلقاء صدیقه فی مکان مُعیّن، لاشتیاقه إلیه، فرأی أنّه یتوقف علی عمل أو أعمال، کالذهاب إلی مکانه، فأرادهُ ـ أیضاً ـ فهنا إرادتان: تعلّقت إحداهما بذی المقدّمة، أی لقاء الصدیق؛ وثانیهما بالمقدّمة، أی الذهاب إلی مکانه، ولا فرق بین هاتین الإرادتین إلاّ فی غایتیهما، فإنَّ غایة الاُولی هی لقاء الصدیق الذی هو المقصود بالذات، وغایة الثانیة الذهاب إلیٰ مکانه، ولیس هو المقصود بالذات، بل لأجل التوسّل به إلیٰ مقصوده الأصلی وهو لقاء الصدیق، فالإرادة الاُولی نفسیّة،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 5 والثانیة غیریة.
ومن هذا تعرف ویظهر ما فی قولهم: إنّه یترشّح من إرادة ذی المقدّمة إرادة اُخریٰ متعلّقة بالمقدّمة.
هذا بالنسبة إلی الإرادة الفاعلیة التکوینیّة.
أما الإرادة التشریعیّة فالآمر حیث یری أنَّ ایجاد الفعل الفلانی من الغیر ذو مصلحة، فتتعلّق قوّته الشوقیة به، لکن حیث یری أنّه لا وسیلة له لایجاد الغیر إیّاه إلاّ بأن یبعثه نحوه ویأمره بإیجاده، ورأی أنَّ إیجاده من الغیر یتوقّف علی وجود شیء آخر، فینقدح فی ذهنه إرادتان: إحداهما متعلّقة ببعثه إلی ذی المقدّمة، وثانیتهما بالمقدّمة، کما فی الإرادة الفاعلیة.
فنقول : یمکن تصویر محطّ البحث بصور کلّها مخدوشة، فإنّه لو قیل : إنَّ محطّ البحث هو فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین الإرادة الفعلیة المتعلّقة بالبعث إلی ذی المقدّمة، وبین الإرادة الفعلیة المتعلِّقة بالبعث إلی المقدّمة، فهو سخیف جدّاً، فإنَّ الآمر قد یغفل عن المُقدّمات، ولا یتوجّه إلیها کی یریدها فعلاً.
وکذا القول بأنَّ النزاع فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین الإرادة الفعلیة المتعلِّقة بذی المقدّمة وبین الإرادة الفعلیة المُتعلِّقة بعنوان المقدِّمة.
وکذلک لو قیل بأنَّ النزاع إنّما هو فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین البعث الفعلی إلی ذی المقدّمة وبین البعث الفعلی إلی المقدّمة، أو إلی عنوانها؛ لما ذکرنا من أنَّ المقدّمات وعنوانها مغفول عنها فی کثیر من الموارد، مع أنَّ الإرادة والبعث إلی شیءٍ یحتاج إلی خطوره والتصدیق بفائدته وصلاحه وغیر ذلک، والمفروض أنّها مغفول عنها.
ولو قیل : إنّ البحث إنّما هو فی ثبوت الملازمة الفعلیّة بین الإرادة الفعلیة لذی المقدّمة وبین الإرادة التقدیریة للمقدّمة بمعنی أنّه لو التفت إلیها أرادها، أو ثبوت
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 6 الملازمة الفعلیّة بین البعث الفعلی إلیٰ ذی المقدّمة وبین البعث التقدیری إلی المقدّمة بالمعنی المذکور، فهو غیر معقول؛ فإنّ الملازمة عبارة عن التضایف، وهو یستدعی وجود المتضایفین فعلاً، کما فی العلّة والمعلول، ولا یمکن التضایف الفعلی بین الموجود والمعدوم فإنّ المتضایفین متکافئان فعلاً وقوّة، فالاُبوّة الفعلیّة إنّما تتحقّق مع وجود الابن، وبدونه لایمکن تحقّقها، وما نحن فیه من هذا القبیل.
