المقام الأوّل : فیما تصوّره القوم
وهی علی المشهور ثلاثة؛ توهّماً أنّ الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ممتنع؛ ضرورة أنّ الأمر الموجود فی الذهن والملحوظ الذهنیّ، لایعقل أن یکون مرآةً ووجهاً للعامّ، لأنّ تلک الخصوصیّات تأبیٰ عن ذلک، وتمنع عن سریان الوضع إلی المصادیق المشترکة مع الملحوظ فیما اُرید فی الوضع.
مثلاً : إذا أراد الواضع أن یضع «الإنسان» للحیوان الناطق، فتصوّر زیداً، فلایمکن له جعل اللفظ بإزاء المعنی المشترک؛ وهی الإنسانیّة الموجودة فی زید؛ لأنّ تعریته من تلک الخصوصیّات، خروج عن مفروض البحث، وبقاءه فی اللحاظ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 91 مع تلک الخصوصیّات، مانع عن إمکان إسراء الوضع إلیٰ جمیع المصادیق.
وهکذا إذا أراد أن یضع لفظ «الجسم» حذاء تلک الجسمیّة الموجودة فیه، أو الجوهریّة، وهکذا سائر ما یرید الواضع وضع اللغة حذاءه، فإنّه فی جمیع الفروض إمّا یلزم الوضع العامّ، لا الخاصّ، أو لایتمکّن الواضع من البلوغ إلیٰ أمله ومقصوده، وإن صنع ذلک بتخیّل إمکانه فلایقع علیٰ ماهو؛ لأنّ الممتنع لایصیر ممکناً بالخیال الماخولیائیّ.
ومن الممکن دعویٰ جعل ذلک اللفظ بحذاء زید؛ لأنّه ذو أبعاد ثلاثة، أو بما فیه الجسمیّة، أو لاشتماله علی الجوهریّة وهکذا، فإنّه لا یتعرّیٰ زید إلی الطبیعة والخصوصیّات حال اللحاظ. إلاّ أنّ النتیجة عموم الموضوع له.
وبعبارة اُخریٰ : لا تعریة قبل الوضع ، بل التعریة بالتعلیل بعد الوضع .
ولیس هذا من الوضع الخاصّ، والموضوع له الخاصّ، ولا من المقالة المعروفة: «من أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی العامّة؛ لتنصیص الواضع بالعموم» وسیظهر إن شاء الله تعالیٰ حال تلک المقالة من ذی قبل.
فبالجملة : ما أفاده المحقّق الرشتی قدس سره ـ الذی هو عندی فی الصفّ الأوّل من علماء الغیبة الکبریٰ ، رضوان الله تعالیٰ علیهم ، ـ قابل للتصدیق؛ ضرورة أنّ جعل اللفظ حذاء زید، لیس إلاّ من الوضع الخاصّ؛ وهو لحاظ زید، ثمّ التسریة إلیٰ عموم الموضوع له بالتعلیل، فلا یلزم التجرید والتحلیل، حتّیٰ یکون من الوضع العامّ فیخرج عن موضوع الکلام.
وما قیل علیه فی کلام المدقّق المحشّی الأصفهانیّ رحمه الله : «من أنّ اللحاظ الذی لابدّ منه فی الوضع للکلّی، لحاظ نفسه، ولحاظ الفرد من حیث فردیّته، أو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 92 لحاظ الکلّی الموجود فیه، لا دخل له بلحاظ الکلّی بما هو کلّی» انتهیٰ، غیر تامّ؛ ضرورة أنّ الملحوظ هنا یعلم من التعلیل، واللحاظ لا یتعلّق إلاّ بالخاصّ، فلا یلزم لحاظ الکلّی مستقلاًّ حین لحاظ الخاصّ.
وما أفاده العلمان؛ الاُستاذ الحائریّ، وتلمیذه المحقّق الوالد ـ عفی عنهما غیر تامّ:
أمّا ما فی «الدرر» من المثال المجرّد، فلا یخلو من غرابة وخلط عظیم. فبالجملة ربّما یکون الواضع لاحظاً عنوان العامّ علیٰ نعت الإجمال، وهذا لیس من الوضع الخاصّ.
وأمّا ما فی «تهذیب الاُصول» من امتناع القسم الثالث والرابع بوجه، وإمکانهما بوجه، فهو یتمّ فی الثالث، دون الرابع؛ ضرورة أنّ الواضع المرید إسراءَ الوضع إلی الخصوصیّة المشترکة، یلزم علیه قهراً تحلیل ما فی لحاظه من الخاصّ، وتعریته من الخصوصیّات قهراً وبلا اختیار، فیصیر من الوضع العامّ.
