الجهة الرابعة : فی وضع الحروف
ظاهر القوم ابتناء المسألة علی التحقیق فی المعانی الحرفیّة، فإن کانت معانی کلّیة کالاسمیّة، فالموضوع له فیها عامّ، وإلاّ فهو خاصّ.
والذی هو الحقّ : أنّ المعانی الحرفیّة من أنحاء الوجودات، ولا تکون إلاّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 120 جزئیّة خارجیّة، وسیتّضح لک حال الوضع فی أمثال حروف التمنّی والترجّی والنداء وأمثالها، ومع ذلک یکون الموضوع له فیها عامّاً.
وهذا لا لما ذهب إلیه صاحب «المقالات»: من امتناع الوضع العامّ کما أشرنا إلیه، بل لو سلّمنا إمکان الوضع عامّاً، والموضوع له خاصّاً، لکان المتعیّن فی الحروف عموم الموضوع له، وقد عرفت: أنّه لا وجه لدعویٰ عموم الوضع بعدما عرفت إمکان ذلک؛ أی خصوصه، فعلیه یکون التحقیق عموم الموضوع له، لا الوضع.
بل کما یمکن عمومه یمکن خصوصه.
بیان ذلک : أنّک قد عرفت أنّ ما هو فی العین، لیس إلاّ الوجود جعلاً وتحقّقاً، والماهیّات الجوهریّة والعرضیّة هی العناوین المخترعة من الخارج بالملاحظات بین الموجودات، وما هو فی الخارج جعلاً لیس إلاّ الوجود المعلولیّ الذی هو الربط بالعلّة، وأیّ ربط أعظم من ربط المعلول بعلّته؟! فإنّه أشدّ من ربط المقبول بقابله، والعرض بموضوعه، أو ربط القابل بمقبوله، کما فی الهیولیٰ والصورة، فعلیه کیف یعقل أخذ المفاهیم الاسمیّة من الوجودات الرابطة، بل التی هی نفس الربط؟! فإذا أمکن ذلک، فهذا یقتضی إمکانه فی المعانی الحرفیّة بالمعنی الأخصّ.
والذی هو السرّ فی ذلک : أنّ النفس الإنسانیّة، قادرة علیٰ أخذ المعانی الکلّیة بالملاحظات اللازمة بین الاُمور الخارجیّة، فإذا لاحظت أنّ الوجودات المعلولیّة الصادرة ـ المربوطة بالعلّة ربطاً صدوریّاً ـ هی لاتکون قائمة إلاّ بالعلّة، فمع قطع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 121 النظر عن القیام بها وإن کان هو لیس شیئاً فی نفس الأمر، ولکنّه لایقتضی قصور النفس عن هذا اللحاظ، فتشاهد اشتراک المعالیل ـ بنحو الکلّی ـ فی ربطها بالعلّة، إلاّ أنّ منها ماهی الربط بها بلا وسط، أو مع الوسط، بلا أن یکون قائماً بها قیاماً حلولیّاً، فعندئذٍ تری الفرق بین أنحاء الوجودات:
فمنها : ما هو الواجب عزّ اسمه.
ومنها : ماهو وجود الجواهر.
ومنها : ما هو وجود الأعراض.
فمفاهیم الجواهر مفاهیم مأخوذة من تلک الوجودات، ومصادیقها النفس الأمریّة لیست إلاّ الحروف والربطیّات الصرفة؛ ونفس تلک الوجودات القائمات بالعلل صدوراً.
ومن هذا القبیل المفاهیم فی المعانی الحرفیّة، التی هی الروابط لتلک الموضوعات المربوطة بذاتها، الحالّة فیها، والقائمة بها قیاماً حلولیّاً؛ فإنّ تلک المفاهیم وإن تکن کلّیة واسمیّة، إلاّ أنّ مصادیقها النفس الأمریّة، لیست إلاّ الروابط المخصّصة الفانیات فی محالّها، فکما للعقل أخذ معنی الجوهر من تلک الوجودات، له أخذ مفهوم الابتداء والانتهاء والظرفیّة والملکیّة والغایة والاستثناء وغیر ذلک من هذه الوجودات، وکما لاتکون مصادیق تلک المفاهیم إلاّ الربطیّات الصرفة، کذلک مصادیق هذه المفاهیم.
فلاینبغی الخلط بین مقام الواقع والتکوین، ومقام الوضع واللغات، فما هو الموضوع له أمر، وما هو مصداقه أمر آخر.
وتحت هذا سرّ جواز استعمال تلک المفاهیم الکلّیة مقام الحروف، فیصحّ أن یقال: «مبدأ سیری البصرة، ومنتهاه الکوفة» کما یصحّ جعل لفظةٍ حذاء المعنی المرکّب؛ وهو «السیر من البصرة» مثلاً، أو «الوصول الی الکوفة» وهکذا، فإنّه عندئذٍ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 122 یستغنیٰ عن تلک الأدوات، وما هذا إلاّ لأجل أنّ ماهو الرابط هی تلک المعانی؛ سواء اُلقیت بالحروف، أو الأسماء.
وتوهّم : أنّ هذا من التوسّل إلی الهیئات، ویکون الموضوع له فیها خاصّاً، فاسد کما سیتّضح لک. مع أنّه لو سلّمناه هناک لایلزم الأمر هنا؛ لما نجد أنّ الربط المخصوص بین السیر والبصرة، یمکن حکایته بتلک المفاهیم المتّخذة من تلک الوجودات.
نعم، قد یشکل ذلک بلزوم الاستعمال المجازیّ دائماً؛ لأنّ ماهو الموضوع له غیر ما هو المستعمل فیه.
ولکنّه مندفع : بأنّ ما هو الموضوع له هو الابتداء، ولیس الابتداء ابتداءً إلاّ بالوجود، وإذا کان هو فی الخارج معنی ربطیّاً، فما هو المستعمل فیه والموضوع له واحد، إلاّ أنّ الاختلاف بحسب الموطن، کاختلاف مفاهیم الجواهر ومصادیقها.
وتوهّم : أنّ العناوین الذهنیّة علیٰ قسمین :
أحدهما : ما هی الماهیّات الأصیلة التی ظرف تحقّقها الذهن والخارج معاً.
ثانیهما : ما هی العناوین للمعنونات الخارجیّة، وتکون من قبیل خارج المحمول.
فما کانت کذلک فهی لا خارجیّة لها إلاّ بخارجیّة مبدأ انتزاعها، کالوجود مفهوماً ومصداقاً، ومعانی الابتداء والانتهاء والظرفیة والملکیة ـ وغیر ذلک من المتّخذات العقلیّة ـ کلّها لیست خارجیّة، بل تکون عناوین لما هو الخارج، فلابدّ من خصوص الموضوع له، بل ـ فی اصطلاحنا ـ من جزئیّة الموضوع له؛ للزوم کونه الوجودات، وهی تساوق الجزئیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 123 فی غیر محلّه؛ ضرورة أنّه لو لم یکن حیثیّة الابتداء خارجیّة، لما کانت الحکایة عنها بعنوانها الاسمیّ ـ کقولنا : «مبدأ سیری البصرة» ـ صحیحةً، مع أنّ الوجدان قاضٍ بصحّة ذلک، ولا یکون من الاستعمال المجازیّ، فیعلم منه أنّ ماهو فی الخارج وإن لایأتی فی النفس وبالعکس، إلاّ أنّ مثابته مثابة الجوهر والعرض؛ فإنّ ماهو فی الذهن عرض قائم حالّ بالنفس، جوهر فی الخارج، من غیر لزوم کون الجوهر والعرض معنی واحداً، فافهم وتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 124