فإن قلت : الیوم مقدّم علی الغد فعلاً، ولا ریب فی أنّ التقدّم ـ أیضاً ـ من التضایف مع أنّ الغد غیر موجود فعلاً.
قلت : التقدّم فیه ـ أیضاً ـ غیر معقول، وإطلاق العرف له فیه مسامحة ومن الأغلاط المشهورة. هذا کلّه لو قلنا بأنّ النزاع فی المسألة عقلیّ.
ویظهر من صاحب المعالم : أنّ النزاع فی المسألة لفظیّ؛ حیث استدلّ لعدم الوجوب بانتفاء الدلالات الثلاث، وأنّ البحث إنّما هو فی دلالة لفظ الأمر وعدمها، وأنّه لا دلالة مطابقیّة فیه قطعاً؛ لأنّ مادّة الأمر لا دلالة لها إلاّ علی الطبیعة لابشرط، وهیئته ـ أیضاً ـ لا تدلّ إلاّ علی البعث، وشیء منهما لا یدلّ علیٰ وجوب المقدّمة.
أقول : وأمّا التضمّن والالتزام فهما لیستا من أقسام الدلالات اللفظیّة، فإنّ دلالة الالتزام هی دلالة المعنیٰ علی المعنیٰ، فإنّ قولنا: «الشمس طالعة» یدلّ علیٰ طلوع الشمس بالمطابقة، لکن لمّا استلزم طلوعُ الشمس لوجود النهار یُعلم بالالتزام أنّ النهار موجود، وکذلک التضمّن. هذا، ولکن یمکن تصویر النزاع العقلی بنحوٍ آخر بأن یقال: إنّ محطّ البحث إنّما هو فی ثبوت الملازمة الفعلیّة بین إرادة ذی المقدّمة وبین ما یراه مقدّمة، ولا یرد علیه الإشکالات المذکورة.
توضیح ذلک : أنّ الآمر یتصوّر ذا المقدّمة أوّلاً، وأنّ فیه مصلحة وفائدة، ثمّ یشتاق إلیه، فتتعلّق إرادته به، وهذه المصلحة إنّما هی بنظره، وإلاّٰ فیمکن خطاؤه فی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 7 التشخیص، بل کان ذا مفسدة، ثمّ یریٰ أنّ وجوده یتوقّف علیٰ مقدّمات بنظره، فیریدها أیضاً، ویمکن خطاؤه فی المقدّمات، وأنّ ما هو الموقوف علیه ذو المقدّمة واقعاً غیر ما هو الموقوف بنظره. هذا بالنسبة إلیٰ غیر الشارع من الموالی العرفیّة، فإنّ البحث أعمّ.
وأمّا بالنسبة إلی الشارع تعالیٰ فإنّ الخطاء فیه غیر متصوّر، فیمکن أن یُقال بثبوت الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وبین إرادة ما یراه مقدّمة، ویمکن أن یقال ـ أیضاً ـ بعدم الملازمة، بل یکفی الإرادة الاُولیٰ، والقائل بثبوت الملازمة إنّما یقول بوجوب الإتیان بالمقدّمة إذا لم یُعلم خطاؤه فی ما یراه مقدّمة، وأمّا مع العلم بخطائه فلا یجب الإتیان بالمقدّمة التی یراها مقدّمة، بل یجب الإتیان بما هو مقدّمة واقعاً، لکن بملاک آخر، وهو وجوب تحصیل غرض المولی وإن لم یُردها لخطائه فیها، کما لو غرق ابن المولی وهو غافل عنه، فإنّه یجب إنقاذه تحصیلاً لغرضه وإن لم تتعلّق إرادته به؛ بحیث لو لم یغفل عنه لَأَراده. وهذا بالنسبة إلیٰ غیر الشارع من الموالی العرفیّة، وإلاّ فلا یتصوّر الخطاء بالنسبة إلیٰ الشارع المقدّس، فما یراه مقدّمة وهو مقدّمة واقعاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 8