ولایخفیٰ : أنّ الوضع العامّ، کما یمکن أن یتحقّق بالإرادة والتجزئة والتحلیل قبل إرادة الوضع، کذلک یتحقّق فی زمن إرادة التسریة، وإلاّ یکون الملحوظ واللحاظ واحداً، فیلزم خصوص الموضوع والوضع، فلابدّ من حیلة جامعة بین إسراء الوضع إلی العموم وهو الملحوظ، وعدم تعریة اللحاظ وهو الخصوص، وهذا لایمکن إلاّ بالوجه المزبور، من غیر لزوم الالتزام بالمقالة المشهورة بین أرباب المعقول فی بعض الفنون العقلیّة؛ لما اُشیر إلیه.
ثمّ إنّ هاهنا قسماً خامساً : وهو أنّ عموم الموضوع له، معناه العموم بالحمل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 93 الشائع، وهی نفس الطبائع.
ولک لحاظ العموم بالحمل الأوّلی؛ فإنّه حینئذٍ یلزم الاستعمال المجازیّ دائماً، فلا واقع له وإن کان بحسب التصوّر ممکناً. وأمّا فی الخاصّ فما هو الموضوع له هو الخاصّ بعنوانه، انتهیٰ.
ولک نقده : بأنّ ذلک معناه جعل اللفظ حذاء العامّ المجموعیّ، کلفظ «القوم» ونحوه، مع الفرق الآخر؛ وهو أنّ «القوم» موضوع بالوضع العامّ والموضوع له العامّ، وهو موضوع بالوضع والموضوع له الخاصّین، فیکون الأفراد بأسرها أجزاء الموضوع له فی المرکّب الاعتباریّ، واستعمال اللفظة الموضوعة للکلّ فی الجزء من المجاز المرسل، فلایکون قسماً خامساً. أو یکون لحاظ العموم موجباً لکونه أمراً ذهنیّاً، فلایکون الموضوع إلاّ خاصّاً وجزئیّاً ذهنیّاً.
ولیس فی الخاصّ الخصوص بما هو خصوص بالحمل الأوّلی، مورد الوضع واللحاظ، بل اللحاظ تعلّق بالجزئیّ من غیر لحاظ جزئیّته، فلاتغفل.
إن قلت : لایعقل عموم الوضع؛ أی لحاظٌ متعلّق بأمر کلّی، لأنّ اللحاظ معنی حرفیّ قائم بالأمر الجزئیّ؛ وهو النفس، وطرفه لابدّ وأن یکون جزئیّاً، ففی جمیع المواقف یکون اللحاظ خاصّاً، ولو تمّ امتناع الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، یلزم امتناع عموم الموضوع له رأساً.
قلت أوّلاً : بالنقض، فیلزم امتناعه علیٰ کلّ حال؛ لأنّ الملحوظ أیضاً موجود فی النفس، فیکون جزئیّاً.
وثانیاً : بالحلّ علیٰ ما فی الکتب العقلیّة تفصیله، وإجماله هنا؛ وهو أنّ الموجودات الذهنیّة لیست جزئیّة حقیقیّة مادام لم یلحق بها أنحاء الوجودات التی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 94 تختصّ بها، المورثة لبروز آثارها، وأمّا ظلّ النفس فهو متعلّق بنفس الطبیعة، ولا یعقل تعلّقه بالموجود الذهنیّ؛ للزوم التسلسل أو الدور.
نعم، بعد تعلّقه بنفس الطبیعة، تکون الطبیعة ذهنیّة فی النظر الثانویّ.
وإن شئت قلت : کما إنّ الوجود فی العین متعلّقه نفس الماهیّة، لا بما هی خارجیّة، بل تصیر خارجیّة بذلک الوجود، کذلک هی فی الذهن، إلاّ أنّ التعریة من إشراق النفس، تؤدّی إلیٰ إمکان الحکم علی الطبیعة بما هی هی، ولایمکن التحلیل فی الخارج؛ لأنّ الطبیعة فیها معروض الوجود المخصوص بها، فلاتخلط.
وللمسألة مقام آخر، وحولها «إن قلت قلتات» کثیرة، وقد تعرّضنا فی «القواعد الحکمیة» لبیان الفرق بین الطبیعة الذهنیّة والطبیعة الخارجیّة؛ بما لا غبار علیه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 95